الدفاع الاجتماعي بين التعليم والقضاء

آراء وأفكار 2020/05/12 09:25:55 م

الدفاع الاجتماعي بين التعليم والقضاء

 القاضي سالم روضان الموسوي

إن مفهوم الدفاع الاجتماعي هو مُصطلح تناوله علم الاجتماع وأشار إليه المختصون، هو العمل المدني الذي يقوم به المجتمع لمواجهة اعتداء يهدّد كيانه سواء كان التهديد من أفراد في حالة الجريمة أو في شكل جماعات منظمة مثل المافيات وحتى أنظمة الحكم الاستبدادية أو الديكتاتورية،

ويعتبر مفهوم الدفاع الاجتماعي من المفاهيم المتشعبة والتي ترتبط بأكثر من مجال علمي ونشاط اجتماعي، إلا أن الغالب عليه ارتباطه بالسياسة الجنائية وبعلم الاجتماع الجنائي الذي هو من فروع علم الاجتماع، ولست بصدد مناقشة ذلك وأترك الأمر لمن يريد المزيد بالرجوع إلى كتب الاختصاص، لكن ما لفت الانتباه إن الدفاع الاجتماعي الذي شاع استخدامه باعتباره من وسائل الحماية للمجتمع قد أثبت أنه الوسيلة الوحيدة والفعالة لتحقيق الأمن الاجتماعي، ولم يقتصر دوره على عزل المجرم ومعاقبته، وإنما أخذ أشكال وصور متعددة منها تقديم الخدمة الاجتماعية الطوعية والقسرية، والشاهد على ذلك، الأزمة الخانقة الحالية التي تمر بها الإنسانية من جائحة كورونا، وكيف نهضت المجتمعات من تلقاء نفسها للدفاع عن وجودها عبر إدامة زخم الحياة في التكافل الاجتماعي والعمل التطوعي الجماعي والمبادرات الفردية والجماعية لمواجهة نقص الغذاء ونقص الموارد الصحية وتوفير الأمن وغيرها، وفي العراق كان لتلك المبادرات أثرٌ في تخفيف العبء على المواطنين المصنفين في خط الفقر أو أصحاب الأجور اليومية من الكسبة والعمال وغيرهم بعدما فشلت الدولة بذلك، مثلما كان لها أثر واضح في حماية المجتمع بعد سقوط الدولة والنظام عام 2003 حيث برزت وحدات الحماية الاجتماعية الذاتية وسيّرت الأمور إلى حين وصول النظام الحالي إلى سدة الحكم، لذلك يعتبر الدفاع الاجتماعي من أفضل السبل لمواجهة الإخطار التي تحيق بأي مجتمع، والمفروض أن تهتم به الأنظمة وتعزّز من أسباب قوته ، وأن توفر له الإمكانيات اللازمة، سواء بوجود بيئة تشريعية مناسبة عبر إصدار قوانين ذات صلة توفر الدعم لمبادرات الدفاع الاجتماعي، أو إيجاد موارد بشرية ومالية، وكذلك بيئة قضائية تدرك معنى الدفاع الاجتماعي عبر توفير الكوادر المدربة على كيفية التعامل مع تلك الوسيلة سواء في الأزمات أو في الظروف العادية، وأن يكون الاهتمام متواصلاً ولا يقف عند الأزمات وينتهي بانتهائها ، لأن الدفاع الاجتماعي بمثابة الحماية الذاتية التي يتوفر عليها جسم الإنسان فأنه يتعرض إلى الخطر عندما تضعف تلك الحماية ويصبح واهناً ومعتلاً، وهذا يقودنا إلى ملاحظة أي كلفة يتحملها المجتمع عند توفير تلك الوسيلة الحمائية وهل تشكل عبئاً على الدولة ، أم إنها تكون أقل بكثير من معالجة أثار الأخطار التي تظهر من جراء ضعف الحماية بالدفاع الاجتماعي أو انعدامها، فإذا كان مجرد توفير وسائل الحماية عبر العقوبة على الجاني فإننا لم نحمي المجتمع من وقوع الجريمة وإنما زدنا الكلفة عليه بوقوع الجناية والضرر الذي ترتب عنها، وكلفة إعادة تأهيل المجنى عليه وتعويضه ، وفي العراق لاحظنا حجم الأموال التي صرفت وأنفقت على ضحايا الإرهاب سواء من الدولة وأنظمتها منذ 8/شباط/1963 وكذلك منذ عام 1969 وعلى وفق ما جاء في المادة (5) من قانون مؤسسة السجناء السياسيين ومن ثم تعويض ضحايا الإرهاب بعد عام 2003 ، أو من جراء الأعمال الإرهابية، وهذه الأموال قد أثرت على تنفيذ الخطط التنموية للنهوض بالبلاد، كذلك حجم الأموال التي سُرقت عبر بوابة الفساد المالي والإداري والحال الذي وصل إلى عدم إمكانية تأمين الرواتب التقاعدية لشريحة كبيرة من المصنفين بالفقراء، فهذه كلف كبيرة جداً وباهظة، حتى لو أن القضاء تعامل معها على أنها جرائم وعاقب مرتكبيها بأشد العقوبات، فإن هذا الإجراء هو بحد ذاته كلفة إضافية، سواء من حيث قيمة الأموال المخصصة للمؤسسات القضائية التي تتولى تطبيق القانون أو من جهات الرقابة الأمنية والإدارية أو قوات إنفاذ القانون، أو الأموال المخصصة لدوائر الإصلاح التي هي دوائر عقاب فقط ولا إصلاح فيها وهي السجون وإنما أصبحت مفاقس لأجيال من المجرمين، لذلك فإن اعتبار محاربة تلك الجريمة في مجال القضاء فقط، هو غير فعال لأنه يعاقب ولا يصلح ولا يقي المجتمع من وقوع الجرائم عليه، مع كلفته العالية والباهظة، لكن لا مناص من وجود الدفاع الاجتماعي وهو آلية تظهر في المجتمع تلقائيا لمواجهة أي خطر يهدده سواء كانت الدولة متواجدة وقائمة أو غائبة، فهذه الوسيلة من الممكن أن نوفرها للمجتمع وبكلفة أقل كثيراً من كلفتها العقابية، وأن نهتم بحماية الأفراد من الجنوح إلى الجريمة قبل وقوعها عبر البرامج التربوية والتعليمية الصحيحة لأن وجود مجتمع متعلم كفيل بتقليل فرص نجاح المجرم في تنفيذ في فعله الإجرامي ، سواء كانت الجريمة فردية أو جماعية تقوم بها الأنظمة الدكتاتورية وبكل مسمياتها الحزبية والمجتمعية والدينية وغيرها من أساليب التمويه والاحتيال، ويقول المفكر الايرلندي ادموند بيرك (التعليم هو الدفاع الرخيص للأمم) بمعنى إن كلفة التعليم هو أفضل وسيلة لأنها بكلفة أقل وسوف تعطي لنا مجتمعاً متعلماً غير جاهل يستطيع حماية نفسه من أعضائه الذين يصيبهم داء الجنوح نحو سرقة المال العام والخاص أو الذين يصيبهم حب التسلط والتفرد والتكبر على أقرانهم من طائفة وظائفهم، لأن الجاهل هو أفضل وسيلة للأجرام والمجتمع الجاهل هو البيئة الأفضل التي تنبت فيها العبودية لأنها تنبت في أي تربة تتوفر لها وكما يقول بيرك (العبودية نبتة ضارة تنمو على كل تربة)، لكن كيف لنا أن ننهض بالتعليم، ونحن نرى إن أعداد أصحاب الشهادات في تزايد ونمو مضطرد وإن مفاصل الدولة فيها عشرات الآلاف من الأشخاص أصحاب الشهادات والتحصيل العالي ، ومع ذلك فإن الفساد قائم ومستشرٍ وعلني وعلى رؤوس الأشهاد، وفي هذا الصدد أرى أن التعليم هو ليس الحصول على شهادة فقط ، وإنما التعليم هو وجود قطاع تربوي حقيقي يتولاه من آمن بالتعليم باعتباره رسالة الأنبياء، وتكليفهم الرباني، وفي القرآن نجد أن الله بدأ خطابه إلى النبي الأكرم ( أقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (، وقد يقول المعترض ومن أين لنا بهؤلاء المعلمين المؤمنين برسالة التعليم ، وأقول إن المقصود ليس فقط بالمدارس وإنما في كل القطاعات لابد من وجود من يؤمن بالتعليم، ولا تخلو طائفة وظيفية أو صنف من صنوف العمل في الدولة من الحاجة إلى التعليم المستمر والمتواصل والبحث العلمي، وفيها طاقات كبيرة ونافعة ومؤمنة برسالتها وإيمانها بالله وبخدمة الناس، لكن نحتاج قبل ذلك أن نمكن أهل الاختصاص وأن نقدمهم على أهل المحسوبية في تقلد الوظائف، لأن بقاء الحال في التعيين وتقلد المناصب على أساس التملق والتزلف وتحقيق الرغبات الشخصية لفلان المتنفذ والمتحكم، سوف لن يؤدي إلى وجود مجتمع سليم ونقي من الظواهر الفاسدة، ويقول بيرك (كل ما يلزم لقوى الشر كي تنتصر في العالم هو عدم قيام الجيدين بما يكفي لأي شيء)، وفي هذا القول إشارة إلى أن نقف بوجه الانحدار الوظيفي حتى نحمي مجتمعنا من السقوط نحو الهاوية، لأن من أسباب سقوط الدول والمجتمعات ما رواها أمام المتقين وقائد المصلحين الإمام علي بن ابي طالب (ع) بقوله (يستدل على إدبار الدول بأربع: تضييع الأصول، والتمسك بالفروع، وتقديم الأراذل، وتأخير الأفاضل) ، وفي قوله (ع) إشارة واضحة إلى أن عدم الاهتمام بالطاقات والكفاءات والاعتماد على أراذل القوم وهم المداحون والطبّالون والانتهازيون في تقلد الوظائف، تعتبر من أهم أسباب الفشل، وهذا فعلاً ما يحصل الآن في العراق مع الآسف، لذلك نأمل أن يلتفت الشعب إلى أن يوفر لنفسه الحماية والدفاع الاجتماعي عبر اختيار الصالح عند حصول الانتخابات المقبلة وأن يتم الضغط السلمي لتغيير آليات الانتخاب حتى نضمن وصول الجيد وطرد الخبيث، كذلك على الشعب حماية التعليم وجعله من أهم ما تهتم به الفعاليات الاجتماعية، لأنه أمضى حتى من القضاء في معالجة الأخطار التي تحيق بالمجتمع، لأن للتعليم دور وقائي ، ويكون قبل وقوع الجريمة والضرر، بينما القضاء يأتي لاحقاً عليها ومهمته معاقبة ومساءلة الجاني في ضوء القانون النافذ، وعادة ما يكون القانون وسيلة الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، وما حصل في العراق خير شاهد حيث شرعت قوانين لحماية مصالح فئوية وفي النظام السابق وجدت القوانين لحماية السلطة والتضييق على الشعب وكانت أحكام الإعدام تصدر باسم القانون، وكذلك حماية بعض الفاسدين من خلال شمولهم بقوانين العفو العام والخاص وغيرها من الوسائل التشريعية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top