فيلم  البُؤساء  .. هكذا يُصنع العنف في الأمم

فيلم البُؤساء .. هكذا يُصنع العنف في الأمم

عبد المنعم أديب

هكذا يُصنع العنف، وهكذا تقف الأمم عند الحدود الفاصلة في طريقها الحضاريّ، وهكذا تتشكل الأخلاق والحالات النفسيَّة العامَّة التي تسيطر على المجتمع كلَّه ..

يُصوِّر تلك الكيفيات بدَّقةٍ الفيلمُ الفرنسيُّ "البُؤساء" ( Les Misérables ). هذا هو القصد الرئيس الذي صرَّح به صُنَّاع العمل؛ وبعدَهُ الفيلم يتضمَّن الكثير من الدلالات والمعاني الأخرى التي لا يستطيع أحدٌ تجاهُلها نُظِمَتْ في طيَّات فيلم سيستجلب احترامك.

فيلم "البُؤساء" فيلم فرنسيّ، من إنتاج 2019. أخرجه مُخرج الأفلام الوثائقيَّة لادج لي ليكون أوَّل أفلامه الدراميَّة؛ بعد أن أخرجه فيلماً قصيراً من قبل عام 2017. الفيلم من تأليف مُشارك للمخرج، وأليكسيس مانينتي، وجيوردانو جيديرليني. من تمثيل داميان بونار، جبريل زونجا، والمؤلف مانينتي. الفيلم من تصنيف دراما، إثارة. 

يبدأ الفيلم بلحظة الانتصار التي حظي بها "المجتمع" الفرنسيّ عندما حصل فريقه لكرة القدم على بطولة "كأس العالَم" 2018. وفي لقطات تشبه اللقطات في الأفلام التسجيليَّة نرى كيف يلتقي الشعب ليجتمع سويًّا من كل الشوارع الضيقة إلى الميادين الفسيحة، وكيف يتلفَّح بالعلم الفرنسيّ مَنْ هم من أصل عربيّ، ومَن هم من أصل إفريقيّ، مع مَن هم من أصل أوروبيّ. نرى في لقطات ما قبل شارة الاسم ذلك الهياج الهستيريّ للجموع الغفيرة التي تكتظّ بها شوارع مدينة باريس، ومنطقة قوس النصر الشهيرة؛ مزيج غير عاديّ من الأعراق والأجناس والألوان لا يجمع بينهم إلا شعور الفرح الغامر بالنصر الكبير.

ثمَّ يسترعي نظرنا لقطة أراد المُخرج فيها أنْ يضع يافعِينَ من السُّود ومن رؤوسهم ينبثق "برج إيفل" الممتدّ بعيداً نحو السماء. فهل قصد بها أنَّ البرج الذي هو رمز من رموز فرنسا يظلُّهم بهيبته وعنفوانه، أمْ قصد بها أنَّهم المؤسِّسون الجُدُد لنهضة الدولة كما فعل الأولون؟! .. ثمَّ بعد التحام الجميع في قوس النصر نجد الكاميرا ترتفع عنهم ليُكتب اسم الفيلم فوق الجميع؛ وكأنَّه يصف حال المجتمع كلِّه: هؤلاء هم "البُؤساء".

تبدأ الأحداث عندما يَفِد ضابط شرطة يُدعى "رويز" إلى إحدى ضواحي باريس تُسمَّى "مونتفيرميل" في غمرة سعادة المجتمع بالفوز. وما بين التنمُّر الذي يلقاه من زميلَيْهِ كريس وجواداً في العمل -لكونه آتيًا من مناطق الريف الفرنسيّ-، وبين ما تُدلِي به أطراف الأحاديث بينهم وبين بقيَّة الزملاء ورئيسته نكتشف مدى التمزُّق المصاب به المجتمع الفرنسيّ في ثناياه. فالشرطة تشعر بالعجز وبأنَّها الطرف الأضعف، أو على التقدير الأقصى طرف من الأطراف ليس المُسيطر كما ينبغي أن يكون الوضع. والرئيسة تقول له نحن فريق وجِهَة إذا لمْ نتحد ستأكلُّنا "وحشيَّة العالَم الخارجيّ"! يقصدون به المجتمع.

الجريمة منتشرة في كل مكان بل هناك أحياء هي بُؤر لتوزيع جميع أنواع المخدرات، وللترويج للرذيلة لا تستطيع الشرطة دخولها، ثمَّ صارت تدخلها على استحياء شديد حيث لا تأثير لها هناك في ميزان القوَّة. وفي داخل هذه الأحياء سلطات أخرى مُوازية، وهناك عمدة لهم من السُّود. كل هذا يُشعر الشرطة بالضعف والوِحدة الذي به تستقوي ببقيَّة أعضائها ليُساندوها.

وهناك فئة تُسمِّيها الشرطة "وحدة الجرائم الخطيرة" أو الإخوان "إم" أو "الإخوان المسلمين" -لا يتعلقون بجماعة الإخوان المعروفة، بل هو مجرد اسم أطلقه الفرنسيون عليهم- وهم طائفة من المسلمين الأفارقة الصالحين أو الذين كانوا مجرمين ثمَّ تابوا. هذه الفئة هي التي حاربت الجريمة وأعادت النظام إلى بعض الأحياء الخطيرة. ونرى الضابط "جواداً" يروي هذه الأحداث نصًّاً في أول الفيلم لصديقه الوافد الجديد. كما أنَّ هناك فوق السابقين بعض الفئات التي لا تنتمي لأحد وهُم "الغجر" وهي فئة موجودة في غالب المجتمعات لا تشعر بأيّ انتماء لأيَّة دولة إلا لأنفسها ووحدة جماعتها فقط. بعض منهم كان في الفيلم مُؤسِّساً سِيركاً به حيوانات وعروض كاملة. وهناك فئات أخرى غير هؤلاء وهم المهاجرون من بلاد غير إفريقيَّة والذين يتنازعون على الوجود في ظلّ هذه الجبهات المُتعددة وظهر في الفيلم منهم بعض التجار من باكستان.

وهناك أخيراً الجيل الصاعد وهُم الشبان اليافعون الأفارقة وغير الأفارقة الذين أتوا بعد ولادتهم إلى فرنسا أو وُلدوا فيها. وهؤلاء لمْ يتشكَّلوا بعدُ أو هم في طور التشكُّل بالفعل. ونسمع أحاديثهم التي تتمحور حول ضراوة المجتمع القَبَليّ الإفريقيّ في مناطق أصولهم، وكيف أنَّ أحلامهم أبسط من الجميع؛ يحلمون باللعب هانئين بأبسط الأشياء؛ حيث يُرينا المشهد تزحلقهم فوق أغطية سلات القُمامة في أحد الملاعب. ويبرز من ضمنهم طفلان "باز" وهو الطفل المنطوي الذي يمتلك طائرة محمولة تسير آليًّا وتُسمَّى "دُرُون" يستمتع بمراقبة الجميع بها، و"عيسى" الذي سيصبح بطل الأحداث. هذه هي مُؤسِّسات المشهد الكُلِّيّ الذي ظهر في الفيلم، والذي ستراه في واقع المجتمع الفرنسيّ الحاليّ.

لكنَّ صاحبنا "رويز" لمْ يكن يعلم أنَّ أول أيامه في الضاحية سيكون أصعب الأيام على الإطلاق ففي جولة سيارة الشرطة مع زميلَيْه يقفون عند السوق ويجولون ليُعرِّفا الأقدمانِ زميلَهُما بالبيئة التي سيتعامل معها. ثمَّ يُفاجأ الجميع بمَن يصرخ بتهديدات عنيفة للغاية من مُكبر صوت. يُسرع أبطالنا لمعرفة الأمر حتى تكتشف أنَّ الغجر أصحاب السيرك هم أصحاب التهديد؛ يدَّعون فيه أنَّ طفلاً أسود البشرة جاء إلى سيركهم وخطف شبلاً من الأشبال الصغيرة. وقد ذهب هؤلاء الغجر إلى عُمدة السود ليُهدِّدوه، وبعد تدخُّل الشرطة التي لا تستطيع السيطرة على المشهد يعطي الغجر مُهلة يوم واحد ليعود الشبل إليهم وإلا سيحرقون الحيّ عن آخره.

يتعقَّد المشهد تمامًا وتتوتر الأجواء ويعرف الوافد الجديد أنَّ أيام الهناء في الكُتُب فقط. يلجأ الشرطيون لحلّ هذه المعضلة إلى "صلاح" المجرم التائب. وهو مسلم إفريقيّ ذو مكانة ومركز يهابه الجميع دون استثناء حتى الشرطة، بعد توبته فتح مطعماً ليرتزق بالحلال وهو يقف ضدّ الأعمال الإجراميَّة التي يتورط فيها الأفارقة زملاؤه. ويبحثون أيضاً عبر موقع "انستجرام" لمعرفتهم أنَّ الطفل الأسود الخاطف سيُعلن عن نفسه مُتفاخراً عبر صورة يبثُّها عليه. وبعد بعض البحث يهتدي الشرطيّ كريس إلى الطفل من خلال الموقع، ويعرف أنَّه "عيسى" الطفل شديد المشاغبة الذي نراه في أوَّل اليوم في مقرّ الشرطة مُتهمًا بسرقة دجاج حيّ.

وبعد بحث عن الطفل في بيته وفي الجوار يهتدون إليه يلعب الكرة. يحاولون الإمساك به ولكنَّهم يقعون في مشكلات عديدة أولها عند دخولهم أرض الملعب حيث سارعوا بالعنف وتهديد الأطفال الموجودين، لم يسيطروا على أطفال بحِكمة الكبار البسيطة بل واجهوهم رجلاً لرجُلٍ. وبذلك جعلوا من أنفسهم فريقاً وجعلوا الأطفال فريقًا في المُقابل، وبدلاً عن أنْ يطبقوا القانون صنعوا تفرقة وجدانيَّة بها لمْ ينصَعْ الأطفال لهم لأنَّهم لا يتعاملون مع سلطة إنَّما مع أشخاص يريدون الضرر بفرد منهم. وبالفعل يُصاب جوادا عن طريق الخطأ برشَّاش الفلفل المُلهب للعينينِ. ثم يستطيع الطفل عيسى الإفلات من كريس والهرب، فيبدأ الجميع في مطاردة طفل صغير بمنتهى الضراوة والقسوة وكأنَّه مجرم دوليّ.

تتصاعد الأحداث وعيسى يهرب والجميع من الشرطة زملائه يسعون خلفه. وفي نقطة متطرفة من المباني يُمسك أفراد الشرطة بالطفل، ويحاولون السيطرة عليه مع إبعاد الأطفال الآخرين. يتصاعد اعتراض الأطفال الآخرين بشدة ويكادون يقتربون من الطفل. ومع الضيق الشديد الذي يشعر به جوادا يطلق رصاص الخرطوش -وهو رصاص مطاطيّ لا يقتل إلا إذا وُجِّه إلى منطقة حساسة للإنسان- على الطفل عيسى ليُرديه أرضًا. يُذهل الجميع للحظة مرَّتْ كعامٍ عليهم، وقبل أنْ يبدأ أحد في أيّ تصرُّف وفي ظلّ السكون التامّ المُسيطر على المشهد يسمعون صوت طائرة الطفل باز المُسيَّرة عن بُعد وقد صوَّرتْ أحداث الجريمة كاملة.

لا يصف المشهد الحاليّ إلا وصف التهوُّر الذي سيطر على الكبير والصغير، ودفع الجميع الراشدين وغير الراشدين إلى حافة التصرفات الجنونيَّة. الأطفال يريدون أن يثأروا من الشرطة التي وضعت نفسها ضدًّا لهم، والضابط الرقيق رويز يريد الاطمئنان على الطفل عيسى، والضابطان كريس وجوادا يريدان أن يُدركا أمر تصويرهما الذي سيكون كالصاعقة الجهنميَّة التي ستحرق الجميع في وقت واحد إنْ كُشف سرُّهما؛ فمن ناحية سيفصلون من عملهم، ومن وناحية أخرى سيندفع السود من كل مكان إلى انتقام لا رادع له، وقبل كل شيء وبعده إنْ لم يُعيدوا الشبل إلى السيرك سيعود الغجر بنيران مسدساتهم. وفي ظلّ توتر ليس بعد توتر يندفع الجميع نحو إدراك الأمر قبل الانفجار ولكنْ هل سينجحون؟

إنَّنا أمام فيلم ذكيّ يعرف كيف يُدير العمل ليصل بنا إلى ما يريده بدقَّة. وسرعان ما ستختبر هذا بنفسك في تجربة مشاهدة يتصاعد فيها الفيلم من مراحل الملل التي تبدو في أوله إلى مراحل الإثارة الفائقة، إلى أنْ يؤدي بكل ذهن سيشاهده إلى قضيَّة الفيلم الرئيسة التي يريدها ليضعها أمام عينيك كتابةً. ولعل رسائل الفيلم تبدأ من اسمه "البُؤساء" حيث هو اسم إحدى أشهر الروايات على الإطلاق التي كتبها الكاتب الفرنسيّ الشهير "فيكتور هيجو"، كذلك دارت أحداث الفيلم في الضاحية نفسها التي عاش فيها "هيجو"، وذكر الكتاب بالنصّ مرَّاتٍ في الفيلم. بل اتخذ وسيلة لشيئَيْن أولهما الدلالة على البؤساء أو هذا المجتمع الذي حُرِمَ من كلّ صفات المجتمع الصحيَّة الواجب توافرها، وكذلك ما يعانيه من مشكلات جعلت منهم "بؤساء".

قدَّم لنا كلَّ هذه المعاني فيلمٌ أُدِيرَ بذكاء ليجمع ما بين سمت التوثيق في أوَّله، ثم يتخلَّص منه شيئًا فشيئًا كلَّما تقدمت الأحداث ليكون سينمائيًّا خالصًا مع نصفه الأخير. وقد قصد الصانعون هذا السمت في أول الفيلم وكأنَّه رصد مباشر موضوعيّ ليس فيه رأي ولا تدخُّل، ثمَّ أداروا عناصر قصتهم ليُدّلوك على ما قصدوا له منذ البدء وليقولوا: هؤلاء شباب يافعون فإمَّا أنْ يكونوا أداةً لبنائه وإمَّا أنْ يكونوا مِعولك لهدمه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top