قيامة القرن الدامي في.. (ومن يأبه) لـ جواد الحطّاب

قيامة القرن الدامي في.. (ومن يأبه) لـ جواد الحطّاب

زهير الجبوري

في كل مراحل القصيدة العربية وفي كل تجديداتها البنائية، تطرح تحولاتها الفنية وانشغالها في إطار الشكل الشعري، وهي ميزة أساسية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الشعر بإشكاليته،

والقصيدة ببنائها تعتمد على الثوابت المعهودة والمطروحة، إلاّ أنَّ الوظيفة التجديدية التي تطرحها بعض التجارب الخاصة

تخلق الانتباهة الكبيرة في انبثاق رؤيا مناهضة للتحول الوجودي الذي يعيشه العالم، والمسألة هنا لا تتحدد بإطار ضيق كقراءة أدبية، إنما إشكالية الواقع وكيف نمسك من هذه الإشكالية قراءتنا له عبر ما نسميه بـ(النص الشعري)، وللنص الشعري أيضا ما يناظره من وعي الشاعر، وبالتالي تخرج تجربة معينة أفرزتها العوامل المحيطة، ولهذه العوامل لغتها الخاصة، وأعني هنا ما كتبه الشاعر جواد الحطاب في نصه الشعري (ومَنْ يأْبهْ)، وهو انتقال قسري لأنزال القصيدة من تجريداتها الذهنية الى واقعها المعاش بكل ما يحمل من إشكالية معقدة يعيشها العالم بأجمعه، حتى (أدونيس) حين تحدث في كتابه (زمن الشعر) في العام 1985 حول (الثورة الشعرية) ووصفها بـ(الكشف والرؤيا)، لم تكن الكشوفات ذاتها التي ندركها في الوقت الحالي، وبالتالي ما نعيشه الآن هو قراءة حساسة لمرحلة كبيرة تتضح برؤى كاشفة علينا، فالعقل الشعري أو بالأحرى ذهنية الشاعر في تكريس جلّ انطباعاته عن الواقع المعاش، إنما هو تعبير المحنة الوجودية، وبعيداً عن كلّ التسميات التي جاءت بها القصيدة عبر تحولات زمنية، أجزم بأن الفضاء الشعري عَبَرَ حدود التصنيفات من خلال ترويض اللّغة وجعلها قابلة للتأويل والانفتاح الذهني، فهي تقع في خانة (إشكالية الكتابة الشعرية)، والتي تفتح حدود الشكل الى نوافذ عديدة، والشاعر جواد الحطاب عبر تجاربه يشتغل على ذلك بغية الوصول الى تلقي (إشكالوي) من خلال تهويمات خُلِقَتْ من الواقع ذاته، فهل ما كتبه الحطاب يعد ملحمة في زمن عولمة القرن الحالي..؟.. أم دراما كونية يعيشها إنساننا في وجوده الإشكالي..؟.. فالتوجس والإحساس الكبير من حالة الذهول للعبارة (منْ يأْبه)، أعطى وظيفة إدهاشية كبيرة، ليصبح النص الشعري في مواجهة الصدمة التاريخية التي زعزعت مجتمعات الشرق الأوسط بشكل عام، والمجتمع العراقي الهارب الى المجهول بشكل خاص، فالهروب الى المجهول بغية الوصول الى اليويتوبيا، انطوى على مساحة واسعة في لا مركزية الهدف المنشود، لتواجهه عتبات مبأرة هي جزء من لعبة فوضوية، والحطاب هنا استعان بـ(أناه) للتعبير عن (الكل)، لتتضح أمامنا طريقة تفكيك كيمياء القصيدة، ومن بعدها الاستعانة بالتفاصيل المبعثرة بوصفها تحمل طاقة الوصف، وهي في ذات الوقت تعيد إنتاج اللغة الشعرية من خلال البناء التراتبي الجديد لها من وجهة نظر الشاعر (وهي من تماهيات لعبة ما بعد الحداثة)، فالأدوار تصبح مفتوحة التأويل، نقرأ (اعتقدت ـ في البدء ـ أنّ الشرطة جاءوا لألقاء التحية، حتى أني أوشكت أن........)، فالدور الذي ظهرت فيه القصيدة منذ استهلالها الأول هو الامساك بمفهوم القيمة، ولم تكن (الشرطة) ومجيئها سوى انتباهة كبيرة للأنسان الهائج والمنفلت في فضاءات مفتوحة، ولا حتى السلوك (الديكارتي) الذي يناغم العقل كان قد قصده الشاعر من حيث وجوده وإدراكه، فالأنفلات الذاتي / الجمعي، هو قيامة القرن الدموي منذ بدايته، والتفاصيل الفرعية بأحداثها وظرفيتها الزمانية والمكانية، هي علامات مشفرة لوحدات شعرية خالصة، فثنائية (اللحظة والمفرزة)، أفرزت كينونة وجودية، هي في الوقت ذاته شكلت القيمة (للإنسان) وللموقف الذي أعاد الإحساس بالكينونة (لكن اللّحظة التي رأيت فيها المفرزة، مع أني اوشكت أنْ........)، الملفت للنظر أن سلطة الفراغ التي وضعها الشاعر، هي المركز الأكثر إثارة، أو هو الحافز الذي جعل كل هذه التفاصيل تحدث دفعة واحدة، ويمكن إحالتها الى الافتراض بأنها (لحظة عدم كبيرة، او لحظة الشروع الى المجهول)، لذلك كان المعادل الموضوعي للمقطع الشعري هذا هو بمثابة خلق توازن مصيري (وحسناً فعلت الشرطة)، التركيبة الشعرية التي كتبها الشاعر، تنمي عن وجود طاقة خارج حدود المخيال اللغوي، بمعنى ثمّة مشهديات فرضتها محنة الواقع لتأخذ تفاصيلها ضمن مطلق الإدراك المفتوح، لا أعرف إن شاطرني أحد في ذلك..؟.. حيث لا حدود جغرافية للحدث ولا مركزية لأنتفاضة الـ(أنا الهاربة / أنا الشاعر / أنا الإنسان الرافض / أنا الصوت الهارب الى مصير غير معلوم / أنا المنتفض / أنا الحالم الواهم بجنة افتراضية)، إنها إلتقاطات الصغيرة من قيامة الحدث..

النص الشعري (ومَنْ يأْبهْ)، اعتراف خطير لمغادرة السرديات الكبرى، لا بوصفها تحمل الطاقة الروحية عبر ذهنية مجردة، إنما (لتخبط المعايير أو عبثها بعد انهيار الحكايات الكبرى الانسانية السابقة) بحسب : ليوتار، فأين تكمن الرسالة، وكيف للوصايا أن تغلق الطريق لمن ينتمي إليها..؟.. قد يكون الإنسان العراقي الباحث عن الخلاص فتح مغاليق وجدها عن طريق السؤال الوضعي المتمثل عن السبب الوجودي له، وهو سبب إشكالي ابتكره منذ وعيه الأول، وللتناظر مع ما يطرح في النص الشعري، أثار الشاعر جواد الحطاب ذلك (لم أجد التاريخ، بكتاب القبض عليّ)، وهو اعتراف قلق، حيث التاريخ الذي نعيشه هو تاريخ بلا قيمة، فكيف في لحظة انفعالية وفي هيجان كبير تصبح للذات قيمة (فحين تخصص لك ((مفرزة))../ فهذا يعني إنك صرت مهماً / والشرطة صارت جزءاً من مقتنياتك)، وبذلك تكون الحياة بكل تفاصيلها ملحمة اجتازت كل الحدود.

ومع كل ما قرأناه من تفاصيل، ومع التحولات المفارقة التي شهدتها حالات الوصف الشعري، نلاحظ كلمة (المفرزة)، قد شكّلت بؤرة جدل، أخذت على عاتقها جميع المواجهات التي قصدها الشاعر، فكانت لها وظائف عديدة، فالمفرزة هي السلطة المواجهة، وهي العتبة الضمنية التي تشكل القرار المصيري لذات الشاعر التي هي ذات جمعية، فـ(رأيت.. وتذكرني وتخصص لك.. وتضع لها حجر أساس)، انطوت على قصدية تماهت مع التعاقبات الآيديولوجية، فحالة المكوث في (بؤرة الزنزانة)، هي حالة انتشاء وإمساك بذات غائبة مهما كانت نتائج الاضطهاد : فكرت أَنْ أضع لزنزانتي حجر أساس/ وأدفن فيه نقوداً من أقصى العلامات/ لأصغر فلس ملكي../ فالإنسان بخدمة زنزانته 

صحيح أن لهذا المقطع الشعري الأخير بنية تأثيثة ولعبة مجاز شعري، إلا أَنَّ الوجه الآخر له يكشف عن شفرات غاية الأهمية، تلك التي تطرح مراحل التعاقب السلطوي القسري على الانسان العراقي، والحبس الرمزي الذي فرضته العوامل السوسيو سياسية من خلال العملة النقدية في العهود الحالية والسابقة، وصولاً الى العهد الملكي، والحكمة الأخيرة في النص كانت في خاتمته حين تظهر ملامح القبول النفسي بتروٍ كبير للإنسان الذي يبقى في خدمة زنزانته، هي سخرية سوداء، وانعطافة خطيرة في زمن فيه قوانين حقوق البشر، فأي كوميديا إلهية يريد الشاعر جواد الحطاب كشفها للجميع، وأي لغة معبرة تستطيع محاكاة الملحمة الكبيرة التي تبدأ بسخرية الواقع والسؤال الوجودي (ومَنْ يأبهْ)، هي تراتيل كونية كبيرة في زمن عولمي خطير.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top