صدر عن  المدى ..عاشقان على مائدة الفلسفة، سارتر وسيمون وجهاً لوجه

صدر عن المدى ..عاشقان على مائدة الفلسفة، سارتر وسيمون وجهاً لوجه

شيار شيخو

فتاتي الصغيرة العزيزة:

«إنها من الليالي التي أصبح فيها العالَمُ ملكاً لنا، أردتُ أنْ آتيكِ بسعادتي كمنتصرٍ واضِعَهَا أسفلَ قدمَيكِ كما كان الرجال يفعلون في عصر ملك الشمس،

ثم متعباً من كل صراخي أخلدُ إلى الفراش، أنا اليوم أفعل هذا من أجل متعةٍ لا تعرفينها بعد متعةِ الانتقال المفاجئ من الصداقة إلى الحبّ، من القوة إلى الحنان. الليلة أحبك بطريقة لم يسبق لكِ اكتشافُ وجودِها فِيَّ».

من رسالة الاعتراف بالحب التي كتبها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر سنة 1929 إلى عشيقته وتلميذته سيمون دو بوفوار، الفاتنة ذات الطول الفارع والجسد الرشيق والعينَين الزرقاوَين اللتين احتضنتا ذلك الرجلَ الذي لم يَتَعَدَّ طولُه المتر والنصف، المصابَ بحَوَلٍ في عينه اليمنى منذ سِنّ الثانية من عمره، ذا النظارات والصوت المعدني والبذلة الزرقاء المجيدة. لكنْ ألا يكفي أنه سارتر الفتى الذي ألهَمَ فرنسا والعالمَ بأفكاره المتمرِّدة وفلسفته الوجودية الأكثر حيوية، والتي احتلَّتْ موقعاً مهمّاً في تاريخ الفكر البشري منذ عشرينيات القرن المنصرم، ولا سيّما بعد الحرب العالمية الثانية، والحاصل على جائزة نوبل للآداب. كان مدركاً لقبح شكله وقد عانى كثيراً من مرارة هذا الشعور، لكنه تصالحَ مع الأمر، قال ذات مرة لصديقه ميرلو بونتي «لا أستطيع إغواء النساء بمزاياي الجسدية، لكني أغويتهن بالكلمات». وطبعاً من ضمنهن كانت علاقته الأبدية بسيمون دو بوفوار، من الفتيات القليلات اللاتي درسن الفلسفة وتبوَّأن مكانةً عاليةً بمنافسة سارتر فلسفياً والدخول معه في علاقة استثنائية، حيث شكّلاً معاً زوجاً أسطورياً دون أن يتزوَّجا فعلياً، وتشاركا معاً الحياةَ الفكرية والعاطفية والنضالية على نحو امتدَّ لأكثر من نصف قرنٍ في علاقةٍ غراميةٍ غريبةٍ جداً ومعقَّدة، بالرغم من تأكيد كلٍّ من سارتر وسيمون على توضيح كلِّ تفاصيل هذه العلاقة وعَرْضِها على الملأ بشجاعة، سواء كان ذلك عبر رسائلهما أو سِيَرِهما، أو بملاحقة الصحفيين والباحثين لعلاقتهما المحيِّرة التي ألهمت الكثير من الكتاب والأدباء والشباب، بحيث ظلَّ الحديث عن هذا الثنائيّ الأسطوريّ مِن بين أكثر العلاقات الحميميّة تداولاً وانتشاراً بسبب تداخل الحبّ والفلسفة على نحو شديد في حياة هذين العاشقَين اللذَين لم يجمعْهُما سريرٌ سوى سرير الوجودية.

لا يمكن الحديث عن أحدهما من دون ذِكرِ الآخر، سارتر وسيمون دو بوفوار إضافة إلى الآخرين الذين وصفهم سارتر بالجحيم في كتابه «الوجود والعدم»، وهو من بين أصعب الكتب الفلسفية. الآخرون هم الأصدقاء الذين لعبوا دوراً كبيراً في حياة سارتر وسيمون. وفي المقابل فإنّ هؤلاء الآخرين هم نحن أيضاً، كل مَن عرف أو سمع بقصة سارتر وسيمون ومَن اطَّلعَ على أعمالهما الغزيرة في الفلسفة والأدب، بحيث يُعَدَّان من الفلاسفة القلائل جداً الذين ضخُّوا أفكارَهم عبر الأدب وفي الحياة أيضاً على نحو مكثَّف. إنَّ معرفةَ هذا التشابك المعقَّد في علاقتهما يساهمُ بقدرٍ كبيرٍ في فَكِّ طلاسم فلسفتِهما، ويدفعُ بالمزيد من التلذِّذ بأدبهما الاطِّلاعُ على علاقتِهما الفريدة، على تفاصيلِ الاتفاق الغراميّ الغريب الذي عَقَدَ بينهما للأبد حبّاً دائماً وخيانةً مُعلَنةً. كلُّ هذه التفاصيل جُمِعَتْ في كتابٍ مميَّزٍ مشوِّقٍ ليس بسيرةٍ ولا رسائلَ أو فلسفةٍ خالصةٍ، كتابُ «سيمون دو بفوار وجان بول ساتر وجهاً لوجه / الحياة والحب» للباحثة والكاتبة الوجودية الأسترالية هازل رولي الصادر عام 2005، وقد دخلَ المكتبة العربية أخيراً عبر دار المدى العراقية بنسخةٍ مغريةٍ بمحتواها ومزوَّدَةٍ بصورٍ نادرةٍ لسارتر ودو بفوار، من ترجمة محمد حنانا. الكتابُ المتعدِّد الهوية يجمع كلَّ ما يخصُّ هذا الثنائيّ اللامع في الحب والفكر والعلاقات المنوَّعة. قراءةُ هذا الكتاب المغري والاستعانةُ به سيسهِّل علينا قراءةَ أو فهمَ سيرة سارتر (الكلمات) الذي أكسبه جائزة نوبل للأدب، ويُعتَبَر من أهمّ أعمالِه على الإطلاق والمقسَّم إلى جُزأين بعنوان «القراءة» و«الكتابة»، كما أنَّ الاطِّلاع على هذا العمل سوف يفتح شهيَّةَ القارئ ويوسّع إداركَه لكتاب «الجنس الآخر» المؤلَّف الأكثر تداولاً لدوبوفوار والذي مهَّدَ لنشوء الحركة النَّسوية في العالم. في كتاب سيمون وسارتر وجهاً لوجه نكادُ نشعرُ بصوتِ سيمون وكأنَّها تحدِّثنا بنفسها، ونلتمسُ في بعض أجزائه نبرةَ سارتر والآخرين الذين شكَّلوا طرفاً حاسماً ضمن معادلة سارتر وسيمون الغرامية. كتابٌ عن قصَّةِ علاقةٍ، كما تُوَصِّفُهُ الكاتبة، بين زوجَين من أزواجِ العالَم الأسطوريِّين، سيتعرَّفُ قارئُ هذا الكتاب على ماهيَّة سرِّ وَسْمِ هازل رولي لهذه العلاقة بالأسطورية.

لم يكن من الغريب أنَّ الشعارَ المفضَّل لسارتر وسيمون هو «عِشْ مِن دون وقتٍ مستقطَع»، شعار الطلبة الفرنسيين سنة 1968، حيث إنّ حياتهما كانت بالفعل كذلك مليئةً بالصخب والتمرُّد والأحداث الوجدانية والمغامرات الفكرية والعاطفية العاصفة، لقد عبَّرَ سارتر عن أفكاره الوجودية أيَّما تعبير، عبْر حياته وتجاربه الشخصية التي دوَّنها تارةً كحقيقة وتارةً كخيال حبَكَهُ أدبياً بعناية فائقة وجسَّد غالبيَّتها على خشبة المسرح. ألم يعبر سارتر بوضوح عن فكرته الوجودية في حياته الخاصة وعلاقته مع سيمون؟! تلك الفكرة المبنية على الحرية والتي تقول: «الإنسانُ محكومٌ أنْ يكون حرّاً، لكن لا حرية من دون مسؤولية»، بمعنى أنَّ الإنسان حُرٌّ رغماً عنه لأنه حرٌّ وحسب. إنها لفكرةٌ معقَّدة طبَّقها في حبِّه لسيمون بحبٍّ أبديٍّ لكن صادق ومفتوح على علاقات جانبية أخرى، شريطة الإعلان عنها، وهو ما يشكل مسؤولية الحرية، لذا «اطمئنّ سأخونكَ بعلمكَ!»، تلك فاتورة مسؤولية ثمن الحرية التي حدَّداها كأسلوب حياة بينهما، هكذا عاش كل منهما عدداً لا يحصى من العلاقات العابرة، من أبرزها علاقة سارتر بسالي سوينغ ولينا زونينا، وعلاقة سيمون بنيسلون أليغرين ورينيه ماهو، إلّا أن العلاقة الأكثر تأثيراً لسيمون كانت مع صديقها الكاتب الأميركي الأشقر نيلسون أليغرين الذي التقت به في شيكاغو، وعلى عكس حبيبها القزم سارتر كان نيلسون صاحب هيبةٍ جسمانيةٍ سلبت عقل دو بوفوار فوقعت في شباك حبِّه من اللقاء الأول. هذه التفاصيل المتداخلة وغيرها الكثير من الغرائبية التي تغلِّف حياة سارتر وسيمون كانت من شأنها أن تخلق علاقةً أسطوريةً ومصدرَ اهتمامِ وإلهام الجميع، بالإضافة إلى أنهما كسرا الفكرة التي تقول إنه ما من تآلفٍ بين الفلاسفة والحبّ، ما يعني أنّ الكثير من الفلاسفة لم يختبروا الحبّ. كَلّا، فيما يبدو فإنهم جميعهم وإنْ لم يكوّنوا علاقات حب إلّا أن لديهم ما يقولونه لنا عن الحب وعمّا يصاحبُه من وهمٍ بالخلود وما ينتِجُه من معاناة. لكن من ناحية أخرى هل من الممكن اعتبار هؤلاء الفلاسفة مرشدين عاطفيين؟ ولا سيّما سارتر وسيمون، هذين الشخصين الغريبَي الأفعال وحتى المزاج، الشاذَّين جنسياً والمعقَّدَين فكرياً، المتجاوزَين لكلِّ العادات بالقفز فوق الأخلاق المتعارف عليها. كيف أُعجِبْنا جميعاً بهذا الثنائي على نحوٍ مفرِطٍ وخاصةً في الشرق العربي؟ ما الذي يدفعنا ويرغمنا بإرادتنا أو من دونها للتأثُّر بنمط علاقة هذين المجنونَين الشهوانيَّين؟! إنها لمفارقةٌ عجيبةٌ تجيبُ عنها هازل رولي في هذا الكتاب.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top