اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > رحيل صاحب الإشارات والمعاني في السينما بيتر وولن: إرث معرفي وتلويحة إلى العراق وفلسطين

رحيل صاحب الإشارات والمعاني في السينما بيتر وولن: إرث معرفي وتلويحة إلى العراق وفلسطين

نشر في: 26 فبراير, 2020: 07:29 م

لندن- من فيصل عبد الله

-دعت قبل أيام عائلة المُنظر والكاتب الموسوعي والمخرج السينمائي البريطاني بيتر وولن، (29 حزيران/يونيو-17 كانون الأول/ديسمبر 2019)،

طيفاً واسعاً من الأكاديميين والفنانين ونقاد السينما، وممن عمل معه أو زامله خلال حياته، ومجموعة كبيرة من أصدقائه الى حفل استذكار بمناسبة أربعين يوماً على رحيله. لم يكن الحفل حفلاُ استذكارياً عادياً، بل كان أقرب الى الإحتفاء بسيرة مثقف بارز سجل حضوره وبفخر في تاريخ الدراسات السينمائية والفنية عبر كتابه الأشهر "الإشارات والمعاني في السينما"(1969)، والذي عُد "إنجيل" الدراسات السينمائية النقدية، كما وصفته صحيفة النيويورك تايمز عند رثائها له. وكادت كلمات وداع من تناوب على منصة الاحتفال تغطية أغلب مراحل وولن الحيايتة والعملية، من عائلة وجدت في حزب العمال صوتها السياسي، ومراحل دراسته الأولية حيث كُتب في أحد تقاريرها الدورية من "إنه سيصبح مثقفاً خطيراُ" وتعليقه عليه قائلاً "وهو فعلاً ما أريد أن أكون عليه"، ثم دراسته للأدب الإنكليزي في جامعة أكسفورد إبان منتصف خمسينيات القرن الماضي وعلاقته بالسينما، خصوصاً الفرنسية منها، ورحلاته الى بلدان منطقة الشرق الأوسط، عُرض شريط يجمع تواريخ وأختام وسمات دخوله إليها، وبرفقته كتيب صغير بقلم الراحل عنوانه "المطارات: ذكريات شخصية"، وفيه سجل أنطباعاته الشحصية أثناء فترات الإنتظار في أكثر من مائة مطار حط بها حول العالم، عبارة عن اقتباسات من كتاب "هنا، هناك، في مكان ما: حوارات عن الأمكنة والحركة" تحرير ديفيد بلامي (2002). فيما ذكر شقيقه مفارقة طريفة تتعلق بفشله في اقناع اللجنة الطبية لإعفائه من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية ما دفعه للهرب والسفر الى باريس ومن ثم الى العاصمة الإيرانية طهران للتدريس في احدى جامعاتها. لكنه فوجئ ذات يوم، وهو الطريدة، باستلام دعوة من سفارة بلده لحضور حفل إستقبال للملكة إليزابيث خلال زياتها التاريخية لذلك البلد. وكانت كلمات أبنته الشابة أودري، من زوجته الثانية الكاتبة والفنانة الأمريكية ليزلي ديك، بمثابة خاتمة وداع مؤثرة، إذ إستعادت فيها مفردة محببة كان والدها يمازحها بها وهي طفلة وقلبتها عبر ترديد "بيتر، بيتر، بيتر" بدلاً عن اسمها وكأنها تستعيد صوت ما عادت تسمعه.

-شغل كتابه "الإشارات والمعاني في السينما" حقل الدراسات النقدية حال صدوره، صدر بأكثر من طبعة، وأعتبر فتحاً جديداً في أسلوب الكتابة النظرية. إذ عبر من خلال فصوله الثلاثة عن الحاجة الى إعادة النظر ببناء الفيلم السينمائي ومحمولاته من الرموز والإشارات المضمرة. وخص في فصله الأول المخرج والمنُظر الروسي سيرجي إيزنشتاين وتأثيراته، وفيه ساجل بحماسة وعبر دراسة رصينة ومنصفة لاشتغالاته من خلال إدراجها ضمن نتاجات الفنانين الطليعيين الروس في أوائل الحقبة السوفيتية، وإنقاذه من وصمة الدعاية السياسية لستالين. و "نظرية المؤلف" التي جاء بها النقاد الفرنسيون والأمريكان، و "سيميولوجيا السينما" أو اللغة السينمائية. ساجل وولن ما جاءت به نظريات الألسنيون الفرنسيون مثل رولان بارت وكريستيان ميتز من نماذج في هذا السياق، ولكنه انتصر الى آراء الفليسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس التي تعتمد على تحليل ثلاثي النظرة لسردية الفيلم، وعبر الربط بين الإشارة-الأيقونة، التماثل الظاهري- كفهرس، والتقاليد المتبعة، مثل صليب المسيح، لها معنى الرموز. ذلك أن جماليات السينما بالنسبة الى وولن وغناها تكمن في مزج العناصر أعلاه، ما قاده الى إعلاء شأن بلاغة الموسيقى الأمريكية، وتفضيله لرمزية ميلودراما دوغلاس الفرنسي جان-لوك غودار كونها خلطة تجمع "هوليوود بكانط الى هيغل". لكن تجربته في صناعة السينما جاءت متأخرة قليلاً، إذ عمل أولاً على سيناريو كتبه مارك بيبلو لشريط "المسافر" (1975)، أخر أعمال المعلم الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني ومن بطولة جاك نيكلسون وماريا شنايدر. وبعدها، ومن خلال تعاونه مع زوجته الأولى المُنظرة والأسم البارز في الحركة النسوية لورا مليفي أنجزا عدداً من التحقيقات السينمائية مثل "بينثيسليا: ملكة الأمازون" (1974)، "ألغاز أبو الهول"(1977) و "تحديقة الكريستال"(1982). وأمتد تعاونهما الفني وليشمل تنظيمهما، وللمرة الأولى في بريطانيا، معرض الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو في غاليري"وايت تشابل"، وفي الوقت ذاته والى جنبها إشتغالات المصورة الفوتوغرافية الإيطالية تينا مودوتي(1982). أما شريطه "موت صداقة" (1987) انتاج القناة البريطانية الرابعة، مقتبس من تجربة حقيقية عاشها المخرج أثناء مجازر أيلول/سبتمبر الأسود 1970 في عمان، ومن بطولة الممثلة تيلدا سونتون في أول ظهور سينمائي لها، والذي أدت فيه دور روبوت فضائي في مهمة سلام، لكنها تظل طريقها ما يضطرها للهبوط على الأرض ولتدخل في حوارات طويلة مع أحد الصحفيين المحاصرين في أحد فنادق العاصمة الأردنية. 

-دَرسّ بيتر وولن في جامعة اسكيس البريطانية خلال سبيعنيات القرن الماضي قبل انتقاله الى الجانب الغربي من الكرة الأرضية، وكانت المخرجة كاثرين بيغلو واحدة من تلامذته في جامعة كولومبيا-نيويورك، إذ تحت تأثيره تركت الرسم وامتهنت السينما. عن هذه النقالة تقول بيغلو "لغاية لقائي به كنت أنظر لانعكاسات الأضواء على الشاشة. بعدها بدت وكأنها شباك". ثم شغل منصب رئيس قسم دراسات السينما والفن ووسائل التواصل في جامعة كاليفورنيا/لوس أنجلوس منذ عام 1988 ولغاية إصابته بمرض الألزهايمر في عام 2005. جمع بيتر وولن مقالاته في أكثر من عمل "باريس هوليوود: كتابات عن السينما"(2002)، "باريس مانهاتن: مقالات عن الفن" (2004)، "عرض المرئي: الثقافة بعيداً عن المظاهر"(1998)، وكتب مجموعة سير لأبرز المخرجين الأوربيين مثل روبرتو روزليني، جوزف فون ستيرنبيرغ، ألفريد هيتشكوك وجون فوندا لمجلة اليسار الجديد التي أرتبط بمعرفة محريرها منذ أيام الدراسة في جامعة أكسفورد.

-كنت أسترجع سيلاً من ذكريات بدت تترائ صورها لي بعيدة وأنا أستمع الى ما قيل وأثناء اعداد هذه التحية. ذلك ان المداخل الى عوالم بيتر وولن النقدية في السينما كما في الفن متعددة. قصتي معه مختلفة قليلاً. لذا رحت أسترجع تلك اللحظات من زمن اللقى السعيدة، أن استعرت من الأبخازي فاضل إسكندر عنوان أقصوصته الصغيرة، حين قادتني خطاي ذات يوم الى عنوان دون معرفة أسماء ساكنيه. كان الظفر بتأمين سكن في مدينة تستثني الغرباء، مثل لندن، هو هاجسي الأول وشاغلي اليومي، أما السؤال عن أسماء اصحاب البيت فقد تركته لعامل الزمن كي يتكفل بتقديم اجاباته لطبائع البشر ومفاجآته السار منها او المزعج ولو بعد حين. قدرت وقتها ان المسافة ليست بالبعيدة. خمسة عشر دقيقة مشياً على الأقدام، حسب دليل "أيه تو زد"، "غوغل" الورقي وقتها، لشبكة طرق لندن المعقدة ورموزها البريدية. كتبت "مي" العنوان سريعاً ودّسته بيدي مع كلمات مفتاحية لما ينبغي أن يقال في المقابلة. كان ذلك في خريف النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وفي يوم نثرت الشمس عبر مواشير أشعتها بهجة إنعكست على وجنات المارة وأوراق الأشجار المتساقطة او تلك المعلقة بصبغات تدرجاتها اللونية المتراوحة بين الأحمر والأصفر. تنبهت في منتصف الطريق الى ما سقط من يدي سهواً، قاموس إنكليزي/عربي عديم الفائدة حملته معي عن طريق الخطأ، وعليّ تدبر الأمر بأقل الكلمات الممكنة لتأمين ما جئت من أجله. كنت أردد مع نفسي منولوغ قصتي التي أعرفها جيداً؛ بدأت في بلد ما وبضربة قدر صارت لي حياة أخرى بعد أن أقتفيت حظي العاثر، مثل غيري، الى أماكن قصية وبلدان عديدة. ما أستحضرته حقاً كان يدور حول مقولة الكاتب المسرحي الألماني بريخت "من أنه غير من البلدان أكثر مما غير من أحذيته"، ما منحني جرعة معنوية مستحقة لاجتياز الامتحان.

-الإنطباعات الأولية كانت مشجعة للغاية. عائلة إنكليزية مثقفة ومتفتحة. رفوف عامرة تكاد تغطي أغلب جدران طوابق البيت الثلاثة بالكتب. أما السرداب المفترض أن أسكنه بدا وكأنه أقرب الى مكان مهجور منذ زمن طويل. بقايا قصاصات أوراق منضدة على الآلة الطابعة، بضعة كتب متناثرة، من بينها عنوان لفت إنتباهي في موضوعه وقربه لي. كنت أردد مع نفسي وأتساءل ماذا يفعل كتاب "العراق في ظل حكم الجنرال نوري- مذكراتي عن نوري السعيد 1954-1958" للسفير الأمريكي في بغداد ووالديمار جي. غالمان عند هذه العائلة الإنكليزية القحة؟ أجلت السؤال الى فترة لم تطل. بعد أيام عثرت على لقية نادرة مثلت لي درساً معرفياً في تاريخ الفن التشكيلي، وهي عبارة عن خزانة تضم مئات البطاقات البريدية الفنية لأهم أعمال الفنانين الأوربيين منذ عصر النهضة وانتهاءاً بفن البوستر وصولاً الى الأمريكي أندي وورهول. ما استوقفني حقاً ليس تنوع خيارات هذه الأعمال، وجميعها تنم عن ذائقة فنية واضحة، بل وجود مطبوعة سرية باللغة العربية وسطها ومكرسة أغلب صفحاتها الأربع لمناضل عراقي شاب استشهد نتيجة إفراطه بالحلم الثوري عبر الكفاح المسلح. ياإلهي صحت! فقد هالني ما وجدت، وما كان عليّ سوى ربط خيوط ألغاز لقى السرداب ببعضها من أجل إكتمال الصورة. إذ توصلت بعد حين الى ان بيتر وولن كان يشغل السرداب الذي أقيم فيه. وعرفت أيضاً ان كتاب السفير غالمان كان من ضمن سلسلة كتب، تشمل السياسة والتاريخ والفن، كان وولن يستعرضها للصحافة، في النصف الأول من ستينيات القرن المنصرم، ويوقعها باسم لي راسل، وحجته كما يقول في احدى مقابلاته الصحافية "حين تكتب في مواضيع متعددة وباسمك الصريح سوف لا أحد يأخذه على محمل الجد". أما قصة المطبوعة العربية فتعود الى فترة أجواء المد الثوري الذي شهده عقد الستينيات، وقتها عمل وولن لفترة قصيرة في "مؤسسة برتراند راسل للسلام"، وهناك تعرف على شاب عراقي يعمل فيها، إلا أن الأخير قرر العودة الى بلده وفي لحظة عصيبة. حين علم بيتر بالنهاية المأسوية لصديقه من خلال ذلك المنشور السري قرر تسمية بِكره تيمناً ووفاء لاسم ذلك الشهيد. ومع ذلك لم ألتق بيتر وولن إلا بعد مشاهدة شريطه "موت صداقة" (1988) ضمن عروض مهرجان لندن السينمائي. ومنذ ذلك الحين وأثناء زياراته المتباعدة الى لندن وسمح الوقت بلقائه كان يذكرني بمقولته الأثيرة "كل مانريده سلام عادل".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

18-04-2024

20 يوماً في ماريوبول": شهادة بصرية صادمة

قيس قاسميَحمل المخرج والمراسل الحربي مستيسلاف تشَرنوف (1985)، خامات ما صوَّره ووثّقه في 20 يوماً، في مدينة "ماريوبول" الأوكرانية، إلى زميلته ميشال ميزنير، طالباً منها أنْ تصنع فيلماً وثائقياً من تلك الخامات.هكذا ربما يتصوّر من يُشاهد "20 يوماً في ماريوبول" (2023)، الفائز بـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي طويل (النسخة 96، 10 مارس/ آذار 2024)، ويتخيّل أيضاً […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram