انتظار. . فيلم تجريبي مشذّب مثل ومضة شعرية

انتظار. . فيلم تجريبي مشذّب مثل ومضة شعرية

عدنان حسين أحمد

ينحو المخرج محمد توفيق في أفلامه الأخيرة منحىً تجريبياً ينطوي على قدر كبير من جرأة المُبدع الفذّ الذي يذهب في المغامرة إلى أقصىاها، ففي يونيو /حزيران عام 2019 أنجز محمد توفيق فيلم "أحمر وأخضر"

الذي راهنَ فيه على حاسة السمع وغياب الصورة لكنه نجح أيما نجاح في إيصال مضمون الرسالة البصرية التي استفزّت مخيّلة المتلّقي العضوي الذي يتفاعل مع القصة السينمائية مهما كان شكلها أو مضمونها، مبناها أو معناها، ويتماهى مع أحداثها إلى الدرجة التي تؤهِّله لأن يراقب الفيلم من الداخل والخارج في آنٍ معًا. وفي هذا العام أنجز محمد توفيق فيلماً تجريبياً مكثفاً لا تتجاوز مدته العشر دقائق لكن ثيمة الانتظار قد تظل مفتوحة إلى الأبد إذا ما أتقن المخرج اشتراطات اللعبة الفنية. فهذا النمط من الأفلام الروائية القصيرة يشبه إلى حدّ كبير قصائد الهايكو اليابانية التي تعتمد على الومضة أو اللحظة التنويرية التي تبرق في ذهن المتلقي ولا تغادره بسهولة. وأفلام محمد توفيق التجريبية الأخيرة تعتمد على هذه التقنية المركّزة التي تُراهن على الوخزة أو الضربة الفنية الصادمة التي تهزّ المُشاهد وتلامس مشاعره الداخلية المُرهفة، وتنقله إلى فضاء اللذّة الإبداعية المنشودة. وفي فيلمه الجديد "انتظار" بطولة الفنان فاروق داود، وتصوير ومُونتاج الفنانة والمخرجة رانيا توفيق يحْبِك المخرج قصته السينمائية ويرويها بلا حوار تاركاً المجال أمام السرد البصري الذي لا يعوِّل على الكلمة أو الحوار في بناء الهيكل المعماري لأقصوصة الفيلم التي يمكن إيجازها بالشكل الآتي:"ثمة رجل في عَقده السادس أو أكبر قليلاً ينتظر قدوم امرأة عزيزة على القلب والروح بحيث ينظِّف لها كل أرجاء البيت بمكنسته الكهربائية، وينظِّم لها المائدة والسرير على وفق ذائقته الراقية، ثم يذهب إلى محل الزهور ليقتني لها باقة ورد جميلة، وينتظرها في محطة القطار لكنها لم تأتِ في الموعد المُتفق عليه، فيرمي باقة الورد بمحاذاة الطريق ويعود إلى شقّته يائسًا، مخذولاً، مُنكسر الفؤاد". 

لقد تآزر المُخرج محمد توفيق مع الممثل فاروق داود على إنجاح عملية السرد البصري، فالتجريب يكاد يكون صُنوًّا لمحمد، فهو شغوف إلى حدّ الولع بهذا النمط الإبداعي الذي ينطوي على تحديات جديّة لا تخلو من المجازفة غير أنّ رهانه لم يذهب أدراج الرياح لأنه كان متيّقنًا إلى حدٍ كبير بأن فاروق داود يعرف أسرار اللعبة الفنية، فهو مُخرج، ومونتير، وممثل، وقد عرفناه في سنوات يفاعته وشبابه ممثلاً مُجوِّداً لعب أدواراً مهمة في مسرحيات المخرج صلاح القصب مثل "دون جوان"و "المُحاكمة"و "مشلوش يطارد القتلة"، كما أنّ خبرته الإخراجية والمونتاجية سهّلت عليه ما يريده المخرج محمد توفيق من تجسيد مراحل الانتظار التي تبدأ بتنظيف الطاولة وتغطيتها بشرشف نظيف، ووضع صحنيّ طعام فقط، إضافة إلى الشوكة والملعقة، ثم تبديل شرشف السرير وإظهاره بالمظهر الذي يليق بهذا اللقاء العاطفي المفتوح على إحتمالات عدة تاركًا لمخيّلة المُشاهدين أن تملأ الفراغات بالطريقة التي تراها مناسبة طالما أنّ الفيلم يخلو من اللغة المنطوقة والحوار. وعلى الرغم من أنّ الكثيرين يعدّون البانتومايم لغة مفهومة وقادرة على إيصال ما تنقله الكلمات من معاني ومجازات مختلفة. يبلغ فاروق داود ذروته التعبيرية في الأداء حينما يقف على رصيف المحطة منتظراً وصول السيدة المُرتَقبة التي لم نعرف سنّها أو مظهرها الخارجي لكنه حينما يشعر ببعض الإحباط إثر مرور ثلاثة أو أربعة قطارات من دون أن تترجّل منها هذه المرأة أو السيدة أو الفتاة ربما نسمع ردّها الصوتي المسجّل الذي يوحي بحيوية ونشاط واضحين وكأنها أصغر من التوقّع العمري التي رسمته مُخيلات المتلقّين. حينما يعود المُنتظِر من موعده مخذولاً يلقي بهدوء باقة الورد على أرضية حديقة عامة ويمضي إلى شقّته نسمع قطرات المطر المتساقطة على مظلته السوداء التي تُذكِّرنا بفيلم "المطر" للمُخرجَين الهولنديين مانوس فرانكن ويورس إيفنز وهو من الأفلام المتفردة في السينما الوثائقية الهولندية. كما أن فكرة "الانتظار" بحد ذاتها تُحيلنا إلى مسرحية "في انتظار غودو" للروائي والكاتب المسرحي الآيرلندي صاموئيل بيكيت التي تقول ثيمتها الرئيسة:"لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، إنه لأمر فظيع". وهذه الإحالة أو التذكير السابق لا يعنيان التأثر والتأثير ولا حتى التلاقح النصيّ، وإنما اختلاف وجهات النظر، وتنوّع المقاربات الفنية في معالجة فكرتيّ "المطر" و "الانتظار" مع التأكيد على تفرّد معالجة توفيق لهاتين الفكرتين التي تؤكد خصوصيته كمُخرج شاعري مرهف الحسّ تتراكم خبرته البصرية فيلماً إثر فيلم.

لا تستقيم الأفلام برمتها من دون مونتير فهو الذي يُعيد الحياة إلى المواد المُصّورة Rushes ويبنيها مع المخرج بناءً مُحكماً، وهذا الأمر لم يتحقق بهذا النجاح المُبهر لولا اللمسة المُونتاجية المتميزة للمونتيرة والمُصورة والمُخرجة أيضًا رانيا توفيق، فهي من أسرة سينمائية مُحترفة تزداد خبرة يوماً بعد يوم، وقد صوّرت هذا الفيلم بطريقة مُقتصدة جداً لأنها تُدرك سلفاً ما تحتاج إليه الثيمة الرئيسة والأفكار المؤازرة لها، وقد بنَت القصة البصرية على وفق هذا المنظور الاحترافي الذي لا يميل إلى الترهّل والثرثرة البصرية التي تُثقل كاهل الفيلم السينمائي القصير الذي يقتصد بكل شيء حتى يُصبح مثل قصيدة البيت الشعري الواحد الذي يُوجز مجمل الفكرة السينمائية بصورة شعرية واحدة تظل تشع مثل ومضة ساطعة في ليل بهيم.

غابَ السيناريو المكتوب والحوار لكن الصوت لم يغب، بل حضر على شكل ثلاث أغانٍ معروفة للفنانة الكبيرة فيروز غطّت قصة الفيلم منذ اللحظة الاستهلالية حتى اللحظة الختامية. وأكثر من ذلك فقد اجترح محمد توفيق الكثير من معالم قصته السينمائية من هذه الأغاني الثلاث وهي على التوالي: "شايف البحر شو كبير؟" و "أدّيش كان في ناس؟" و "أمس انتهينا". ففي الأغنية الأولى ثمة "انتظار" يتكرر غير مرّة في سياق هذه الأغنية العاطفية، وفي الأغنية الثانية يتكرر هذا الانتظار لكن بصيغة الجمع "أدّيش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس؟" وفي الأغنية الثالثة تطلب الساردة من صاحب الوعد أن يخلّي الوعد نسيانا، الأمر الذي ينسجم مع البناء السردي للفيلم. بل أن الراوية تضع البطل أمام مفارقة كبيرة فهو ينتظر قدوم حبيبته في أيام الشتاء تحت مظلته المطرية وهذا أمر طبيعي لكن العاشقة في الأغنية تتألم كثيراً لأن حبيبها لم ينتظرها حتى في أيام الصحو التي هي أهون بكثير من أيام الشتاء الباردة والممطرة والمتقلّبة.

لابدّ من الإشارة في خاتمة المطاف إلى أنّ محمد توفيق قد أنجز أكثر من عشرين فيلماً وثائقياً وروائياً قصيراً نذكر منها (مسيرة الاستسلام، يوميات مقاتل، أم علي، الطفل واللعبة، الناطور، صائد الأضواء، شاعر القصبة، الفصول الأربعة وأنا، نورا، أحمر وأخضر، و انتظار)، مدار هذه الدراسة النقدية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top