من قصص تشرين .. الـــبــــــرج

من قصص تشرين .. الـــبــــــرج

محمد خضير

-1-

لا معنى لأن يكون البرج مكاناً عصياً على الاختراق. مضى زمن الأبراج الحصينة، وأصبحت بغداد مدينة الأبراج المستباحة.

ساعاتُها الواقفة على وقتها الثابت منذ سقوطها الاخير، عطّلت الإحساسَ المتزحزح تحت ضربات المطارق والمعاول والأقدام، فانتشرت المتاريس والخِيام وعربات التوك توك الصغيرة وفصلت برجَنا عما حوله من أبراج الوقت الحاضر. غدا الكرّ والفرّ، الاعتصام والمزاولة، العطش والجوع، عمليات متوالية في صياغة الروح المطاوِلة لسكانه المتبدلين. بينما أحكمَ دجلة الالتفافَ حول طوابقه الأربعة عشر كأفعى خالدة.

تعرض البرج المتوسط ساحة التحرير الى غزوات متتالية، مثل غيره، واستقرّ أخيراً بيد "العدميين"، وهم فصيل بوهيميّ يتمتع بقدرة هائلة على التماهي مع حركة الساحة المحيطة بالبرج والعمل على توسيع قاعدته ومراسلة الجموع المساندة وتزويدهم بالشعارات. كان العدميّون أقدر السكان الثائرين على تشبيك الفضاء التفاعلي للبرج ومقاومة الغزوات الطارئة على فصيلهم، وخاصة غزوة سائقي عربات التوك توك الصغيرة، وموجة القبّعات الزُرق، وإغراء ملائكة الزنبق، وتظاهرة الأمّهات النادبات. لم يستطع هؤلاء جميعاً من التسلل للشبكة الداخلية للبرج، واعتراض الرسائل والنصوص المشفَّرة، لكن العدميين استعانوا بهم أحياناً وأدخلوهم شبكتهم، عبر مفاوضات شاقة.

بلا ضجة أو ارتباك كان العدميّون يصِلون هذه العقدة الشاهقة بعُقد بغداد المشابهة لها في الارتفاع والتفاعل الشبكي. استمرت سيطرتهم شهرأ كاملاً، حتى أدركتهم موجة البرد وسقوط الثلوج في أيام شباط العشرة الأولى. انسلّوا كالمناجذ وغابوا ولم تلحظ فرقةُ الهجوم السوداء هذا الانسحاب التكتيكي حين استولت على البرج بمساعدة سائقي التوك توك. لم يكن الانقلاب مفاجئاً، لكنه سجّل انحطاطاً في الشعور العام للثائرين، ونكسةً تُقارن بنكسة كومونةٍ في قرون صعود البروليتاريا. كان الانتقال الى برج آخر مهمة مدروسة بعناية، لبدء مرحلة عدميّة جديدة، تحرّك ساعات بغداد الواقفة، وتسمح لرسائل السُّعاة الجريان مع أفعى النهر.

بدأ تحقيق الفرقة السوداء مع عدميّ مقبوض، أنهكه المرض، فتخلّف عن المنسحبين، وواجه نقمة الغازين الجدد بِجَلَدٍ وسخرية. أجاب محققَ الفرقة السوداء الغاضب عن عدد جماعته: "ليسوا أكثر من مناجذ قصر شعشوع".

كانت الإجابة غامضة دعَت المحقّقَ الجهم الى الأمر بصلب العدميّ الكسيح، وتدلية جسده من حافة الطابق الأخير بمواجهة سائقي التوك توك الغاضبين في الساحة، فأعلن هؤلاء تأييدهم الانقلاب بإصدار نغمات أبواق عرباتهم المرعِدة. ضجّت الأبواق وهاجت طيور الأبراج القريبة لسماعها، وأُرّخ يوم انسحاب العدميين من البرج الكبير بيوم الزرازير. رأى العدميُّ المصلوب سحابةً هائلة من الأجنحة، تعبر قمة البرج، وتغطّيه بالريش والفضلات. بقيت جثته أياماً قبل أن تختفي فجأة، وتبدأ السحابة بالمطر الغزير.

- ٢ -

في الأيام التالية للاستيلاء على البرج، قبضت الفرقة السوداء على عدميّ آخر، ظهر أنها فتاة ضلّت طريقها في أحد الأنفاق، غطّت جسدها بثلاث طبقات من الثياب. لم يستطيعوا لمس جسدها. كانت أبعد من غرائزهم المستعدة للانقضاض. قالت إنها تتبع سهماً مرسوماً يؤدي بها الى جامعتها، حيث تدرس في قسم الحاسبات بكلية العلوم، عندما زلّت قدمها في قبو جانبي صغير، واستقرّت فيه. نعم نحن في عصر الأسهم المتضادة. سُئِلت: أيوجد آخرون غيرك في أعماق البرج؟ لا تعلم. وأضافت: أشاهدتم النملَ الذي أكلَ الجثة المعلقة؟ قالوا إن عقلها يعاني شتاتاً كبيراً. واحدة من مناجذ بغداد الحفّارات. كلا. كلا أيها السادة. ألم تظهر سحابة الجراد على حواسيبكم؟ هاهاها. زرقاء يمامة جديدة! هبّ الجراد بعد البَرَد البلوري، وغطّى البرج وأغطيته الخارجية، أكلَ الجثة المصلوبة. حاول الضابط الأسود، المتنكر مثلها بثلاث طبقات من الثياب، أن ينزع كمامتها. صرخت: اسحب يدك. اضغط بإصبعكَ على شاشة حاسوبك وخاطب الجراد. اسحبه يا أخي. اذهب الى السحابة واغرز أصابعك في لحمها.

نُقِلت الفتاة العدميّة الى طابق الاسعافات، في مرآب البرج، وغُرِزت إبرة في وريدها المتوهج بالرؤى الزرق. لم تقاوم الغرزات المتوالية في ذراعها، فتحللت الى ذرات واختفت من غرفة الاسعاف. قال الطبيب الأسود: أكلَها النمل كجثة صاحبها. سخر الضبّاط السُّود من هذيانه: عدوى قاتلة أخرى. طردوا الطبيب، لأنه كرّر حلم الفتاة العدميّة على أسماعهم: راجعوا حواسيبكم. اتبعوا سحابة البرج، وحللوا لغة الأسهم.. كوفيدو ١٩.. هذيان أشدّ فتكاً من فيروس تاجيّ مستحدَث.. كتبوا في تقريرهم وأرّخوه باليوم العاشر من احتلال البرج. يوم النمل.

- ٣ -

يحتوي البرج، في أحد طوابقه، على مركز كبير لتحليل بيانات الساحة المحيطة، واعتراض سحابة التخاطرات الفيروسية الملولَبة كسهم متعدّد الشُعب، ذكر التقرير الأسود أنه أشبه بفالة صيّادي السّمك في الأهوار: سهم سريع النفاذ في الطبقات الخرسانية الشامخة.

توالت الانذارات من اقتراب غزوةٍ جديدة مموّلة من منطقة السفارات الأجنبية. واختلّت شاشات مركز المراقبة في الطابق الثامن إزاء سحابة "الكورونات" الغازية. آخر عبارة في تقرير الإخلاء أشارت إلى "الطفرات الثورية" لأرواح تسكن البرج "وتنشد أغنية متشائمة، تتكرر لازمتُها اللحنية طيلة الليل". بعد ليال عاصفة بالمطر وأبواق العربات وأغاني الأرواح المعذّبة، أخلت الفرقة السوداء طوابق البرج ولواحقه، وخلّفت وراءها فوضى لا مثيل لها. والحقيقة أن البرج الفارغ، منذ قصفه بطائرات التحالف الدولي، قبل دخولها بغداد، كان يجدد بنيانه الخرسانيّ بأغطية وسحائب مشعّة، وهذيانات جماعية، وقمامة خليطة، بعد كل غزوة جديدة. أما ما تركته الفرقةُ السوداء بعد انسحابها، فهو أسوأ التركات والهذيانات قاطبة: جثثاً وفضلات وأوراقاً وسلالم مخرّبة وأنفاقاً مظلمة تستعمرها زواحف وقوارض من كل نوع..

ملاحق

فقرة من تقرير الفرقة السوداء:

".. ترك العدميّون بعد انسحابهم أسمالاً وفضلات كثيرة، لطّخوا طبقات البرج الداخلية برموز غريبة من نشاطهم الليلي، أغربها هاشتاجات ملغّزة باعثة على الغثيان. غير أن ما تحرّينا عنه شيء آخر، طريقة فرارهم، فاكتشفنا شبكةَ أنفاقٍ تبدأ من مرأب السيارات السفلي، كانت سبيلهم للتموين والاتصال مع قواعدهم، حفروها طيلة ليالٍ بدأب عجيب.. أمركم بالتوغل في العالم الأسفل حتى نهايته، إذا كانت لهؤلاء نهاية يسكنون فيها.. أبناء الحفر والبلاليع..."

فقرة أخرى من التقرير:

"... توصلنا الى أن قسماً من سائقي التوك توك عملَ مع المناجذ والسحالي السفليين. كان بعض اولئك المتحللين من أي ارتباط شديد التلّون والزحف تحت الارض ونقل الممنوعات فضلاً عن الجرحى للمستشفيات المتعاونة مع العدميين. أمركم بقلع التوكتوكيين المتعاونين.. نعني ما يتعلّق بأصلهم الفاسد، وجذرهم المجهول..."

رسالة من عدميّ: 

عزيزتي نعماء، 

أتوقع أنك ستبلغين الخامسة والثمانين مع فالنتين شباط هذا العام، من تاريخنا المهشم كزهرية رقيقة.. وأن أكاليل الدفلى المقتطفة من حدائق العراق كلّها ستُضفر طوقاً لهامتك البيضاء كالثلج.. لكنها ضئيلة بما لا تُقاس بإكليلٍ من حديقة زارا الضائعة.. حديقة حبّنا.. أحبّك، لكني لا أجرؤ على لفظ اسمك المنعَّم بالأصداف البركانية.. أنت بُركاني. البرج يا عذابي..

عزيزتي السمراء الوردية:

هل يزعجك هذا الوصف النيتشويّ المعذب، يا حلزونتي الدهرية؟..لا؟ نعم؟ يا عذابي؟.. لن أفلح في إرضائك، فالوقت يداهمنا، والجيوش البشعة تحاصرنا بهراواتها، وأنتِ تهرمين يا حبيبتي كرُمّانة معلّقة في غصنها في حديقة بلا عنوان.. قد تكون رسالتي هذه الأخيرة يا غاليتي. أيتها العجوز.. الدفلى الدافئة الناعمة.. احفظي علامتي الجديدة: # البرج الأحمر..

رسالة الى بائع كتب:

صديقي نيتشه الصغير..

كم أتوق الى حديثك المنبعث من كفشة ماركس البروليتارية!. أناشدك أن ترعى حروفي الراعشة بعد أن دنت موجة اكتساح البرج الوشيك. فناري، نجمة الصبح التي أرقبُها الآن من قمة الطابق الأخير تؤذن بالوقوع على الورقة فتضع نهاية سطرها المقرمش.. 

صديقي يا شريد المكتبات. كم يلذّ لي أن أمزق آخرَ كتابٍ ورقيّ في العالم بيديّ. وقد يكون هذا كتاب ابن الراوندي أو نبوءات الخيميائي يوسيفوس أو واحدة من روايات اليهودي عاموس الرواقية.. إلى المزبلة كتب العصر الورقيّ المزيّف بأجمعها.. ليبزغ فجر الكلمة السيبرانية الجامعة رؤيا الحدائق.. حدائق الوجد والذوبان في كوب من عصير الدفلى المرة!

أحسُّ بدنوّ الأجل، تسليم ميراثنا السرّي لعبدة التاج الفوسفوري البشع، وسيتداولونه باحتقار ثم ينسفونه في لحظة سعار طقسي ماسوشية. يا للنهاية العظيمة! إنّهم يعجّلون ببزوغ النجمة الحمراء في قبعة جيفارا. يا للبؤس الجيفاري القادم! كم هي تائهة، أبجدية هذه الرسائل العاطلة!

أخيرا دعني أعلمك برمزي الجديد: دفلى الربيع الأسود.

وعجّل بإحراق رسائلي اليك كلها.

من تقرير الفرقة السوداء:

"... بخصوص الرسائل الورقية المنقولة عبر الأنفاق: أُرسِلت إلى أكثر من عنوان في بغداد بتوقيعات مختلفة تطابق الهاشتاجات المخطوطة على جدران البرج الداخلية: حلاقة الدفلى، انتيكات زوزة، معرض زهور النرجس، كبّة الموصل، ساعات الوقت الضائع، مكتبة نيتشه الصغير، قهوة الخفافين.. الشيء المحيّر في الرسائل أنها مُرسلة إلى شخصيات متوفّاة منذ زمن بعيد، وبعضها مُرسل الى نساء متقدمات في السنّ. إلا أننا نعتقد أن الأسلوب الشفري للرسائل يعكس الظنّ تماماً بأسماء من أُرسِلت إليهم. فالرجال ما زالوا في ريعان الشباب، وهم معروفون لدينا. والنساء الهرِمات في حقيقتهن فتيات صغيرات رصدنا مواقعهنّ على الإنترنت. أما التوريات والتشبيهات فليست إلا قنابل موقوتة يُقصد منها هزّ اطمئنان بغداد ومن يسكنها من شخصيات ونواب وسفراء، وتأليب الدهماء على الثورة.. نحذّر من هذا المكر العدمي المركب، واللعب بأدوار الجوكر المزدوج الهوية.. حذار ثم حذار.."

تعليق استخباري مصدره البرج:

"يا إلهي.. معلوماتنا خاطئة من القمة حتى الأساس.. لغتنا خردة.. عملاؤنا فوضويون ومزدوجون.. عدوى قاتلة. حواسيبنا تعمل كما لو أنها مصابة بفيروس قاتل. حسناً. بلا مبالغة، إنها لعنة الدفلى".

ملاحظة الراوي:

"يحيل الراوي، شبه العليم، هذه القصة، إلى من يعلم أكثر من علمه، فلربما استطاع غيره ملأ فراغات النص، وتقريب الرؤى، وحلّ التضاد، ورفع الشبهة عما استغلق واستبهم عليه.."

20 شباط 2020

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top