علي عبد الرحيم صالح
بعد انتشار مرض السل في بعض المدن الأمريكية أثناء فترة خمسينيات القرن العشرين، توجهت خدمات الصحة العامة الأمريكية آنذاك إلى المواطنين من أجل فحص أنفسهم، ورغم القلق من أنتشار هذا المرض، وتوفير المؤسسات الأمريكية للأجهزة الطبية التي تساعد على كشف المرض،
إلا أن القليل من المواطنين كانوا يخضعون إلى اختبارات الفحص، وتلقي التطعيمات اللازمة. لهذا السبب توجه أربعة علماء في علم النفس الاجتماعي (روزنستوك وهوشباوم وكيجلز وليفينثال) إلى معرفة سبب أمتناع الناس عن الخضوع إلى فحص مرض السل ، أو عدم اتخاذ التدابير الصحية في الوقاية من هذا المرض. إن هذا السياق مشابه للعديد من الأحداث والكوارث المرضية التي يتعرض لها الناس، ويتجنبون وقاية أنفسهم منها، كما هو الحال في انتشار وباء كورونا، فما الذي يمنع الناس من ارتداء الكمامات الطبية، أو استخدام المعقمات، وغسل اليدين بصورة مستمرة؟
إن هذه الأسئلة أجاب عليها العلماء الأربعة في نظرية المعتقدات الصحية، التي بحثت كيفية تقدير الناس لأصابتهم بالأمراض الوبائية ، وتقييم درجة التزامهم بالتدابير الصحية؛ ومدى توقعهم في الإصابة بالمرض مقايسة بغيرهم من الأفراد؟ وتوصلت النظرية إلى أن هناك خمسة عوامل تمارس أثراً كبيراً في سلوكياتنا الصحية، التي تتمثل بالآتي:
1. إدراك القابلية للإصابة: تقييم الفرد لأمكانية تعرضه للمرض أو العدوى، وهنا يسأل الفرد نفسه ما هي فرصتي للإصابة بالمرض؟ وكلما أعتقد الفرد بأن فرصة أصابته كبيرة فأنه سيشعر بالخوف، وسيلتزم باتخاذ التدابير الصحية.
2. إدراك الخطورة: تتمثل باعتقاد الفرد أن الوضعي الحالي خطير، ومن الممكن أن تكون له أثار سلبية عليه، وبهذا كلما ارتفع إدراك الفرد بأن الموقف الحالي مهدد لحياته، فأن فرصة تغيير الفرد لسلوكياته الصحية سترتفع من أجل تجنب عواقب المرض.
3. الفوائد المدركة: تلك المنافع التي إذا أدركها الفرد فأن فرص أتباعه للإرشادات والتعليمات الصحية ستكون كبيرة، فعلى سبيل المثال: إذا أدرك الفرد أن ارتداء الكمامة، وغسل اليدين، والابتعاد عن الأماكن المزدحمة جنبت العديد من الناس في التعرض لوباء كورونا فأنه من المؤكد سيتبنى هذه السلوكيات الصحية.
4. المعوقات المدركة: وهي أحدى الأسباب الرئيسة التي تدفع الناس نحو عدم تغيير سلوكياتهم اليومية (غير الصحية)، وتتمثل هذه المعوقات بالجهد والوقت والمال والرفض الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، لو اعتقد الفرد أن الالتزام بالسلوك الصحي: عمل مجهد، ويأخذ وقت طويل، ومكلف من الناحية المادية، وله عواقب اجتماعية، فأن هذه العوامل ستؤدي إلى رفض اتباع التعليمات الطبية.
5. الفاعلية الذاتية: تتمثل بمعتقدات الفرد حول إمكانيته على أتباع السلوكيات الصحية، فكلما أدرك الفرد أنه سيستطيع أن يلتزم بتوصيات الوقاية من وباء كورونا فأنه سينجح بدرجة كبيرة في وقاية نفسه من المرض، في حين لو أعتقد الفرد أنه سيفشل في ذلك، فأنه سيجد نفسه عاجزاً وممتنعاً وساخراً من القيام بالسلوكيات الصحية.
وبهذا نجد أن فرص تجنب الإصابة بمرض كورونا مشروط بما نتبناه من معتقدات صحية، وكلما كانت هذه المعتقدات إيجابية وبناءة فأنها ستساعدنا على تجنب الإصابة بالمرض. ولكن هل من السهل تغيير معتقداتنا غير الصحية؟ لقد أثبتت الدراسات أن محاولة الناس تغيير معتقداتهم غير الصحية أمر شاق وقاسي، لأن السلوكيات التي تعودنا على ممارستها يوميا تصبح أنماط وممارسات تلقائية، نقوم بها بصورة غير واعية وروتينية، مما يجعل عملية استبدالها أو كسرها صعبا، وحتى لو بدأنا عملية تغييرها سنجد أنفسنا في بعض الأحيان نمارسها من دون الشعور بذلك. فضلا عن ذلك أن عملية تغيير المعتقدات غير الصحية وتبني الإجراءات الوقائية مثل الفحص، وتناول الأدوية، والمحافظة على النظافة..وغيرها، ترتبط بمجموعة من المتغيرات مثل المستوى الاقتصادي والحالة الاجتماعية والتعليم ونوع المهنة وعدد أفراد الأسرة، فعلى سبيل المثال نجد أن الناس الذين يسكنون في العشوائيات (التجاوز) يفتقدون كثيرا إلى سلوكيات رعاية الذات مقارنة بالأفراد الذين يسكنون في مناطق مرفهه، وإن ارتفاع المستوى التعليمي للفرد يجعله أكثر وعياً ومراقبة لسلوكه وضبط نفسه، في حين أن تعرض الفرد لخبرات اجتماعية مؤذية مثل الطلاق والتشرد والتسول يجعله غير مهتم باتباع التغذية الصحية. إن رغم التأثيرات التي قد تنتج من المتغيرات السابقة، فأن علماء النفس الصحي توصلوا إلى مجموعة من الوسائل يمكن أن تحفز جميع الأفراد على تغيير معتقداتهم غير الصحية، منها استعمال تقنية الخوف (إثارة مخاوف الناس في ضوء مشاهدة الأعراض المرضية التي تظهر لدى المصابين بفايروس كورونا)، وتقنية الإقناع (محاولة أرسال رسائل إيجابية ومنطقية تهدف إلى أقناع الناس بفائدة تبني معتقدات صحية)، وتقنية الإعلام (استعمال الإعلانات والمنشورات والبرامج بهدف تحذر الناس من مخاطر الإصابة بالأمراض)، وتقنية استعمال النماذج (اللجوء إلى الشخصيات المشهورة والمحبوبة لدى المواطنين بهدف تغيير معتقداتهم وأفكارهم غير الصحية)، وتقنية التكرار (عملية تكرار نشر المعلومات الصحية بصورة مستمرة من خلال الملصقات والمنشورات الضوئية، والراديو والتلفاز بصورة محببة، مثل نشرها على شكل أغنية)، ووجد العلماء أن هذه التقنيات يمكن أن تضمن لنا بنسبة متفائلة القدرة على توجيه أفكار الناس وتحريك مشاعرهم لو استخدمناها بصورة صحيحة ومؤثرة.
أكاديمي وباحث في جامعة القادسية
اترك تعليقك