د. جيهان بابان *
تؤكد التجربة الإنسانية لمسيرة البشرية أنّ هناك تكاملاً في منظومة العلاقات بين الإنسان والبيئة وعند الإخلال بهذه العلاقة عبر الاستخدام المفرط لعناصرها تكون النتائج وخيمة وتصبح مصدراً للأوبئة والأمراض التي تصيب الإنسان وآخرها فايروس كوفيد- 19.
ومن أمثلة الإساءة المتعمدة للبيئة في العراق هو تجريف بساتين النخيل وخصوصاً في محافظة البصرة ومحافظة بغداد وضواحيها لغرض تحويلها إلى مناطق سكنية ,وأيضاً إلى تراكم النفايات بكافة أنواعها وإزدياد معدلات التلوث البيئي للماء والهواء والتربة.
أما عالمياً في شقّ الطرقات في الغابات كما يحدث في أميركا اللاتينية أو استئصال المساحات الخضر لأغراض السكن وبسبب تزايد السكان , أو شيوع تجارة الحيوانات الوحشية وأكل لحومها كما في الصين وأفريقيا، فقد أدى قطع الأشجار ( التجريف) التي تعيش عليها الخفافيش إلى إجبارها للأنتقال من مناطقها التقليدية إلى اللجوء إلى الأشجار القريبة من المنازل والمزارع ومن مخاطرها احتمال أن يأكل الإنسان فاكهة عليها لعاب الخفافيش أو أن يصطادها مباشرةً لغرض الأكل فتنتقل إليه الفايروسات التي تتكيّف مع جسمه فتتحول إلى أمراض ويرجح أن تكون قد نقلت فايروس كوفيد-19 إلى الإنسان من الخفافيش الذي يملك جهازاً مناعياً قوياً ولكن تتضاعف قدرات الفايروسات على القتل أو الانتشار بسرعة أكبر حين تنتقل إلى الجهاز المناعي الأضعف لدى الإنسان.
وكانت أحد مصادر القلق لدى المختصين هو إن تدمير الغابات الإستوائية لأغراض تجارية وصناعية سيعرض البشر إلى مخاطر انتشار جراثيم وفايروسات لم تعرفها البشرية وتفشي أوبئة جديدة عُرف منها مرض الإيبولا ومرض النوم وانفلونزا الطيور , ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية, وحمى الوادي المتصدع, فمثلاً في الفترة ما بين 1980-2000 تم تدمير 100 مليون دونم من الغابات الأستوائية , ويعتقد بعض الباحثين أن تدمير بيئة التنوع الأحيائية هي مصدر هذه الأوبئة حيث يختل التوازن الدقيق بين البيئة الطبيعية والتنوع الأحيائي والصحة العامة والتي تسبب عمليات صيد الحيوانات واستخدامها كمصدر للغذاء وقطع الأشجار واستخراج المعادن وشق الطرق والزيادات السكانية وتوسع المناطق الحضرية . هذا النشاط الإنساني إذا عاود مسيرته بعد انتهاء أزمة فايروس كورونا المستجد ، سيهدد بمزيد من التلوث وانتشار الأوبئة المخيفة التي هي نتيجة انتقال مسببات الأمراض من الحيوانات إلى الإنسان كما حصل في انتقال إنفلونزا الطيور والمتلازمة التنفسية الحادة المفاجئة (سارس), ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية والآن فايروس كوفيد- 19. وتسببت جميعها بالآف الوفيات وتكبدت المجتمعات خسائر اقتصادية كبيرة. ففي القرن الماضي سبّب التزايد في النمو السكاني وانخفاض النظم الإيكلوجية والتنوع البيولوجي إلى تزايد الأمراض التي تنتقل بين الحيوانات والبشر.
و في تقديرات مركز السيطرة المرضية في أميركا CDC أن أغلب الأوبئة التي انتشرت في العالم سابقاً وحالياً هي نتيجة انتقال مسببات الأمراض البيولوجية مثل الفيروسات من الحيوانات إلى الإنسان وحدوث طفرات جينية فيها والتي تتطلب التعامل معها كقضية تتعلق بالأمن الوطني والصحي كما وأشارت دراسة من لندن , أن %60 من الأوبئة للفترة بين 1960 و2004 مصدرها الحيوانات , وأكد عدد من المختصين أيضاً عن عدم استغرابهم لتفشي فيروس الكورونا الذي هو اشبه بقمة جبل الجليد الغاطس وإن ما هو غير معروف , أكبر بكثير لأن النشاط الإنساني المتهور يسرّع في انتقال الأمراض بسبب تحطيم الحاجز الطبيعي الذي يفصل بين الإنسان والحيوان نتيجة فقدان الحيوانات لبيئتها الطبيعية والتي هي أشبه بقنبلة بيولوجية تنتظر الأنفجار , الأمر الذي يتطلب إجراءات واسعة لتغيير السلوك الإنساني والذي يشمل الحكومات والشركات الكبيرة والمواطنين بما يضمن الحفاظ على البيئة والتنوع الأحيائي , الأمر الذي يتطلب من جميع الأنشطة الصناعية والتجارية أن تقدم تقييماً معمقاً للمخاطر البيئية قبل إعطاء الموافقات الرسمية . وفي عام 2016, أشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى زيادة انتشار الأوبئة الحيوانية على مستوى العالم وإن %60 من جميع الأمراض المُعدية هي أمراض حيوانية التي هي مرتبطة بصحة النظم الإيكولوجية.
ومن الجدير بالذكر أن تدني النشاط الصناعي والتجارة وحركة وسائط النقل أدى إلى انخفاض ملموس في معدلات انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكاربون ولكن ليس معروفاً بعد عمق واستمرارية هذا التحوّل، فمنذ كانون الأول 2019 عندما ظهر الفايروس في مدينة ووهان الصينية وتفشى في كافة أرجاء المعمورة إلى الحد الذي شخصته منظمة الصحة العالمية كوباء يهدد العالم ، وأدى انخفاض النشاط الصناعي إلى تقليل الانبعاث الكربوني بنسبة %50 والأمر ذاته حسب الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية التي تشير إلى تقلص في ثاني أوكسيد الكاربون نتيجة تدني في مستويات استخدام وسائط النقل على الأرض والجو والتي تؤدي عالمياً إلى %23 من تلوث الهواء حسب الدراسة التي نشرتها جامعة اللوند في السويد , بل ولوحظ في بعض المدن صفاء السماء والذي لم يشاهد منذ فترة طويلة . ولكن في تقرير آخر من معهد تصوير البحار العالمي يؤكد على أهمية تقليص استخدام الوقود الأحفوري بنسبة 10% لمدة سنة على الأقل كي يحقق انخفاضاً ملموساً في الانبعاث الكاربوني. ولكن هذا التطور النسبي لن يدوم بدون إجراءات بنيوية عميقة التي تضمن أن النشاط الصناعي والأقتصادي سيختلف نوعياً عن ما كان عليه الأمر ما قبل الجائحة. وكدليل تمت الإشارة إلى الإحصائية حول انخفاض الانبعاث الكاربوني خلال الأزمة الاقتصادية في 2007-2008 إلا أن سرعان ما زادت الانبعاثات بنسبة 5.1% بعد انتهاء الأزمة وهو الذي يطرح ضرورة حدوث تنمية مستدامة اقتصادية صديقة للبيئة بعد انتهاء أزمة الجائحة عبر رسم سياقات واتخاذ إجراءات تحترم البيئة وتنتهج سياسة تنموية خضراء توفر الحاجات الأساسية للمواطنين وتستخدم مصادر بديلة للطاقة والتكنولوجيا الحديثة .
إلا أن ما توفر من معطيات تشير أيضاً إلى أن انتشار هذه الجائحة أدى إلى انهيارات اقتصادية وصعوبات اجتماعية بسبب تغيير قسري لنمط الحياة التقليدي ترك متغيرات عميقة على المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية ، كما ومن المحتمل أن هذه المتغيرات البيئية مؤقتة تختفي عند عودة نمطية الحياة التقليدية.
وأدى انتشار الجائحة والحجر المنزلي وتقلص النشاط الاقتصادي إلى المزيد من الفقر والصعوبات التي تواجه التعليم في المدارس والمعاهد والكليات والصعوبات الاجتماعية نتيجة البطالة وانعدام الدخل اليومي وارتفاع أسعار السلع الأساسية وهو ذو أبعاد طويلة الأمد والتي تتطلب إجراءات سريعة وحازمة كما أكدتها منظمة أوكسفام الخيرية التي دعت إلى إجراءات لمقاومة الفقر الذي يمكن أن يشمل نصف سكان العالم البالغ 7.8 بليون. وقدرت دراسات أوروبية ومن إستراليا إلى احتمال تدهور الوضع الاقتصادي بنسبة 20% والذي يعني انضمام 548 مليون من البشر إلى خانة الفقر. وحذّرت منظمة الغذاء العالمية (فاو) المهتمة بالأمن الغذائي العالمي من تفاقم نقص الموارد الغذائية وزيادة الجوع والذي عانى منه قبل كوفيد- 19 مايقارب 113 مليون شخص يعيش معظمهم في المناطق الريفية على الزراعة والثروة الحيوانية . وأدت الجائحة إلى تقلص النشاط الموسمي الاقتصادي نتيجة الحجر الصحي وضعف القدرات لبيع المنتجات أو الوصول إلى الأسواق وبالتالي يفقدون مصادر رزقهم الشحيحة والدليل هو ماحدث بعد انتشار مرض الإيبولا في غربي افريقيا عندما تعطلت السلسة الزراعية التي أدت إلى انقطاع سبل العيش نتيجة صعوبات بيع المنتجات وتقلص العمالة الزراعية وزيادة الفقر والجوع وارتفاع أسعار السلع الأساسية والتي أدت بدورها إلى اضطرابات وصراعات اجتماعية . ولذا فإن التصدي لإنتشار الجائحة جانبان صحيّان , الأول وقائي وعلاجي والثاني غذائي واقتصادي . وتتطلب المعالجة الفعّالة لدرء خطر تفشي الوباء وجود سياقات معلّلة علمياً تعتمد على الأدلة الرصينة ومراقبة فعالة متكاملة للرقابة والإشراف على التنفيذ والتعامل الحاسم مع المعوقات السياسية أو المالية أو المجتمعية وأيضاً أن يكون دور التصدي لمخاطر تفشي فايروس كورونا طبيعةً تكاملية تشمل كل الوزارات , لأن التصدي الناجح يتطلب التنسيق والتكامل في التخطيط والمتابعة والمراقبة والإنجاز على الصعيد الوطني, وهذا يشمل العراق أيضاً .
وتكمن مهمة الجهاز التنفيذي المكلف بحماية البيئة في زمن فايروس الكورونا هو العمل على الحد من مصادر التلوث وتحسين نوعية البيئة وصيانة الموارد الطبيعية، مثل خفض نسب تلوث الهواء، والتخلص الآمن من المخلفات الصلبة والمنزلية والمخلفات الطبية , وتوعية المواطنين بالسلوكيات البيئية السليمة وتكثيف الرصد البيئي المستمر للملوثات وتشديد الرقابة على مصادره المحتملة لتخفيف التلوث وهناك أهمية فائقة لمراقبة ومعالجة مياه المجاري والصرف الصحي التي تشكل مصدراً هاماً للتلوث البايولوجي والفايروسي فقد أكدت الدراسات العلمية أن فايروس الكورونا موجود في غائط المصابين بها والذي قد يكون مصدراً جديداً للأمراض عندما تتلوث مياه الشرب بها ، وهوالذي جعل الحكومة الأسترالية في 2020 تنظم برنامجاً صحياً لفحص فايروس كورونا في المجاري ومياه الصرف الصحي عبر تحليل عيّنات منها وإخضاعها للفحص المختبري والبايولوجي للكشف عن الفايروس , وبهدف تقليص
انتشار الفايروس نتيجة التلوث البيئي ,و أيضاً لتحديد مدايات تفشي الوباء في المحافظات التي تعاني من تفشي الفايروس.
ومن المخاطر الآنية نتيجة تفشي هذه الجائحة وخصوصاً في العراق هو ازدياد النفايات الصلبة وحرق النفايات في الهواء الطلق وبدون مراقبة تؤدي إلى تعرض عمال النفايات والمجتمع إلى ملوثات سامة في الهواء وكذلك ازدياد المخلفات الطبية الخطرة من نفايات الأدوية الحادة والنفايات المرضية والمُعدية والنفايات الصيدلانية بما فيها النفايات السامة والكيميائية والمشعّة والنفايات الملوثة بالفايروس من كمامات وملابس وقائية وكفوف وغير ذلك والتي تتطلب التعامل معها بشكل سليم وآمن وعلى أساس بروتوكول معتمد دولياً وبالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية والذي يتطلب جمعها وفصلها وتخزينها ونقلها ومعالجتها والتخلص منها بشكل آمن وسليم والتي يجب أن تشكل جزءاً من استراتيجية الحكومة العراقية طبقاً لأتفاقية عالمية حول معالجة والتعامل مع النفايات الطبية الخطرة ورسم نظام للمتابعة الصارمة للتخلص من النفايات الطبية في المستشفيات والمراكز الطبية، وضمان توفر المهارات اللازمة الرصينة للتعامل معها والتخلص الآمن منها والذي قد يحتاج لمخصصات مالية إضافة إلى تفعيل واستخدام ما هو متوفر من القدرات البشرية والمالية
و هناك أيضاً أهمية خاصة للتعامل مع ملف النفايات بأنواعها المنزلية الصلبة لأنها قد تكون أحد مصادر انتشار الفايروس وتكثيف جهود التخلص الآمن من المخلفات المنزلية الصلبة للحد من احتمالية انتقال العدوى عبر المخلفات، وضمان نظافة الشوارع ونشر إرشادات طرق الوقاية من الفايروس بين العاملين بمنظومة النظافة حفاظاً على سلامتهم، والاستفادة من الوحدات العسكرية والأمنية بمختلف أصنافها لدعم الجهود الرامية للتخلص من النفايات المتراكمة والقيام بحملات لرفعها من الشوارع والمناطق السكنية ومن الترع والأنهار والالتزام بالتعليمات الوقائية.
ولوحظ أن الإصابات بفايروس كرونا في محافظة البصرة هي أكثر من المحافظات العراقية الأخرى وفي محافظة بغداد هي أكثر في منطقة الرصافة بسبب تزايد الأعداد السكانية مقارنةً بمنطقة الكرخ , وخاصةً بين الذين لديهم مناعة ضعيفة.
وعلى الحكومة العراقية الحفاظ على صحة وسلامة المواطن العراقي بأخذ المسحات من الأشخاص المشتبه بإصابتهم بالفايروس , والذي يعني أهمية متزايدة للمسح الاستباقي المجتمعي وتفعيل العزل الذاتي والتباعد الأجتماعي لأن الفايروس ينتقل عن طريق العطاس والرذاذ المتطاير في الهواء .
وهناك أيضاً أهمية فائقة لنشر الوعي البيئي والصحي لترشيد الاستهلاك وعدم الإسراف في شراء وخزن المنتجات الغذائية ، وضمان توفرها للجميع، وخاصة بين العوائل الفقيرة والمتعففة عبر برنامج تتكاتف فيه جهود الحكومة والمواطنين حتى يتم تجاوز هذه الأزمة الخطيرة ، إن الطريق الوحيد للوصول إلى عالم فيه أقل ما يمكن من الملوثات البيولوجية هو توفير بيئة نظيفة صحية عند رسم برامج إعادة الحياة الاقتصادية والصناعية عبر اعتماد المعايير الخضراء والتنمية المستدامة المعتمدة على الاقتصاد الدائري الأخضر وتجنب التجاوز على الأنظمة البيئية الهشة وتحريم تجارة وصيد الحيوانات البرية والأسواق الرطبة لتسويق وتناول لحوم الحيوانات الوحشية والتي تشكل رابع أكبر سوق غير شرعي في العالم .
كل هذا يعني تطوير إطار لبناء اقتصاد عالمي صناعي ومالي من طراز جديد يحافظ على غنى وتنوع الطبيعة والبيئة واعتماد الأسس العضوية لتعزيز القطاع الزراعي والحيواني وتقليص استخدام الأسمدة الكيمياوية ومبيدات الحشرات وتعويضها بأسمدة عضوية والقضاء على الآفات بطرق صديقة للبيئة واستخدام طرق حديثة للري لتقليص هدر المياه وزيادة المساحات الخضر وصولاً إلى تعزيز الأمن الغذائي الوطني والعالمي . وعلى صعيد البيئة عالمياً ، يجب بذل الجهود لتمكين قدرات الطبيعة على إعادة التوازن البيئي خاصة مع تزايد مخاطر الانحباس الحراري والتغير المناخي وتزايد انبعاثات الكاربون وبالاستفادة من البيئة ذاتها فمثلاً المحافظة على الغابات الاستوائية ومنع صيد بعض الحيوانات وأهمها الحيتان التي كشفت دراسات حديثة نشرت في 2014 إنها تلعب دوراً في تقليل الانبعاث الكاربوني بخزن كميات كبيرة من الكاربون في أجسامها وأيضاً إدارة مستدامة للحياة الوحشية من حيوانات ونباتات في المحميات الطبيعية والغابات ومنع الصيد الجائر والتجارة غير القانونية بالحيوانات أو بعض أجزائها . ومعظم هذه التوجهات تنطبق على العراق الذي يجب أن يعتمد بعد انتهاء جائحة فايروس كورونا المستجد على تعزيز التنمية المستدامة وسياقات ورؤى معتمدة على الاقتصاد الأخضر الدائري الصديق للبيئة العراقية, وزيادة المساحات الخضر وغابات النخيل.
* الخبيرة في شؤون البيئة والصحة
مؤسسة ورئيسة جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة
تعليقات الزوار
Ahmad SHIKARA
مقال مهم جدا يجب التعمق في كل مضامبنه التي تتخص بحماية البيئية متلازمة مع الحفاظ على الامن الصحي والوطني بشكل استراتيجي شامل