«عمَّ يتساءلون» - 3-

«عمَّ يتساءلون» - 3-

صلاح نيازي

ولكن قبل ذلك، لابد من اقتباس ما ذكره الطبري، لأن ذلك يعيننا في تبرير ما جاء في بداية السورة من حوار بين اثنين. يقول الطبري:

«القول في تأويل قوله تعالى «عمَّ يتساءلون، عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلاّ سوف يعلمون ثم كلاّ سوف يعلمون». يقول تعالى ذكره عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد وقيل له ذلك (ص) وذلك أن قريشاً جعلت فيما ذكر عنهم تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله (ص) من الإقرار بنبوته والتصديق بما جاء من عند الله، والإيمان بالبعث، فقال لنبيه فيما يتساءل هؤلاء ويتخاصمون... قال أبو جعفر: ثم أخبر نبيّه (ص) عن الذين يتساءلون فقال يتساءلون عن النبأ العظيم يعني عن الخبر العظيم...».

على الرغم من أن الطبري وقع في تناقض في أمر السائل، ففي البداية كان الله يسأل من نبيّه، ثم يعود ويذكر: «اخبر الله نبيّه» الا أنه فتح لنا باباً جديداً لتصوّر الآيتين الأوليين.

تبدأ السورة إذن بحوار، بين شخص وصاحبه أو أن الشخص كان يتحدث إلى نفسه.

السؤال بـ «عمَّ» يدل على الاستغراب والمفاجأة وكأن السائل لا يكاد يصدق ما يسمع من لغط. وهي أي «عمَّ»، سريعة وكأنها مقطوعة النفس من عجب. وبالمقارنة فإن القراءة الثانية: «عمّا» وبوجود الألف في نهايتها توحي بالبطء، وكأن السائل لا علاقة له بما يجري. إلى ذلك تصبح الجملة سردية خالية من الاستنكار.

أما القراءة الثالثة: عمّه، فهي كـ «عمّا» من حيث البطء والسردية، إلا أنها تزداد بطئاً بالوقف على الهاء لا سيما مع «ياء» يتساءلون.

جاءت الصيغة الايقاعية: لـ «يتساءلون» دالة على كثرة اللغط والأصوات المتداخلة.

إذن في الآية الأولى بذرت بذرة اللغط، (سنرى فيما بعد كيف ستتطور هذه "البذرة» وما البديل عنها؟)

طُرِح السؤال «عمَّ يتساءلون؟» وكأن السائل بعد ذلك كان يستمع إلى جواب ما، فانتفض مما سمع باستنكار، فقال: «عن النبأ العظيم؟» وكأنه لم يصدق ما سمع. إذن في الآية الأولى استفهام استنكاري لا يخلو من اندهاش يعقب ذلك صمت لصوت خفي يقول: عن النبأ العظيم، فيردده المتحدث بسؤال استنكاري.

اذا صح هذا التصور فثمة صمت بين الآية الأولى: «عمَّ يتساءلون» والآية الثانية: «عن النبأ العظيم».

البذرة الأخرى، هنا هي الصمت لتضخيم الهول من ناحية وليكون مقابلاً للغط وسنرى كيف سيتطور الصمت فيما بعد. اختلف الشرّاح في تفسير النبأ العظيم وما المُراد به، هل هو القرآن، أم البعث بعد الموت، أم يوم القيامة؟

النبأ العظيم هنا تعني كل شيء جديد طرأ على الحياة ولا تعني شيئاً محدداً. وبهذا التصوّر إنما أُضفي عليها غموض تهويلي، يثير السامع أو القارئ بأشد فضول.

من طبيعة الأشياء، أنها إذا ما تأزمت يصبح تنفسها أشبه شيء باللهاث، فيتعذر معه التفصيل. تصبح اللغة أقرب إلى التجريد والرموز. النبأ العظيم بهذا المعنى تجريد يرمز إلى كل شيء طارئ وبديل

أضف إلى ذلك أن استعمال: «النبأ العظيم» بهذه الصورة الغامضة يجعل القارئ مشاركاً في اكتشاف معناه، وبذلك يصبح جزءاً من الحدث.

أين كان يقف السائل؟ يبدو أنه رأى من بعيد جمهرة من الناس تختصم فيما بينها و لكن لم يستطع تبين الاصوات، أي أن ثمة مسافة ما بين السائل وتلك الجمهرة . لذا لا يمكن أن تصح تماماً قراءة « كلا ستعلمون . ثم كلا ستعلمون » لأن ليس هناك ما يشير الى دنو السائل منهم ومخاطبتهم وجهاً لوجه. وانما الأصوب « كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون » . تصور المفسرون أن «كلا » : بمعنى «ردع وزجر» كأنه قال ارتدعوا وانزجروا » وهو صحيح لغوياً فقط ، ولكن لا يصح من حيث التأليف الإنشائي .

ثمة صمت بين الآية السابقة «الذين هم فيه مختلفون » وبين «كلا » في الآية التالية وكأن المتحدث أراد ان يأتي بكلمة موجزة دالة تنفي كلية ما يتجادلون به ، ولم تكن هناك كلمة أفضل من «كلا » وكأنها أداة رفض. لذا لا يجوز أن تفسر على أنها: «ارتدعوا وانزجروا» لأنه لم يكن منهم، أي أنهم لم يكونوا يصغون إليه . 

تأخذ الآية «كلا سيعلمون » صيغة السرعة من حرف «سين» الاستقبال بدلاً من سوف مثلاً، وكأن ما سيعلمونه سيكون قريباً .ولو قيل « سوف يعلمون » لكانت الجملة أبطأ بلاغياً فينتفي معها طابع الإلحاحية URGENCY لا بدّ أن نتصور أن ثمة صمتاً آخر بين «كلا ستعلمون» و «ثم كلا ستعلمون» وكأنّ المتحدث جازم فيما يقول فأعاد الصيغة كما هي الا أنها بهذا التكرار ازدادت حجماً وتهويلاً. كما رأينا، فقد ابتدأت السورة بتشديد الميم في عمَّ و ها هي تستمر بتشديد اللام في«كلاّ» والميم في «ثمَّ» إن من أهم سمات هذه السورة التشديد، وله مفعول عالٍ في عمومها.

ينقل القرطبي عن الضحاك: «كلاّ سيعلمون» يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم ثم كلاّ سيعلمون يعد المؤمنين عاقبة تصديقهم ثم يضيف القرطبي: «وقيل بالعكس أيضاً».

يقول الطبري «كلا سيعلم الكفّار، ثم كلاّ سيعلم المؤمنون».

ويقول الطبرسي: «هذا وعيد على أثر وعيد، وقيل: كلاّ: حقاً سيعلمون أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، عن الضحاك، وقيل: كلاّ سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة، ثم كلاّ سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب، فعلى هذا لا يكون تكراراً».

أما الطوسي: فاكتفى بما قاله الضحاك، وكذلك فعل القرطبي.

لم يقل ابن كثير في مختصر تفسيره أكثر من: «وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد». يقول الزمخشري: «كلاّ» ردع للمتسائلين هزؤاً، «وسيعلمون» وعيد لهم. بأنهم سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لأنه واقع لا ريب فيه، وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك. ومعنى «ثمَّ» الاشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ.

ظنّ معظم المفسّرين أن الآيتين إنما تخاطبان الكفّار والمؤمنين، وهو ظنّ لا يصحّ، وظن كهذا هو والتخرّص سواء فمن ناحية مثلاً تصور الطبري أن الآية: «كلاّ سيعلمون» معناها: كلاّ سيعلم الكفّار، بينما الآية: «ثمَّ كلاّ سيعلمون» معناها: ثمّ سيعلم المؤمنون. وقال القرطبي «وقيل بالعكس أيضاً».

لكن كيف يمكن مخاطبة الكفار والمؤمنين بالعبارة الردعية الزجرية نفسها: «كلاّ سيعلمون»؟ أيّ بنفس الكلمات والصيغة والايقاع؟ خاصة وأن «كلاّ» في نظرهم تعني الردع والزجر؟

بذور، تنمو وتتطور إلى أفكار ناضجة في النهاية.

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top