وارد بدر السالم
تميل السرديات بشكل عام الى توثيق الأحداث الحياتية التي تشكل منعطفات كبرى في التاريخ البشري ؛ كالحروب والأوبئة الفتّاكة وثورات الطبيعة الغريبة وما تتركه من أثر على البنية الاجتماعية.
وهذا ما تركته لنا سرديات الروائيين العالميين، لاسيما فيما يخص الأوبئة المفاجئة التي تتخطى الجغرافية على نحو واسع ، لتشكّل بمجملها أيقونات كبرى، تاريخاً وتوثيقاً اجتماعياً وصحياً وسياسياً أيضاً لما يحدث في الحياة في فترات عصيبة وجارحة في الحياة البشرية.
مثل الأنفلونزا الاسبانية والطاعون الأسود والأيدز وغيرها من الأوبئة والأمراض التي شكّلت وحدات سردية مهمة لكتّابٍ كبار ما زلنا نعيد قراءاتها. كرواية "الطاعون" لكامو و"الحب في زمن الكوليرا" لماركيز و"الموت في البندقية" لتوماس مان وروايات أخرى عرّجت على هذه المفاصل الخطيرة في الحياة الإنسانية وتداعياتها الكبيرة.
واليوم يشغلنا كورونا الذي يُعد الفايروس الوبائي المتطور والأكثر خطورة. إذ شلّ الحياة على الكرة الأرضية وعزلها عن التواصل الاجتماعي والإنساني وبث الذعر بين الشعوب وحصد حتى الآن بضعة آلاف في القارات السبع ، وما يزال ينتشر وينشر الموت في أصقاع الدنيا. ويبدو أن الكرة الأرضية بأكملها كانت تحتاج الى معقّمات ونظافة دائمة ومطهّرات عامة وثقافة علمية رصينة، لتبدو في حالٍ أخرى غير ما هي عليه الآن.
ولم يكن فايروس كورونا إلا تلك الشرارة الغامضة التي أشعلت هذه الكرة الملوثة وجعلت ملياراتها البشرية تتنادى وتتآخى وهي تنتظر المجهول الذي قذفته الطبيعة إلينا ،في واحدة من أكثر المخاطر التي تهدد الجنس البشري كل مائة عام. فساوت بين الأسود والأبيض والثري والمُعدم ، بطريقة مفاجئة خلطت فيها الأوراق كلها بما فيها أوراق السياسة، وما نزال حتى اللحظة ننقسم بين السماء والأرض للخلاص من هذا الوباء الفتّاك في سجن عالمي على مدار الأرض واتساعها في نادرة من نوادر الطبيعة.
لا توجد خلاصة ثقافية لهذا الوباء سوى أننا جميعاً نحتاج بالفعل الى مطهّرات عاجلة ؛ من تلك المطهّرات الروحية أولاً قبل أن تكون مطهّرات صحية وطبية. لننظر الى مثل هذا القدر البشري من أبواب كثيرة ليس أقلها الباب الثقافي بما يعنيه من معارف وشموليات أخلاقية وأدبية ووطنية وإنسانية، لنفهم أدوارنا في الحياة في أقل تقدير من دون رمزيات وأساطير وخرافات جاهلية تتحكم فينا؛ وعبثيات وعشوائيات وغيبيات تقلل من فرص النجاة أمام هذا الوباء الكاسح . فالظاهر من الأمر ليس كباطنه في الإنسان الذي وقع فريسةً سهلة أمام كائن مجهري لا يُرى ولا يظهر إلا كل في كل قرنٍ من الزمان. وعلينا أن نعود في كل مرة الى مائة عام ونفحص الظواهر الحياتية الكثيرة التي عاشتها الأجيال البشرية ، لنكون على بيّنة من أخطاء الماضي وآثامه وحروبه واحتضاراته المتتالية وتشويه انسانيته وأمراضه النفسية المتلاحقة ، في صراع أرضي أسبابه تافهة وغير نظيفة في الأغلب الأعم , مما يستدعي المراجعات الدائمة والدائبة للحفاظ على الجنس البشري.
القدر الأرضي، والذي نحيله الى السماء عادةً ، كتب عنه ألبير كامو روايته المعروفة (الطاعون - 1947) عن وباء مدينة وهران الجزائرية التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي يومذاك. ولم يكن الطاعون إلا رمزاً أراده كامو للمقاومة. ومع أن المخيلة الكاموية السردية كانت واسعة ؛ إلا أن الأحداث ومجرياتها الروائية كانت تحلل المستويات الاجتماعية وطبقاتها التي أصابها الطاعون عبر أحداث طويلة مع أن الرمزية الكاموية ليست عسيرة في التأويل بعد انهيار فرنسا أمام ألمانيا.
السرديات الروائية في الأخص استهوتها مثل هذه الكوارث الطبيعية توثيقاً وتأريخاً؛ فإن كانت الروايات العلمية ذات قدر على التخيل واستنباط مضامينها الشخصية بوصفها واقعة تحت تأثير المعرفة العلمية؛ فأنّ سرديات أخرى أخذت ثيماتها من وقائع الأوبئة الشائعة على مر العصور؛ كالأيدز والسفلس والكوليرا والإيبولا والجدري والحمّى القلاعية. إما بروايات معروفة أو سير ذاتية كتبها أصحابها عن تجارب شخصية حدثت مع بعض هذه الأمراض الفتاكة ، ولا شك أن (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز هي الرواية الأقرب الى ذهن القارئ ، مع أنّ فيها خدعة (مَرَضية) افتعلها (فلورنتينو اريثا) للوصول قلب فرمينيا داثا، بالرغم من بلوغهما سن السبعين عاماً ، إلا أن الخدعة الرومانسية انتشرت في المدينة وأصاب الناس الهلع من وجود الكوليرا، بينا العاشق السبعيني الذي أشاع مثل هذا الوباء في السفينة النهرية ليتخلص من المسافرين ، يتمتع في لحظات شخصية من وجود حبيبته القديمة معه ، ولعل هذه الرواية الجميلة التي استثمرت السحر السردي الماركيزي المعروف واحدة من أجمل روايات الخيال الواقعي الذي يمكن استدراجه الى واقعية ماركيز السحرية.
وبين الخيال السردي والواقع المُحال اليه تأتي رواية (العمى) لـ ساراماغو بفرضية انتشار مرض العمى في البلاد ؛ في أروع سردية غرائبية خرجت من الخيال الى الواقع وبالعكس، لتصور لنا عبر مساحة مفتوحة الهلع البشري المهدد كله بالعمى ، ولعل هذه الرواية التي استغرق فيها الخيال جانباً كبيراً منها تعد من الروايات العجائبية التي برع فيها ساراماغو، وفي الوقت الذي تحيلنا فيه هذه الرواية الى منطقة الخيال الروائي ، فأن هذه الثيمة الحاضرة في بعض روايات الأوبئة كبناء فني يستقدم المهارة الروائية الشخصية للكاتب كما عند ماركيز في "الحب في زمن الكوليرا".
قد تكون السرديات العلمية في المنحى الروائي لها قابلية هضم واستيعاب الأفكار الوبائية بسبب خلفيتها المعرفية، لكن عندما يتدخل الخيالي ؛ الذي هو شرط في البناء الروائي ؛ ممتزجاً مع الوقائع الحقيقية ، ستظهر ثمرة سردية أكثر قوة وتماسكاً وتشويقاً. وهو ما نجده في الرواية الجمالية "الموت في البندقية" لتوماس مان التي تتابع رحلة آشنباخ الى البندقية لتغيير المناخ النفسي إلا أنه يُصاب بجمال فتى له ملامح شخصية فاتنة؛ غير أن وباءً قاتلاً حلّ بالمدينة ، فتحول الجمال الى قبح أمام تلك الجائحة الكارثية في معادلة غير متساوية برع توماس في تحقيقها عبر هذه الرواية القصيرة.
اترك تعليقك