في ذكرى اغتيال أسعد محمد رضا الشبيبي

آراء وأفكار 2020/06/03 08:59:16 م

في ذكرى اغتيال أسعد محمد رضا الشبيبي

 د. فاضل عباس مهدي

ولِد هذا السليل الأكبر لجيله من الأسرة الشبيبية ، والتي عرفت بوطنيتها وإسهاماتها السياسية البارزة كما باسهاماتها الشعرية والثقافية، لوالد عرفته الحركتان الوطنية والثقافية العراقية واحداً من أبرز روادها.

وتشبع أسعداً بتراث أسرته كما بتراث الحركة الوطنية العراقية المناوئ للهيمنة الاستعمارية البريطانية فبالاضافة الى والده المكنى “بسفير ثورة العشرين” كان عمه الشيخ محمد باقر الشبيبي هو الآخر من أقطاب ثورة العشرين الوطنية إذ أصدر صحيفة “الفرات” التي نطقت باسم الثورة التحررية ضد وجود الاستعمار البريطاني في العراق مما عرضه آنذاك للملاحقة والاضطهاد حتى قيام الحكم الوطني. أما عمه الثالث محمد جعفر فقد عرفه ذلك الاستعمار نداً مؤثراً ببغداد فقاموا باعتقاله عام 1919 ونفيه مع عدد آخر من الوطنيين الى جزيرة هنجام.

تشبع الشهيد أسعد بحب الوطن من تراث أسرته كما نهل من ثقافة وأشعار جده محمد جواد الشبيبي وأبيه محمد رضا وعمه محمد باقر فتكون لديه وبشكل مبكر نزوع أدبي وشعري ممزوج بلغة تتحدى المظالم الحكومية والتباينات الطبقية الفاحشة التي برزت في ظل استمرار نفوذ السلطة الاستعمارية البريطانية على مقدرات بلاد ثورة العشرين الوطنية التحررية. وكانت أشعاره تكشف باقتدار الثنائية المؤلمة للفقر والجوع مع التخمة المقترنة بالغنى الفاحش في بلاد الرافدين. وكان الشهيد الغالي يوضح لمتابعيه مرامي النفوذ الاجنبي إذ كان متحدياً لهيمنته على مؤسسات الدولة العراقية التي كانت بأطوار النمو الأبتدائي وهو ما يزال انذاك في مراحل وأطوار الصبا والتفتح على الفكرين السياسيين العالمي والوطني.

في العام 1950،ونتيجة لتفوقه الدراسي، أرسل الشهيد الغالي ببعثة حكومية للدراسة ببريطانيا حيث درس بأحد المعاهد التقانية في مدينة لفبرة بمقاطعة ورسيشتر وتخرج منها مهندساً كهربائياً بتفوق في سنة 1955. وأثناء دراسته هناك ، أسهم هذا العراقي بلم شمل طلبتنا في بريطانيا عبر المشاركة بتأسيس جمعية الطلبة العراقيين والتي صاغت شعارها الرائد لأعضائها (من أجل التفوق العلمي والعودة الى الوطن) الأمر الذي ساعد في تربية قيم خدمة العراق وأسهم بعدم تشتت الكفاءات العراقية الواعدة في منافي الغربة آنذاك، وهو عكس ما آلت إليه الأمور في الوقت الحاضر من شتات غير مسبوق موْسف ومكلف كلفاً باهظة لتنمية وتطوير البلاد وارتقائها نتيجة هجرة الكفاءات من جهة وانعدام الرغبة المحلية لاستقطاب الكفاءات من خارج البلاد بل دفعها للبقاء هناك وذلك من الجهة الأخرى. وكان من الرواد في تأسيس تلك الجمعية الكثير من القامات الوطنية العراقية التي لمعت إسهاماتها الثقافية والعلمية بعد اكمال الدراسة الاكاديمية ومنها مثلا زميله المرحوم الدكتور محمد سلمان حسن الاقتصادي العراقي اللامع الذي اضطهِد هو الآخر من قبل النظام البعثي في 1963 ومرات عديدة أخرى في أواخر الستينيات وحقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بعد أن أسهم، وبشكل موْثر، بتشكيل تيار فكري سياسي ديمقراطي وطني ومهني اقتصادي عارض العسف والجور الحكوميين سمي بتيار “الديمقراطيين المستقلين”.

عمل أسعد الشبيبي في العديد من المؤسسات العراقية ، إذ كان مهندساً في الموانئ ومن ثم في محطتي كهرباء الهارثة بالبصرة والدورة ببغداد قبل فصله من الخدمة الحكومية عام 1963 لأسباب سياسية بعد أن اختفى لفترة معينة بأحد دور أقربائه لحوالي الشهر أو ما ينيف أعقبها فيما بعد اعتقاله من قبل نظام الحرس القومي (أي البعث الأول) بعد صدور اسمه بأحدى لوائحهم غير المستندة الى أي قانون وضعي إنما الى شريعة الغاب التي أدرجت بموجبها اسماء حوالي 800 وطني عراقي في لوائح الإعدام بناء على إيعازات ومعلومات أجنبية. وكان هؤلاء مستهدفين بالإعدام العشوائي من قبل انقلاب الإجرام البعثي الأول بأيامه الأولى والذي أطاح بشكل دموي سافر بالحكومة الوطنية لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والتي انجزت الكثير من الصناعات ومشاريع التعليم والإسكان لصالح الفئات الفقيرة من الشعب العراقي.

بعد الإفراج عنه اضطر الشهيد أسعد لمغادرة العراق مع أسرته الى بريطانيا حيث عمل مهندساً باحد المصانع البريطانية في مدينة مانشستر ولحوالي عام واحد ليقرر بعدها العودة الى الوطن بعد أن ضايقته بعض الأوساط هناك فآثر هذا العراقي الأبي تلك العودة إبان حكومة عارف ( وبالرغم من فصله من العمل الحكومي) متحدياً مذلة الرضوخ للضغوط الأجنبية ومهادنتها. .

بقي شهيدنا الغالي في العراق يعمل في القطاع الخاص ضمن شركة الساحبات والجرارات الرومانية حتى انتهت مدة فصله من العمل الحكومي فعاد للعمل في وزارة الصناعة والمعادن عام 1968 ليستلم بعض المهام الكبرى هناك للاشراف الهندسي والتنفيذي على مشروع كبريت المشراق في الموصل والذي انجزته – تحت إشرافه – شركة بولونية اعقبه العمل لتنفيذ المشروع الضخم قرب الحدود السورية لانتاج الفوسفات في عكاشات لينجزه هو الآخر بكل كفاءة واقتدار ضمن وزارة النفط والمعادن بعد دمج فرع المعادن الذي كان تابعاً لوزارة الصناعة بوزارة النفط. وبعد انجازه الكفوء لمشروع الفوسفات أوكلت إليه مؤسسة المشاريع النفطية في أواخر السبعينيات مهمة كبرى أخرى وهي الإشراف الهندسي والتنفيذي على انجاز مشروع غاز الجنوب المسال. وشاءت ظروف العراق أن تندلع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 نتيجة غزو صدام لإيران فرد الإيرانيون باستهداف المنشآت النفطية العراقية الأقرب إليهم ومنها خزانات مشروع غاز الجنوب المسال الذي أشرف عليه كبير المهندسين أسعد الشبيبي. وعند سماع شهيدنا الغالي لنبأ استهداف المشروع والدمار الذي اصاب منشآته التي انفق عصارة أيامه ولياليه في تشييده خدمة للشعب العراقي، توجه برفقة سائق وسيارة رسميين الى البصرة لتفقد تلك المنشآت وعلى ما يذكر فإن الشهيد الغالي أبدى تذمره علانية من تبعات هذه الحرب الإجرامية على البلاد ومنشآتها الانتاجية فقام جلاوزة البعث وصدام باختطافه من الشارع في بواكير 26 تشرين الثاني 1980 وهو متوجه لشراء الخبز لأسرته الكبيرة. كان ذلك اليوم المؤلم لآل الشبيبي وأصهارهم هو نفس تاريخ رحيل والد الشهيد الزعيم الوطني محمد رضا الشبيبي ولكن في العام 1965 والذي شيعه حوالي ربع مليون عراقي في شوارع بغداد إكراماً لدوره المميز بتاسيس الدولة العراقية الحديثة وإدارة مؤسسات التعليم والتشريع فيها على أسس دستورية وحضارية. فهل كان استهداف أبي جنان بالخطف في نفس التاريخ ذاك بعد 15 عاماً على رحيل والده من قبيل الصدف أم كان أمراً مقصوداً ورسالة أخرى من الدكتاتورية الفاشية الى الشعب العراقي على أن الوطن صار مستباحاً بشكل أكبر لجلاوزتهم بعد رحيل الشبيبي الأب واختطاف أكبر أبنائه وأكثرهم حيوية في النشاط المهني والسياسي والثقافي؟

باعتقادنا أن توقيت تاريخ اختطاف الشهيد اسعد الشبيبي كان متعمداً ورسالة واضحة لمن كانوا سيجرؤون مثل أسعد الشبيبي على تحدي الدكتاتورية بأن العراق وأبرز مثقفيه صاروا مرتهنين لأمزجة الحاكم بأمره صدام وزبانيته. باعتقادنا أيضاً أن الرسالة الحكومية المتضمنة جاهرت بهذا العمل الإجرامي لتقول لنا بأن الوطنية والأمانة والشرف والإخلاص المتفاني في العمل لم تعد كلها كافية لحماية الإنسان من الإذلال والعسف فالمطلوب هو الخنوع للأسرة الحاكمة ولأمزجة قادتها حتى ولو أدى ذلك الخنوع لدمار اقتصاد العراق وشعبه الأبي.

الرسالة الأخرى التي وجهها جلاوزة صدام بتغييب الشهيد أسعد منذ 26 تشرين الثاني 1980 هي في التعتيم السادي المتعمد في إخبار ذويه عن مصيره لسبع سنوات رغم أن الوثيقة الرسمية التي ظهرت هذه الأيام تزعم بأنه كان قد أعدم في 28 أيار 1983. هذه الرسالة قالت لنا آنذاك بأن الانسان صار رهينة للحاكم الفرد وجلاوزته ولا حصانة لأحد حتى لأكثر الناس مكانة واحتراماً ضمن المجتمع العراقي. ورغم أن بعض الشباب الذي لم يعش تلك الأيام الحالكة صار اليوم يرنو الى الماضي المرير بسبب تدهور الأحوال في البلاد، إلا أن من عاش تلك المحن لا بد وأن يتذكر مآثر من غيبوا من العراقيين الأبرار حالهم حال الشهيد الغالي أسعد الشبيبي وأقرانه . إنني اتذكر اليوم أيضاً المآثر والإنجازات المهنية الجميلة التي قدمها لنا ولتاريخ العراق المعاصر الإعلامي المغيب البارز توفيق التميمي في برنامجه التوثيقي “هذا أبي” والذي نفتقد أصالته وذكرياته عن قادة البلد ممن رحلوا.

وفي هذه الأيام وبعد 37 عاماً من اغتياله رسمياً نستذكر طيبة وخلق وتواضع كبير المهندسين أسعد محمد رضا الشبيبي كما نستذكر إسهاماته الكبيرة في العمل المتفاني ليل نهار لرقي وتقدم الشعب العراقي الصابر .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top