فيصل لعيبي صاحي
أكتب هذه المقالة في منزلي الذي يقع في مدينة صغيرة منعزلة في الوسط الغربي من فرنسا وأنا أشاهد فيلم (القطار) بالأسود والأبيض، الذي مثله الفنان القدير برت لانكستر،
وهو عن محاولة الجيش النازي سرقة تراث فرنسا الفني ونقله من اللوفر الى برلين عام 1944 بعد إقتراب نهاية الحرب والذي عبر عنه أحد ممثلي المقاومة الفرنسية في الفيلم بـ " مجد فرنسا " حيث يعاد بثه من قناة (آرت) الفرنسية – الألمانية، فأعجب على حرص الفرنسيين ، حتى في أوقات الحرب والإحتلال في الحفاظ على تراثهم الفني وصيانته، بينما نحن نرى اليوم كيف يساهم العديد من العراقيين ومنهم فنانون بتهريب المجد العراقي الى الخارج وبيعه مقابل دراهم معدودة ، مع علمهم بأنه مسروق من المتاحف أو البيوت التي تعرضت للنهب والتخريب أيام الحصار في التسعينيات و بعد الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003 .
ترى هل يدرك هؤلاء جريمة ما يفعلونه بمجدهم العراقي هذا ، أم أن الطمع والجشع وحتى الغباء هو الذي يقودهم للقيام بمثل هذه الجرائم. ؟؟
لقد رحل فنانونا الكبار بعد ما شاهدوا ما تعرض له تراثهم من إهمال في حياتهم وبعد مماتهم لم يشاهدوا ما وصل إليه هذا التراث في المزادات العالمية وكيف ترتفع أسعار لوحاتهم وهم الذين لم يحصلوا على ثمن لوحاتهم التي عرضوها في معارضهم الشخصية أو الجماعية آنذاك إلا بصعوبة وكان البعض يشتريها منهم بالتقسيط .
كانت مكافأة فناننا الخالد جواد سليم عن ( نصب الثورة – الحرية ) لا تتعدى الثلاثة آلاف دينار عراقي والراحل الكبير فائق حسن قد حصل على أجر قد يتعدى الألف دينار بقليل بعد تنفيذ جدارية الثورة في ساحة الطيران . وتتوارد أمامي الآن وجوه المبدعين الذين رحلوا دون أن يتم دراسة نتاجهم كما ينبغي أو يجري الحفاظ على أرثهم الباهر وتبعثر جهدهم هنا وهناك والقسم الأخر منهم شاهد بأم عينه كيف يدمر نتاجه بوحشية لا نظير لها كما حصل لنصب (الجندي المجهول ) للمعمار المبدع الذي رحل عنا هذه الأيام في غربته ألا وهو الأستاذ رفعة الجادرجي. فماذا عن هذا المبدع والقامة العراقية الفذة الذي غادرنا في وقت لم نستطع حتى وداعه أوإلقاء النظرة الأخيرة عليه و حضور مراسيم غيابه المحزن ؟.
التعرف على الأستاذ رفعة الجادرجي
سبقت شهرة الأستاذ رفعة الجادرجي معرفتي الشخصية به، فقد كان من محدثي الحركة المعمارية في العراق ومطوري إتجاهاتها التقليدية وقد قرأت كتابه ( شارع طه وهامر سميث ) و ( جدلية العمارة والقصر البلوري ) و ( صورة أب )، قبل أن يتم التعارف بيننا في لندن قبل أكثر من عقدين من الزمان ، كما ان شهرته قد وصلتنا من خلال تصميمه لنصب الجندي المجهول واللافتة الكبيرة الممتدة على طول خمسين متراً، التي صممها ليضع الفنان جواد سليم قطع النحت التي أبدعها عن ثورة 14 تموز عام 1958 المجيدة عليها ، ناهيك عن الأبنية التي صممها في بغداد والتي لا يزال قسماً منها شاخصاً حتى يومنا هذا، شاهدة على فكر وفن ومفهوم الأستاذ رفعة الجمالي في فن العمارة.
فالمرة الأولى التي رأيت فيها الأستاذ رفعة كانت في قاعة ( آيا ) الفنية، التي أسسها في بغداد والتي تشرف عليها رفيقة دربه الرائعة الأستاذة بلقيس شرارة ، وذلك عندما تم إفتتاح معرض شخصي للفنان الصديق ضياء العزاوي عام 1966 على ما أتذكر، وأظنه كان المعرض الأول له. لكننا لم نتحدث، فقد كنت طالباً في معهد الفنون الجميلة ولم يمضِ على وجودي في بغداد غير سنتين وهي غير كافية لبصري مثلي ليتعرف بسهولة على الشخصيات المهمة في الحياة الثقافية العراقية. أما المرة الثانية فكانت في ديوان الكوفة بلندن عند إفتتاح معرض الفنان الصديق مهدي مطشر، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكننا لم نتبادل الحديث وقتها ، ثم سنحت لي الفرصة بعدها لحضور محاضرة للأستاذ رفعة في قاعة الكوفة نفسها بعد سنة أو أكثر وهي عن فلسفة الفن كما أتذكر ولم نتبادل الكلام أيضاً، لكن لقائي الحقيقي به كان بمبادرة منه بالذات، حيث كنا زوجتي عائشة وأنا في أمسية موسيقية أُقيمت لفرقة المقام و التراث الموسيقى العراقية في مجمع الــ ( ساوث بانك ) في لندن للإستماع للمقامات العراقية ،ففي خلال فترة الإستراحة جاءنا الأستاذ رفعة وجلس الى جانبنا وعرفني بنفسه، وكم خجلت من تواضعه وادبه ، فبادرته بالقول : " أستاذ رفعة هذا شرف لي أن تأتي لتحدثني بينما الأصول هي أنا الذي يجب أبادر للتعرف بك " ، فقال : "هذا لا يهم ولكني أحببت أن أتحدث معك وأدعوك لزيارتنا في اقرب فرصة " خمنت وقتها أن الراحل العزيز الفنان الكبير ناظم رمزي الذي توثقت علاقتي به في لندن أيضاً منذ عام 1992 ربما قدم صورة إيجابية عني للأستاذ رفعة وهو من أصدقائه المقربين الذين بقوا على قيد الحياة حتى ذلك الحين.
كان اللقاء المنتظر بدعوة كريمة منه للعشاء في مطعم جميل على نهر التايمس قريب من منطقة سكناه ، وتحدثنا عن أشياء عدة ، سياسة وفن وفكر وذكريات، ساهمت فيها الأستاذة الرقيقة والكريمة بلقيس شرارة رفيقة دربه بإضافة بعض البهارات على الأحاديث وتذكّر التواريخ والتعليق وإعلان رأيها فيها ، فلاحظت انهما قد يختلفان في تقييم شخص أو حدث أو موضوع دون أن يؤثر ذلك على سير النقاش، فعزز لدي إستقلالية كل منهما في طرح الآراء والمواقف من الحوادث والأشخاص والمواضيع. بعدها إتصل بي الأستاذ رفعة لزيارة صديقه محمود شكري الدفتري ، وقال إن لديه أعمال لفائق وجواد ومحمود صبري يرغب في معرفة رأيي بها وتقييمها مادياً ، أخذني بسيارته الى بيت ذلك الصديق وكان من المقتنين لأعمال الرواد وعرضت زوجته الكريمة المجموعة التي بحوزتهما فدهشت لندرتها وخاصة عندما عبرا عن رغبتهما في بيعها. لكني قلت لهما إذا لم تكونا في حاجة الى المال فمكان هذه الأعمال هي بغداد والمتحف الوطني. وخرجنا منهما والألم يعتصرني لما أراه من تبديد لثروتنا الفنية بسبب الحاجة الماسة الى المال عند بعض أصحاب المجموعات الفنية العراقية بعد أن ضاقت بهم السبل.
تطورت عللاقتي بالأستاذ رفعة وزوجته الكريمة الأستاذة بلقيس وأصبحت زياراتي لهما منتظمة بين أسبوع وأسبوع ، نقضي فيها أوقاتاً ممتعة وغنية بالمعرفة والذكريات الجميلة عن تلك الأيام التي ازدهر فيها الفن والثقافة العراقيتين بشكل كبير، وقد أهداني معظم الكتب التي أصدرها وقتها وبتوقيعه وكذلك الأستاذة بلقيس وهذا كنز لا يقدر بالنسبة لي لموادها الدسمة مع تطريزها بتوقيعيهما الثمينين. وأحتفظ الآن في مكتبتي بتسجيلات مصورة للعديد من تلك الأمسيات، وقد نشرت أحداها في مجلة الثقافة الجديدة ، مجلة الفكر والثقافة ، التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي وبطلب من هيئة تحريرها الموقرة..
موقف الأستاذ رفعة الجادرجي من أبرز رجال السياسة العراقية
من خلال الأحاديث والنقاشات ، لاحظت أن الأستاذ رفعة يكره أهم ثلاث من أربع شخصيات سياسية لعبت دوراً مهماً في العراق ، وهم نوري سعيد وعبد الكريم قاسم و يوسف سلمان ( فهد ) سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، الذي اعدمته السلطات الملكية في 14 شباط عام 1949 مع مجموعة من قياديي الحزب وكوادره. ويبدو أن الأستاذ رفعة قد تأثر بآراء والده الأستاذ كامل الجادرجي* عميد اللبرالية العراقية المعروف وهو الشخصية الرابعة المهمة في تاريخنا السياسي العراقي المعاصر. أي أن تقييمه لهذه الشخصيات يحمل بعض الدوافع الشخصية أكثر من الجوانب الموضوعية أو الواقعية. صحيح إن شخصية نوري السعيد رئيس الوزراء المزمن في الحقبة الملكية، لها سلبيات لاتعد ولا تحصى وقد يكون الإتفاق على مقته عاماً و حتى لدى العديد من رجال العهد الملكي نفسه، لكن الكراهية للزعيم عبد الكريم الذي لا يرد للأستاذ رفعة طلباً وكان محط ثقته ومستشاره في القضايا العمرانية و أتاح له فرصة القيام بمشاريع عديدة بحسب قوله هو بالذات لا أجد لها مبرراً غير موقف والده من الزعيم وهذا ينطبق كذلك على الموقف من فهد سكرتير الحزب الشيوعي . أي إنه تأثر بمواقف والده منهما وليس من معاينة موضوعية ومحايدة لشخصيهما وما قدماه في حياتهما القصيرة لمجتمعنا.
وكان الأستاذ رفعة لا يرتاح كذلك للعبارات السائدة في كلامنا العام والتي تأتي عفوياً بسبب السليقة واللغة المتداولة عموماً عند العراقيين مثل : الله كريم أو إنشاء الله وغيرها من العبارات التي يرددها العراقيون وغيرهم من العرب بشكل عام و دون أن يكونوا بالضرورة مؤمنين بها، وهو يعتبرهذا ضعفاً أو نقصاً في الوعي والثقافة وقد يكون هذا صحيحاً للذين يفكرون بنفس طريقة تفكريه ولكن ماذا عن الذين يؤمنون بها؟ فهذا يضعف مفهوم و معنى الحرية الشخصية او الديمقراطية لديه و التي يتبناها بقوة وإصرار، أي إنه يؤمن بديمقراطية تناسب موقفه ولا يؤمن بحرية الآخر في تبني موقف مختلف معه وللأستاذ رفعة أيضاً آراء قسم منها غير أكيد ولم يقطع بها لا العلم ولا الفكر أي لم تحسم بعد بشكل نهائي، لكنه يصر عليها ويدافع عنها بحرارة وحماس وهذا حقه، لكن موقفه هذا ينم عن عناد وعدم مرونة أو إستعداد للنقاش للوصول الى صيغة مناسبة للقضية المطروحة.
وتبين لي أيضاً من خلال تبادلنا الأحاديث ، أن الأستاذ رفعة ماركسي يميل الى الإشتراكية الديمقراطية بالمعنى الغربي لها وأقرب الى مفاهيم الأممية الثانية في هذا المجال، ولكنه غير منتظم في حزب أو جماعة ماركسية لها برنامج، فهو يتعامل مع مختلف الأمور من منظار مادي جدلي يعتمد على الفكر الماركسي المطعم بمفاهيم اليسار الأوروبي الجديد أحياناً. و يمتلك ذهناً نشطاً وله تفسيرات متينة وعميقة فيما يتعلق بالفن والجمال والعمارة. فهو مثلاً يقسم حاجات الإنسان الى ثلاثة أقسام هي : الحاجة الوظيفية والحاجة الرمزية والحاجة الجمالية وكل حاجة من هذه الحاجات لها شروطها ومسارها المختلف ، فكرسي الطعام الوظيفي يختلف عن كرسي الحاكم الرمزي أو الكرسي الفني أي الجمالي ولكنه يعتقد بإمكانية تمتع هذه الكراسي الثلاثة بملمح جمالي أيضاً وهكذا فهو يعتبر الحاجة الجمالية هي منتهى النشوة والإشباع والإكتمال لدى الإنسان و يطلق عليها عبارة ( الأوبتمالية ) من المصطلح اللاتيني، فهي الحد الأقصى للنشوة في مواجهة العدم أو الفناء الذي ينتظر الإنسان في النهاية حسب رأيه.
رفعة والسجن
لقد تعرض الأستاذ رفعة الى السجن مرتين ، الأولى في العهد الملكي بعد عودته من دراسة العمارة في بريطانيا وكانت فترة قصيرة وخفيفةَ الوطأةً قياساً للثانية في عهد نظام البعث عام 1978 والتي إستغرقت سنة وثماية أشهر في غرفة مليئة بالمساجين من أصحاب الرأي المستقلين والمنتمين معاً وكان نومهم بالتناوب لضيق المجال وهم محرومون من ضوء النهار أو التهوية الصحية، إمعاناً في الإذلال والإهانة .حيث كانت خطة النظام وخاصة رأسه التآمري الكبير صدام حسين هي إذلال الشخصيات المميزة والمعروفة إجتماعياً والتي يجلّها العراقيون وإحتقارها كي يذعنوا له وقد ألصقت تهم عديدة وغير صحيحة بالعديد منهم ، وتعرضوا للتعذيب والإرهاب كما حدث مع الفنان الرائد ناظم رمزي وقتها ومع الفنان والمنولوجست البارز عزيز علي ، فتهمة التجسس والعمالة للأجنبي وحتى الماسونية جاهزة في جرارات رجال الأمن والمحققين مثل ما هم شهود الزور وملفقو التهم جاهزون ومستعدون لإدلاء بشهادات غير صحيحة وبدم بارد ضد من تريد السلطة أن توجه له أي تهمة. كان صدام حسين يكره المتفوقين ولا يتحمل حضورهم الطاغي وهو يسعى الى إحتلال مكانتهم حتى ولو بالقوة وهذا ما فعله مع النخبة الرائعة من مثقفي ومبدعي العراق الأفاضل الذين أذلّهم أشد إذلال وجعلهم ينزحون المراحيض ويبصقون ويصفعون بعضهم البعض أثناء إعتقالهم و بأوامر حرسه الهستيرية ، إلا أن الأستاذ رفعة وبحكم عقليته العملية ومنطقه الصارم في الإستفادة من الوقت ، حتى لو كان في السجن سخّر هذه الفترة الطويلة من السجن في تأليف الكتب الفكرية والفنية والتاريخية. وكانت الملاك الحارس ورفيقة دربه الأستاذة بلقيس شرارة ، هي من يوصل له المصادر والمراجع والكتب التي يحتاجها لإكمال أبحاثه ومؤلفاته التي كتبها في المعتقل وتنقل ما خطته يداه بالقلم على الورق الى الآلة الكاتبة عندما تعود الى المنزل محملةً بالأوراق والكتابات . فخرج من سجنه وقد انجز أكثر من كتاب ومشروع وفكرة.
محمود صبري ورفعة الجادرجي
ويشترك الأستاذ رفعة الجادرجي مع الفنان محمود صبري بصفات متقاربة إذ يمثلان بجدارة الجناح اليساري في الحركة الثقافية و الفنية العراقيتين ، لكنهما لم يلتزما بقيود التنظيم ولا التحزب في قول ما يعتقدانه ويؤمنان به، كما إنهما غير قابلين للموافقة على ما تعلنه بيانات الأحزاب أو الحركة الثورية بسهولة ولهذا إستطاعا أن يحافظا على مسافة معينة بينها وبينهما، وهذا في رأيي المتواضع كسب للطرفين وليس خسارة لهما، كما يظن البعض، لأن وجهات نظرهما كانت تشير بجرأة للخلل المعين دون أن يفقدا صلتهما بالواقع المتحرك وبالحركة الثورية نفسها ، ومع أن هذه المعادلة صعبة جداً في الكثير من الأحيان إلا أنها ممكنة وذات فعالية إيجابية. لأن إنتظام هاتين الشخصيتين في حزب ما سيجبرهما على الإذعان لكل ما يرسم داخل التنظيم وتطبيق ما لا تتماشى مع قناعتهما الشخصية، مما يعرضمها للنقد والحساب من قبل جهاز التنظيم الحزبي الصارم خاصة في ظروف النضال السري والعمل تحت الأرض وليس بالهواء الطلق والنضال المفتوح والعلني وقد فقدت الحركة الثورية العديد من المثقفين المهمين الذين كانت تحاول فرض تكتيكات وقتية في سياستها عليهم ، بينما هم ينظرون الى الهدف الأبعد لدور المثقف..
وقد رفد الفنانان رفعة الجادرجي ومحود صبري الفكر الفني والجمالي بكتب ومقالات وأفكار جديدة أصيلة وذات بعد أوسع من المجال الوطني أو المحلي ، و قاما بإنتاج أعمال فنية تشكيلية ومعمارية ستبقى دليلاً على حيويتهما وحداثتهما المميزة فمن خلال نقاشتهما التي دارت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته مع الفنانين آنذاك، ولّدت اللوحة الفنية ذات البعد الإجتماعي الثوري وتم ربط العمل الفني بحركة الواقع والمجتمع وبمستجدات الفن المعاصر في مختلف بلدان العالم وخاصة حركة الحداثة الغربية. وقد لا ندرك أهمية دورهما حالياً ونحن نخوض غمار صراع مصيري مع قوى التخلف والظلامية في عراقنا ومنطقتنا العربية ، لكننا سوف نحتاج الى نصائحهما البليغة ومفاهيمها التنويرية لاحقاً. لأن نتاجهم الفني المادي والنظري سيشكلان مع نتاج الفنان شاكر حسن آل سعيد التشكيلي و النظري العمود الفقري للفكر الجمالي في الحركة الثقافية العراقية المعاصرة شئنا أم أبينا.
جواد سليم ورفعة الجادرجي
من الصدف الجميلة هي تعرّف الأستاذ رفعة على الفنان جواد سليم، فقد كان جواد من المعجبين بشخصية الأستاذ كامل الجادرجي ومن زوار مجالسه وكان قد رسم تخطيطات رائعة للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري أثناء وجوده في صالون الجادرجي. و جواد يكبر رفعة بسبع سنوات تقريباً فزرع في نفس رفعة حب التطلع للفنون والمعرفة وكذلك ساهم في صياغة الكثير من الصفات التي ظهرت بعد ذلك لدى رفعة وكانت أهمها تناول المعرفة بشمولية وكان للأستاذ نسيم داوود الفضل كذلك في توجيه رفعة الى دراسة العمارة بعد أن وجده متعلقاً بالفنون ، لأن رفعة كان ينوي دراسة الكهرباء في كلية القديس مارتن في إسطنبول .
كان جواد بتواضعه وحبه للمعرفة وتفانيه في مهنته ونشاطه المتواصل قد أثر على العديد من مجايليه وكانت موضوعة المحلية والأصالة والهوية الوطنية الى جانب التطلع للحداثة والتطور من أهم الأمور التي إلتقطها رفعة من جواد ، فلازمته حتى آخر أيامه، التي عكف فيها على كتابه الأخير الذي أطلق عليه إسم ( سهم الزمن أو سهم الحضارة )، لا أتذكر بالضبط العنوان الصحيح واتمنى ان تكرس العزيزة بلقيس رفيقة دربه وحارسته المتفانية ، ما لديها من وقت بعد ان تهدأ الحالة وتستقر في وضعها الجديد ، بتدقيقه وتصحيحه و تحريره كالعادة وتقديمه الى المطبعة إذا لم يكن قد أرسل بعد . و إرتبط الأستاذ رفعة بعد ثورة 14 تموز عام 1958 بجواد سليم بمشروع نصب الثورة ( الحرية ) الذي صمم رفعة القاعدة المرمرية العريضة التي ستوضع عليها منحوتات جواد. و تابع تطورات العمل أولاً بأول ومع أنه يذكر إشكالية جواد سليم حول وضع شخصية زعيم الثورة عبد الكريم قاسم في النصب والتي يقال إن النحات خالد الرحال أوصلها الى أسماع الزعيم، فقد تم النصب بدون أن يجبر جواد على تلبية هذه الرغبة التي يبدو أن الزعيم لم يلمح لها ولا كان راغباً بها ، خاصة وأن الكاتبة والصحفية الصديقة إنعام كجه جي في كتابها عن جواد سليم ولورنا ، تؤكد على أن لورنا تنفي مثل هذا الأمر وتؤكد على أن جواد كان يحب الزعيم عبد الكريم وقد علق صورته في منحته الذي كان يعمل فيه النصب وهو في إيطاليا، لكنني أرجح أن شخصية الجندي الذي حطم أبواب السجن في النصب فيها ملامح من شخصية الزعيم خاصة يديه وكفيه وملامح وجهه وأعتقد كذلك أن جواد قد قصد هذا وأكد عليه دون أن يطلب منه أحد ذلك.
كان جواد يعرض أعماله على رفعة عادة ويتناقشان حولها وأحياناً يقتنيها رفعة قبل عرضها وهكذا تجمعت لديه مجموعة محترمة من أعمال جواد وكذلك من أعمال فائق حسن وبقية الرواد و ولا يزال نصب الثورة المصغر الذي نسيه جواد في بغداد وكان المفترض أخذه معه الى إيطاليا ،حتى يبني عليها النصب بحجمه الطبيعي ، في حوزة رفعة حتى هذه اللحظة وقد سمعت بأذني كيف يجل الأستاذ رفعة الفنان الخالد جواد سليم ويطري ذكره كواحد من أهم الشخصيات التي أثّرت فيه.
رفعة والتصوير الفوتوغرافي
كانت أول آلة تصوير حصل عليها رفعة، هي الهدية التي قدمها له والده وهو لا يزال في العاشرة من عمره، ثم جاءت الثانية من الوالد كذلك ولكن بعد أكثر من ست سنوات وكانت أكثر تعقيداً من الأولى، وعليّ أن أذكر أن الأستاذ كامل الجادرجي كان مصوراً بارعاً وصور العديد من الصور التي تعكس حياة الناس في المجتمع العراقي ومن مختلف الطبقات . وقد طبعت في كتاب أصدره الإبن رفعة لأبيه كعربون للعرفان الذي يكنه رفعة لوالده المبجل. وذلك قبل أكثر من ربع قرن.
ركز رفعة في تصويره على الجانب الإنثروبولوجي أكثر من فنية الصورة، لكن صوره لا تخلو من إحساس فني عالي وكيف لا وهو الفنان الحساس والدقيق. وقد صدر للأستاذ رفعة كتاب لأعماله المصورة قبل عدة سنوات عن مؤسسة المدى للثقافة والإعلام ، يضم مجموعة من الصور التي إلتقطها رفعة بين عام 1974 وعام 1978 عام إعتقاله وسجنه، ثم عاود الكرّة بعد إطلاق سراحه حتى خروجه من العراق. مقدماً لنا المجتمع العراقي بكل فئاته وطوائفه وعاداته وطقوسه الشعبية والدينية والإحتفالية وأفراحه وأتراحه.
رفعة والعمارة
أخيراً ماذا قدّم رفعة للعمارة العراقية والعربية وما هي إضافاته الأهم؟
كانت العمارة قبل رفعة تعتمد على ما هو سائد وتقليدي وكذلك على ما وصلت إليه العمارة الغربية الحديثة. وكانت جهود معظم المعماريين تتركز في بناء بيوت على الطراز الغربي ، خاصة للبيوتات البغدادية المتمكنة والتي تحاول أن تجاري المودة الشائعة والمهيمة وقتها وتقلد العائلة الأوروبية في سلوكياتها. و حاول البعض أن يستفيد من التراث المعماري الإسلامي القائم لكنه انتج أعمالاً يطلق عليها الأستاذ رفعة عبارة " عمارة ملهوجة "، أي إنها غير أصيلة وهجينة وأقرب الى التشويه.
وهو إذ يمتدح إمكانيات المعماريين الذين سبقوه وحتى الذين جاءوا بعد، إلا أنه يعيب عليهم هذا التقليد غير المبرر للعمارة الأوروبية الحديثة التي لا يتناسب العديد من منجزاتها مع البيئة العراقية .
لهذا نراه يلجأ الى دراسة البيئة وهو يحمل في داخله وصايا جواد حول المحلية والأصالة والمعاصرة معاً فيستخدم المادة المحلية ويبتكر فراغات في الجدران لتمرير الهواء وكذلك الجدران الزجاجية في المنازل لإدخال الضوء ومنع الحرارة معاً كما حوِّر الشباك ليلائم البيئة الحارة المشمسة وغير من شكل القوس في الشبابيك ليقلل من سقوط أشعة الشمس المباشر على الغرف ولا يمنع دخول الضوء إليها في نفس الوقت ، مع عدم نسيان الروح الحديثة والأنيقة للأبنية التي قام بتصميها وفق تلك المفاهيم التي أصبحت إتجاهاً بارزاً إن لم يكن أهم ما قدمه المعمار العراقي في فن العمارة العراقية المعاصرة ومن صفات المعمار رفعة البارزة إهتمامه بالمكننة ودور الآلة في العمارة عكس الذين إعتمدوا على الحرفة والتقليد في إنجاز مشاريعهم العمرانية.
لك الذكر العطر يا أستاذنا الفذ رفعة الجادرجي وللعزيزة الرائعة بلقيس الصبر الجميل.
لا روش بوزيه – فرنسا في 15 \ 04 \ 2020
تعليقات الزوار
طارق علي
نرجوا التقدم للعراق بعد كل عثراته والله يرحم استاذ رفعة وشكر لكاتب المقالة الرائعة