مُفاجأة مُذهلة .. فضائح الإعلام الأمريكيّ

مُفاجأة مُذهلة .. فضائح الإعلام الأمريكيّ

عبد المنعم أديب

أفلام الأحداث الحقيقيَّة تكون -في الغالب- تحت احتماليْن في تناول هذه الأحداث: هناك مَنْ يعرض الحدث؛ ويعتبر نقل الأمر بدقَّة غاية فنِّه وهدفه،

وهناك مَن يستغلُّ الحدث ليُقدِّم أمرًا آخر من خلاله؛ ليُعلمك شيئاً أو أشياء لمْ تكنْ تعرفها -مثلاً-، أو ليكشف لك ما لمْ تكن تدريه، أو ليبرز المعاني الخفيَّة التي كانت في الحدث لكنَّها تحتاج إلى تأمُّل وتفكير، أو ليُقدِّم لك طريقة فنيَّة مُميَّزة في طرح حدثه. وفيلم " Bombshell " اختار النوع الثاني؛ فقد عرض أحداثاً وقعت بالفعل، مُستغلاً هذا الإطار ليكشف لنا بعضاً من أسرار ما خلف الشاشات في الوكالات الإعلاميَّة الضخمة بـ"الولايات المتحدة الأمريكيَّة".

الفيلم الذي يعني "قنبلة" أو "مُفاجأة مذهلة" صدر في أواخر عام 2019. من إخراج المخرج المُتمرِّس في أفلام الأحداث الحقيقيَّة جاي روتش، الذي تعاون مع المؤلف الذي كتب لهذا النوع مرَّات كارلس راندولف. وهو من بطولة تشارلز ثيرون، نيكول كيدمان، مارجو روبي، جون ليثجو. وقد حصد جائزة "أوسكار" للتزيين وتصفيف الشعر. الفيلم من تصنيف سيرة، دراما حسب التصنيف الرسميّ.

والمُفاجأة المُذهلة أو قنبلة الموسم هو الحدث الذي أذاعته وكالات الأنباء العالميَّة؛ ففي يوم من أيام شهر يوليو 2016 فوجئ الوسط الإعلاميّ بإقالة الرئيس التنفيذيّ لإحدى أكبر الشبكات الإعلاميَّة في أمريكا روجر إيلس مدير "فوكس الإخباريَّة" التابعة للكيان الضخم المُسمَّى "فوكس القرن الحادي والعشرين". وكان هذا الخبر نهاية لسلسلة من الأخبار التي اهتمَّت بها الصحف؛ أمَّا البداية فكانت بمذيعة فوكس وملكة جمال أمريكا جريتشن كارلسون التي طردها روجر قبل شهور، فقامت برفع دعوى تتهمه فيها بالتحرُّش الجنسيّ بها، وأنَّ طردها تمَّ إثر رفضها إقامة علاقة جنسيَّة معه. اهتزَّت الأوساط لهذا الخبر؛ فالرجل ذو سُمعة طيبة، يُعرف عنه أنَّه داهية شديد المكر، ساعد الكثير من كبار السياسيين، واستطاع أن ينقل شبكة فوكس لمصاف الوكالات الإعلاميَّة في مدة إدارته الطويلة، وهو محلّ ثقة من وسط عمله. فكيف تنقلب الدنيا رأسًا على عقب؟!

اعتقد الجميع في البداية أنّ جريتشن تحرث في البحر كما يقولون، وأنَّها لن تصل لشيء من مقاضاة المدير. كما أنَّ الأمر لا يمكن إلا أن يكون ردّ فعل انتقاميّ من طردها. لكن سرعان ما تغيَّر الأمر؛ لنرى فوكس تحقق بشأن الأمر، وتستمر المفاوضات مع المذيعة في محاولة لإثنائها عن الدعوى. ثم ينزل روجر إيلس من على عرشه. ليؤكد للرأي العامّ صحة ما رددتْه الإشاعات لشهور. ولتقع بعدها مجموعة من الحوادث تكمل هدم عروش فوكس، وصورة الإعلام الأمريكيّ داخليًّا. ففي إبريل 2017 يُقال مقدم البرامج الأبرز "بيل أورايلي" في اتهام بالتحرُّش الجنسيّ، وطلب الرشاوى الجنسيَّة من العاملات معه كي يستمرّ عملهنّ. ثم في يوليو العام نفسه يُقال مدير البرامج في القناة للسبب نفسه، ثم في سبتمبر يقال المذيع "إيريك بولينج". استمرَّت هذه الحوادث في الظهور للرأي العام حتى الآن؛ ففي ديسمبر 2019 رفعت المذيعة "بريت مكنري" دعوى ضدّ فوكس بسبب الانتهاك والتحرش الجنسيّ من زميل مُذيع.

هذه الشبكة الإعلاميَّة يمتلكها الملياردير اليهوديّ (الفيلم هو الذي أصرَّ على إظهار ديانته) روبرت مردوخ. والشبكة تعدُّ من الشبكات المُحافظة في أمريكا؛ أيْ أنَّها تتبع اليمين المحافظ، أو ما يُسمَّى بالاتجاه التقليديّ. ويُخلِص هذا الاتجاه لخصوصيَّة الثقافة والحضارة الغربيَّة، والقيم الدينيَّة المسيحيَّة، ويتحفَّظ بشدة تجاه الآخر كفكرة وككيان؛ فمثلاً يُظهر كراهية واضحة للعرب والمسلمين، ويحرِّض ضد الفلسطينيين بشدة، ولا يرى لهم حقًّاً. لأنَّه ذو خلفيَّة راديكاليَّة متشددة في إخلاصها لهويتها الدينيَّة والحضاريَّة، مُؤمنة بأفكار مثل "هرمجدون" (التي ذكرت في الفيلم صراحةً). وبالعموم مثل هذه الاتجاهات تكون محافظة أخلاقيًّا أيضًا، ويُنتظر منها الإخلاص لأخلاقيات الكتاب المقدَّس.

وفي ضوء كل ما سبق علينا أنْ نتخيَّل تداعيات ظهور هذه الفضائح المتوالية على الشبكة، وعلى صورة الإعلام الأمريكيّ داخليًّاً وخارجيًّاً. وسيزيد الأمر وضوحاً أن نضع في اعتبارنا أنَّ "الإعلام" هو الآلة التي تخبرنا عن حياتنا، وتناقشنا في أدقّ مسائل حياتنا وأعمِّها. فإذا ما أصاب الصورة الذهنيَّة للإعلام شيء مُخلّ فتأثيره سيكون كارثيًّاً على المتلقين، وسيضرب مصداقيَّة العمل والعلاقة بينه وبين المشاهدين في الصميم.

ما سبق هو الأحداث الحقيقيَّة التي نبع منها سيناريو الفيلم. فهل اكتفى بتقديم الأحداث؟ .. كما قلنا اختار الفيلم سياق الأحداث ليُدخلنا "المطبخ الإعلاميّ" أو المصنع داخليًّا. عرَّفنا أولاً بتروسه التي تدور لتصنع هذه المظاهر على الشاشة التي تطالعك، ووصف غرف الأخبار أنَّها ما تحت المدينة أو أساس المدينة. يقصد بهذا تأثير الإعلام ودوره في صناعة كل شيء. لكنَّ الأهم من بعض الأشياء التي سيراها المشاهد في الفيلم هو كشف المعاني التي أراد الفيلم كشفها.

طالما سمعنا عن حريَّة أمريكا، وحريَّة الإعلام الأمريكيّ، ومدى ما يتمتع به من قدرات على التعبير دون سقف أو حدود. وهذا ما ينقضه الفيلم بما قدمه من تصوُّر. فمن حيث حريَّة التعبير نرى الفيلم يقول صراحةً إنّ روجر إيلس لا يقول للمُعدِّين والمقدِّمين ما الذي سيقولونه؛ ويبرر هذا بأنَّه ليس في احتياج للإملاء يقصد أنَّه يأتي بشخوص تعرف ما الذي ستقوله ابتداءً دون زيادة إملاء منه، لأنَّها تعرف حدود الشبكة، واتجاهها، ومواقفها. ولا يبقى فقط إلا أنْ يكون الشخص على قليل من الذكاء ليُدير العمليَّة بعدها. لكنْ لا تتوقَّعْ أنَّ العامين يمرُّون دون مراقبة دقيقة ودائمة؛ فنحن سنرى روجر وهو يقول شعاره: "الأخبار كالسفينة ما إنْ تُبعد يدَيْك عن المِقوَد تنحرف توًّا إلى اليسار" لذلك فكل ما يجري من عمليات تحرير للبرامج والأخبار مراقبة وبشدة.

هذا عن الحريَّة في التحرير أو الكتابة. أمَّا عن الحريَّة الشخصيَّة أو حريَّة التعبير في مكان الشبكة أو الوكالة نفسها فيُرينا الفيلم -بإصرار شديد في عديد المشاهد- أن العيون كلها مُفتوحة لمراقبة الجميع، الجميع يراقب الجميع، ويُرينا أنَّ الجواسيس في كل مكان، وأنّ المديرين جميعهم -بما فيهم روجر قطعًا- يضع الكثير من المُخبرين أو المُبلِّغين عن كل شيء. كما أنَّهم يرفضون تماماً تعيين مُخالفيهم في الرأي؛ للدرجة التي تُخفي فيها إحدى المُحررات أنَّها ذات اتجاه مُخالف للشبكة وكأنَّها تحت ظلّ مراقبة الشرطة السريَّة (أمن الدولة) في عهد هتلر أو استالين. كما أنَّ أيَّ موظَّف لا يتمّ تعيينه إلا بعد ضمان ولائه، ولا تتمّ ترقيته إلا بعد مزيد من ضمان الولاء، وتقديم التنازلات. كما نرى زميلة تقول لزميلتها قائمة طويلة من الأمور التي لا بُدَّ أن تؤمن بها لتعمل هناك، وقائمة من المحظورات التي لا يمكن أن تفكر فيها أو يعلم بها أحد لتحتفظ بعملها. كذا نرى مجرد تعبير عن رأي في سؤال على غير هوى المسؤول يمكن أن يوقعك في موقف حرج، بل يُعرِّضك للطرد. فهذا عن صورة الحريَّة في الإعلام الأمريكيّ.

أمَّا عن حقوق الإنسان التي تقوم أمريكا برعايتها في العالم كلَّه، وتتخذها مُبرراً للنَّيْل من الجميع فيقدم لنا الفيلم صورة بشعة من انتهاك حقوق الإنسان هو التعامل مع المرأة بصفتها جسدًا لا إنسانًا. وهذا ما تمحورت حوله دعاية الفيلم. فالفيلم عرض لما يمكن تسميته "استعباد النساء في العمل" فكي تحصل المرأة على وظيفة لا بُدَّ أن تدفع ثمنًا، وكي تستمرَّ في هذه الوظيفة لا بُدَّ أن تدفع أكثر، إمَّا إنْ أرادت الترقِّي إلى الدرجات العُليا فهناك أثمان باهظة في انتظار كرمها. كما أنَّ النساء على الشاشات يتم اختيارهنَّ بعناية لا على سبيل الكفاءة، بل على سبيل الجمال الجسديّ (ومُقدمة الدعوى الأصليَّة كانت ملكة جمال أمريكا سابقًا). ولا بُدَّ أن تكشف المرأة عن قدراتها -لا العلميَّة المعرفيَّة بالقطع- كي تظهر على الشاشة. كما أنَّهم يزيدون فكرة "تسليع المرأة" (أيْ تحويلها إلى سلعة) باستخدامها أداة جذب للمشاهدين. وكما قيل نصًّا: لا بُدَّ كي تستمرَّ المشاهدة من عامل جذب؛ هذا العامل هو جسد المرأة الواضح من الفستان، ورجلاها اللتيْنِ لا بُدَّ من ظهورهما على الشاشة. ويُبرر الفيلم استخدام المناضد الزجاجيَّة الشفافة لهذا الغرض، بل نرى روجر يوجِّه المذيعات كي يلبسن أقصر فأقصر صراحةً، بل ينفعل أشدَّ الانفعال من عدم إظهار الكاميرا لبقية جسد المذيعة!

كما أنَّ الفيلم يظهر لنا الخلطة السريَّة للصحافة التي عُرفتْ في عقود مضتْ بجملة شهيرة تُلخص السياسة الإعلاميَّة "الخبر ليس أنَّ كلباً عضَّ رجُلاً، بل أنَّ رجلاً عضَّ كلباً". وقد تسرَّبت هذه السياسة إلى إعلامنا العربيّ بل أصبحتْ دستوره الأعظم. يُدخلنا الفيلم عالم صناعة الإثارة الإعلاميَّة؛ كيف أن موضوع النقاش لا بُدَّ أن يكون عن مُجرم، قاضٍ مُرتشٍ، عُمدة فاسد (كما تعلَّمنا تمامًا في الإعلام العربيّ) وبالقطع عن نجوم هوليوود وفضائحهم. كيف يفرح المدير بإغضاب حليف الشبكة "دونالد ترامب" لأنَّه سيحقق مشاهدة أعلى فقط، ولأنَّ الإغضاب كان عن موضوع يجلب الاهتمام هو موقفه من النساء! .. كما سيُقدِّم لك مشهدًا من ظاهرة تُسمَّى "البابارتزي" وهم المصورون الباحثون عن تصوير المشاهير بشكل غير قانونيّ بحثًا عن بيع هذه الإثارة المُعلَّبة في صور للجرائد أو المجلات أو المواقع التي تشتريها بأعلى الأثمان.

ويُطلعنا الفيلم أيضاً على محور خطير جدًّا هو الهُوَّة السحيقة بين أبناء المجتمع الأمريكيّ فكريًّا. فهناك شقاق ضخم بين أصحاب الاتجاه المُحافظ وبين ما يُسمُّون الديمقراطيين. بل يعرض أيضًا مدى التراشُق بينهما، وأنَّ هذا الخلاف الفكريّ له تداعياته الأخلاقيَّة فيما يمكن تسميته بالصورة الذهنيَّة لكل طرفٍ منهما. حيث يظنُّ الجميع في الديمقراطيين التحلل الأخلاقيّ، والتفسخ الاجتماعيّ، شيوع الرذائل السلوكيَّة بينهم. فيما يظنُّ عن الاتجاه المحافظ الالتزام الأخلاقيّ، والإيمان بالأهداف الدينيَّة والحضاريَّة الغربيَّة العامة، والحفاظ على السلوكيَّات الدينيَّة عموماً. وسيُريك كمْ هو متصارع الجسد الأمريكيّ من الداخل، هذا الذي تظنُّ فيه أنَّ الجميع مُتفق على سياقات عامَّة. هذه الفكرة الساذجة التي تشيع في عالمنا العربيّ والتي تُنافي الفطرة الإنسانيَّة في الاختلاف ابتداءً.

وفي النهاية نتوقُّف عند فكرة تصنيف الفيلم "دراميًّاً" فهذا الفيلم قصد إلى العرض المُباشر أكثر من بناء دراما وتنميتها. وأرى أنَّ به الكثير من معالم الأفلام التوثيقيَّة أو النمط التوثيقيّ. لا أقول بذلك أنَّ الفيلم يخلو من الدراما، بل القصد أنَّ اختيار صُنَّاعه أن يكشفوا أكثر من أن يبنوا ويؤسسوا، وأنْ يستمرُّوا في الكشف أكثر من متابعة البناء. وقد استغلَّ المؤلف والمخرج مهارتهما في صُنع أفلام الأحداث الحقيقيَّة في الموازنة حتى لا يتحوَّل الفيلم إلى طابع توثيقيّ يقوم به مُمثلِّو دراما. ولا شكَّ أن تشارلز ثيرون ومارجو روبي كان لهما دور كبير في بثّ روح للفيلم، وامتازتا بحيويَّة عالية. لكنَّ الأبرز هو جون ليثجو في أداء دور (روجر إيلس).

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top