رواية المنفى العراقية.. رؤية من داخل المشغل الروائي

رواية المنفى العراقية.. رؤية من داخل المشغل الروائي

لطفية الدليمي

لم تعد رواية المنفى العراقية موضوعة صغيرة أو هامشية في إطار الدراسات النقدية أو الثقافية بعدما تضخّمت أعداد المنفيين العراقيين ( كُرْهاً أو إختياراً طوعياً ) ،

والروائيون العراقيون ليسوا في نهاية الأمر سوى مواطنين نالهم ذات العسف والقهر والمظلمة التي حاقت بمعظم العراقيين على مدى عقود عديدة . تكاثرت أعداد الروايات العراقية المكتوبة في المنفى وتنوّعت موضوعاتها وخبرات كاتبيها حتى صارت ظاهرة تستحق الإستفاضة في التوضيح والمكاشفة وإزالة مناطق اللبس التي كرسها إنكفاء الرؤية النقدية لبعض نقادنا على قراءات متلاحقة تعتمد مواضعات شخصية محضة أو تعميمات تكشف حالة من الإسترخاء النقدي . سأدوّن ملاحظاتي كدأبي عادةً بهيئة نقاط محددة ، لتأكيد جوهر الفكرة المطلوبة في كل نقطة منها تجنباً لانزلاق الموضوع في التعميمات المسطّحة ، وإليكم ملاحظاتي : 

1 . الهوس بالمخالفة والخروج على السياق : ثمة رغبة نفسية معروفة تدفع بعض النقّاد أحياناً لتوجيه الإنتقاد لأية حالة تصنيفية . ماالضير في تصنيف الرواية العراقية إلى رواية داخل ورواية خارج ؟ أو رواية ماقبل ( النخلة والجيران ) عام 1965 ومابعدها ؟ ليصنّف المصنّفون ماشاؤوا لهم من التصنيفات التي أراها محض إنهماكات شخصية قد تبدو كيفية بلا سند موضوعي أغلب الأحيان ، لكنها لن تأتي بضرر ما في نهاية الأمر ، والأهم من كل تلك التصنيفات هو الجهد المبذول في كل رواية ، ولن يزيد الرواية شرفاً أن تنتمي لهذه الحقبة أو تلك . التصنيفات هي بعض ولع النقّاد ولاينبغي أن نحاسبهم على هذا الأمر طالما بقي لعبة نزيهة لاتتسبب في الأذى . 

2 . إفتراض أن روائيي الخارج يجب أن يكتبوا رواياتهم بلغة أجنبية : تسود قناعة صريحة أو مضمرة بأنّ رواية المنفى العراقية هي الرواية التي يكتبها عراقيون باللغة العربية - لعدم معرفة أغلبهم بغيرها وليس لأنها خيار فني - ممن يعيشون خارج البلد في منافٍ أجبروا عليها أو إختاروها . أرى أن هذا التعميم غير دقيق تماماً فالرواية نوع أدبي متطلّب لايحتاج جهازاً لغوياً تقنياً فحسب بل يتطلّب جهازاً لغوياً معقدا ينشأ لدى الإنسان ويتطور منذ بواكير طفولته الأولى حتى يتمكّن الروائي من كتابة رواية بلغة ما . يمكن مثلاً أن يكتب ناقدٌ مقالةً أو يدبّج دراسة بحثية شبيهة بالأطروحات العلمية ؛ غير أن أمر كتابة الرواية بلغة أجنبية يبقى شأناً مختلفاً وليس مردّه إنعدام الخيارات المتاحة أمام روائيي المنفى بسبب إنعدام القدرة اللغوية وعدم حيازة ذخيرة لغوية تؤهلهم للكتابة الروائية باللغة الأخرى . 

3 . موضوعة الإنغماس المفرط بهموم المجتمع العراقي ومآزقه التأريخية : يسعى بعض النقّاد لاعتبار هذا الأمر مثلبة لصيقة برواية المنفى ( والرواية العراقية بعامة ) بينما يعده البعض ( وأنا من هؤلاء البعض ) ميزة فريدة تحسب للرواية. إن مجمل الروايات المكتوبة منذ نشأة الفن الروائي وحتى اليوم ( وبخاصة الرواية مابعد الكولونيالية ) تنحو لمقاربة هموم المجتمعات ومآزقها التأريخية على الصعيدين الفردي والجمعي ، ويمكن الإشارة إلى أسماء روائية مهمة في هذا المضمار : سلمان رشدي ، تشينوا أتشيبي ، إيزابيل ألليندي وغيرهم ،،،، . وتبقى موضوعة هموم المجتمع ومآزقه التأريخية بين الموضوعات الكثيرة ( مثل الحب والموت ومأزق الوجود البشري ،، الخ ) التي يمكن للفن الروائي أن يعالجها برؤى لاحصر لها ، وستبقى حاضرة طالما بقي الوجود البشري حاضرا بمعضلاته الإشكالية التي لاتنتهي ولاأحسبها ستنتهي يوماً ما . 

4 . كيل المثالب على رؤوس روائيي المنفى بلا حساب : ثمة مواضعة نقدية - صارت بمثابة العرف النقدي المتواصل - تميلُ لتأكيد تقصير روائيي المنفى العراقيين في تشييد أعراف روائية راسخة وهم يعيشون في ظروف ملائمة جداً من حيث الحرية وسعة الأفق والراحة الفكرية والاطمئنان النفسي . كيف عرف بعض النقّاد العراقيين بكل هذه الحقائق ؟ كيف عرفوا بفتور همّة روائيي المنفى العراقيين وانكفائهم على سجلهم العراقي القديم وعدم رغبتهم في خوض غمار التجريب الروائي ؟ ومن قال إن المنفى ( وبخاصة الأوروبي منه ) يضمن الراحة الفكرية والإطمئنان النفسي ؟ هل أن محض التحصّل على لقمة العيش والإيفاء بالإحتياجات البيولوجية الأولية في أدنى أشكالها تحتّم على روائيي المنفى ولوج عوالم التجريب الروائي ؟ ثمة تفاصيل إجرائية غائبة وسط زحمة التعميمات المفرطة ، ولاأحسب أن هذا الأمر يفيد في تشكيل صورة واضحة المعالم لطبيعة الرواية العراقية في المنفى ؛ بل ينبغي الحديث بلغة ( صاحب حرفة ) ماهر يتحدّث من قلب المعاناة ويعرف دقائق الصنعة الروائية ومكابداتها لأن الإنغماس في العمل الروائي ( تقليدياً كان أم تجريبياً ) يبقى مسألة محكومة بالترتيبات الذهنية والنزوعات النفسية للروائي قبل أي أمر آخر . 

5 . إفتراض عدم قدرة المنفى على تغيير المقاربات الفكرية الأولى للروائي 

يشيع ترويج دائم لقناعة يراد جعلها حقيقة ثابتة مفادها أنّ ( المنفى لم يقدّم للروائيين العراقيين أفكاراً جديدة ولا أسلوب كتابة جديداً فضلاً عن أنه لم يغير كثيراً من رؤيتهم للعالم وتوجهاتهم الفكرية الأولى ، والسبب الجوهري وراء ذلك يكمن في عدم قدرة هؤلاء الروائيين على التحرر من ثقافتهم السابقة وتحرير أرواحهم وذاكراتهم بشكل خاص من سطوة الماضي المتجذر فيهم بمسراته القليلة وخيباته الكثيرة ) . تقوم هذه المخاتلة النقدية على مقاربة تحليلية سايكولوجية ترى أن الإحتفاظ بالهوية الفنية مسألة تعادل الركود الثقافي وعدم القدرة على الإنطلاق في المضمار الثقافي لبيئة المنفى ، وهذا أمر أراه مجانباً للصواب إلى حد بعيد . ثمة أمثلة كثيرة تناقض هذا الرأي النقدي ؛ غير أني سأكتفي بإيراد مثال الكاتب الكيني ( نغوغي واثيونغو ) الذي يعمل أستاذاً للأدب المقارن والدراسات الثقافية في جامعة كاليفورنيا لكن أعماله الروائية كلها تدور حول العلاقات السوسيولوجية والتأريخية والثقافية في بيئته الأولى ؛ بل قد ذهب به الأمر إلى حد الدعوة المتطرّفة للكتابة بلغة ( الغيكويو Gikuyu المحلية ) وأقدم هو على كتابة بعض أعماله بهذه اللغة . ليست المعضلة - كما أراها - في عدم تخلي الروائي عن جذوره الفكرية الأولى وعدم قدرته على التعامل مع المؤثرات الثقافية في بيئته الجديدة ؛ بل تكمن في القدرة على إمتلاك المجسات الثقافية التي يسعها إلتقاط الحوادث اليومية العابرة وتحويلها إلى موضوعات روائية تتجاوز إعتبارات الزمان والمكان والبيئة وتتناغم مع مكابدات الوجود البشري أينما كان ، ولن يكون مهماً بعد هذا أن يكتب الروائي عن بيئته الأولى أو بيئته الجديدة أو حتى عن بيئات متخيلة . 

6 . إعتبار رواية المنفى رواية حنين وحسب : إذا كانت الرواية العراقية في المنفى تضجّ بالحنين كما يرى معظم النقّاد ، فلتكن كذلك !! . ماالضير في هذا ؟ هل الحنين نقيصة أخلاقية أم ثلمة في الحس الثقافي المعاصر ؟ يريد هؤلاء النقّاد التلميح إلى أن الحنين سمة نفسية لاتتفق مع عالم الحداثة السائلة والتمظهرات العولمية للثقافة ، وأن الحنين الذي يُبديه الروائي المنفيّ شبيه بالحنين الذي يعتمل في نفس أهل الريف عندما كانوا يغادرون مضطرين إلى المدينة طلباً للعلاج أو لإنجاز معاملة تتطلبها الوثائق الحكومية ، وهذا أمر يجانب الصواب ، فنحن في عالم العولمة الثقافية والإتصالية أصبحنا نتواصل لحظياً مع من نحبّ ولم يعد المنفى إيذاناً بانقطاع الجذور الأولى . لكن دعونا نتساءل : كيف يمكن الإفلات من سطوة الذاكرة الأولى ؟ ولماذا يتوجب هذا الإفلات ؟ الذاكرة الأولى لاتعيق تمثل البيئة الثقافية الجديدة بل المعيق هو إنعدام الرغبة في تمثل هذه الثقافة ؛ إذن المعضلة الجوهرية هي حالة نفسية معطوبة وليست معضلة ذاكرة يُراد لها أن تفرغ خزينها من تفاصيل النشأة الأولى بأفراحها القليلة وموجعاتها الكثيرة . أودّ الإشارة في هذا الشأن إلى كتاب رائع عنوانه ( الأخلاقيات والنوستالجيا في الرواية المعاصرة Ethics and nostalgia in Contemporary novel ) لمؤلفه جون جَي. سو John J. Su ، وقد صدر الكتاب عن جامعة كامبردج عام 2005 ، ويمثّل عنوان الكتاب إشارة واضحة إلى أن السمة النوستالجية للعقل البشري تجاه موضوعةٍ ما ستظل قائمة وتمثل ركناً من أركان توازناته العقلية والذهنية في عالمٍ عولمي يشيع فيه الإضطراب والتشتت على الأصعدة جميعها.

تعليقات الزوار

  • مقال رائع وهو رد لا بأس به على مقالة الدكتور حسن سرحان في جريدة القدس العربي

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top