نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل ((1))

آراء وأفكار 2020/07/20 07:06:27 م

نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل ((1))

ما بين «الدروس» الهيغلية و«العِبر» الخلدونية

 د. حسين الهنداوي

ليست هناك نهاية في دراسة الفيلسوف الالماني هيغل المولود في 1770 والذي يعد من مؤسسي الفلسفة المثالية الغربية الحديثة وفلسفة التاريخ خاصة وكان لأفكاره أثر عميق على فلسفات ماركس ونيتشه وهايدغر وسارتر والكثير غيرهم.

ففلسفته تبدو كعالم قائم بذاته يتغير مشهده تبعاً لتموضعات النظر. ومن هنا، فهي وتاريخها يباغتان الباحث المواكب بمفاجآت رائعة وحتى نافعة أحياناً. كما أن هذا الفيلسوف، ورغم مرور نحو قرنين على وفاته في 1831، لا يزال يثير دراسات حيوية واستفهامات ساخنة وتفسيرات مغامرة ومعارك فكرية وحتى أيديولوجية، هي جميعاً بحد ذاتها علائم مجد إضافي، كما يرى استاذنا المفكر الفرنسي الراحل جاك دونت كبير المتخصصين المعاصرين في الدراسات الهيغلية.

وكذلك الحال مع عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) في رأينا. فالدراسات الحديثة المكرسة له هو أيضاً، في شتّى الثقافات، لم يعد من الممكن إحصاؤها الآن إلا بعد جهد جهيد رغم مرور ستة قرون على وفاة هذا المؤرخ والمفكر الاجتماعي المولود في تونس من عائلة اندلسية حضرمية الأصل والدارس في القيروان والمتوفي في مصر. برز في الكتابة النظرية، واعتبر بفضل أفكاره لا سيما في كتابه "المقدمة"، مؤسس علم الاجتماع وفلسفة التاريخ والاقتصاد السياسي. 

وهذا التناظر السعيد يعكس أساساً حقيقة الخصب اللامحدود في الأفكار والمنظورات المبتكرة التي حملتها آثار هذين المفكرين والتي انطوت في الحالتين على طاقة في التأثير والتغيير لم يتكهن كلاهما بها. وهي حالة لم تتحقق في كل تاريخ الثقافة الإنسانية سوى لعدد ضئيل من العبقريات الاستثنائية والفلسفية غالباً. 

لكن إمكانية المقارنة بين ابن خلدون وهيغل لا تنحصر في هذه الميزة الاستثنائية وحدها بالطبع، بل تمتد الى تماثلهما على أصعدة أخرى عديدة وفي شكل يفرض نفسه كمثير للدهشة بحد ذاته. ولا يقتصر الأمر أيضاً على اشتغالهما بالفلسفة ولا على إيلائهما أهمية كبرى للتفكير بالتاريخ وبالدولة، إنما علاوة على كل ذلك، ثمة تقاطعات إضافية تمتد إلى العديد من مفاهيمهما الأساسية، النظرية والسياسية، كمفكّرَين نقديين وواقعيين. وكان ينبغي، ربما، أن تتوقف المقارنة عند هذا الحد، أي عند المظاهر الخارجية والسطحية وحسب، نظراً إلى المسافة الزمانية- المكانية الكبيرة التي تفصل بين انتماءيهما الحضاريين، أي بين الشرق الإسلامي في القرن الرابع عشر، والغرب المسيحي في القرن التاسع عشر.

بيد أن إغراء الذهاب بها أبعد يشتدّ عوداً، كلما غامرنا في الإيغال خطوة إضافية في الاستجابة له، رغم كل الحذر الذي صار رديفاً لهذا الإغراء. ففي الواقع، هناك تماثل مثير بين «دروس» التاريخ الهيغلية و«العبر» الخلدونية، لا يقتصر على الإصرار على تحكيم العقل في قراءة صيرورة التاريخ الإنساني الفعلية، ولا على هاجس الشمولية والموضوعية النقدية في التعامل مع ظواهرها، ولا على المركزية الكبرى التي يمتلكها المفهوم الدوري في تفسير التاريخ كما في حياة الدولة لدى كل منهما على حد سواء، إنما نجد ذلك التنافح حاضراً، أو هكذا نزعم، حتى في هيكل المنهج والحركة المنطقية الداخلية التي تحكمه لديهما معاً. فالانتقال من نقد المؤرخين السابقين إلى تحديد المفهوم الصحيح لـ «حقيقة التاريخ»، ومن هذا إلى تبيان دور العوامل الطبيعية (المناخ، التضاريس، القارات، الغذاء...) في لعب دور حاسم في صنع الحضارات، ومكانة الصراع الخلاق وديالكتيكه الخاص في كل ذلك، ومنها إلى بقية الموضوعات الأخرى، يوحي أن ثمة علاقة تواصل ما تقوم، ولو من بعيد، بين فلسفتي التاريخ الخلدونية والهيغلية، وتسمح بذاتها بنقل إمكانية المقارنة بينهما من مرحلتها كمجرد هاجس عابر إلى طرحها كضرورة علمية بكل معنى الكلمة، لاسيما أنه قد أصبح من الثابت، الآن، أن ابن خلدون هو مؤسس دراسة التاريخ كفرع من فروع الفلسفة، وبالتالي مؤسس فلسفة التاريخ قبل هيغل بأربعة قرون، كما أن نظريته في هذا المجال، تظل المحاولة النظرية الأهم حتى العصر الحديث، أو حتى هيغل على الأقل.

نعرف بالطبع أن جعل «مقدمة» ابن خلدون منبعاً لأفكار مهمة وجوهرية في علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة وحتى الاقتصاد السياسي أخذ في العقود الأخيرة صيغاً قطعية لدى عدد مهم من الباحثين الكبار في مختلف البلدان، لا سيما لدى المفكر الايطالي نيكولو مكيافيللي كبير ومؤسس المدرسة الواقعية التبريرية في السياسة (الغاية تبرر الوسيلة) الذي عاش في فلورنسا بايطاليا إبان عصر النهضة واشتهر بكتابه "الأمير". أو الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي غامباتستا ڤيكو الذي عاش ودرس في نابولي بين 1668 و1744 واشتهر بكتابه "مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم" (1725). أو المفكر السياسي الفرنسي شارل مونتسكيو الذي عاش في باريس بين 1689 و1755، تنسب له نظرية فصل السلطات التي عبرت عنها مؤلفاته واشهرها كتاب "روح الشرائع" الصادر لأول مرة في عام 1748، وبدون اسم المؤلف خوفا من الاضطهاد، أو عالم الاجتماع والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي أوغست كونت (1798 - 1857) الذي يعد مؤسساً للفلسفة الوضعية. أو حتى الفيلسوف وعالم الاقتصاد الألماني كارل ماركس (1818- 1883) مؤسس النظرية الشيوعية وأبرز منظري الحركات الاشتراكية في العالم وصاحب العديد من المؤلفات والفكرية أهمُها "البيان الشيوعي" (1848)، و"رأس المال" (1867) .

والحال، وبغض النظر عن ان ذلك التوجه أخذ طابعاً احتفالياً مبالغا به، وحتى مضجراً أحياناً، لدى نفر من المهتمين العرب، إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن هناك بالفعل من المؤشرات الملموسة، ما يوحي بوجود تأثيرات لافكار ابن خلدون على جانب أو غيره من معظم المحاولات الكبرى اللاحقة عليه، التي اهتمت بقراءة موضوعتي التاريخ او الدولة، فلسفياً أو نظرياً، إلى درجة من الصعب أن نجد مفكراً حديثاً، في ميدان التاريخ أو الاجتماع او الاقتصاد السياسي، لم يقارن بابن خلدون. 

لكن هذا النزوع، وهذه ظاهرة مثيرة، لم يشمل هيغل قبلنا إلا بارتباك ووجل، كما لو أن المقارنة بينه وبين ابن خلدون تنطوي على مخاطرة مجهولة النتائج لأسباب كثيرة، ليس ضخامة حجم وعمق ونفوذ عمله الفلسفي إلا بعضها. وكأن هوّة سحيقة تفصل فعلا بين نظريته والنظرية الخلدونية حول التاريخ وكذلك حول الدولة.

من هنا خصوصية دراستنا التفصيلية هذه، والأولى من نوعها حول هذا الموضوع الهام. بلا شك، ثمة استفهامات، نادرة على حد علمنا، طرحت هنا وهناك قبلنا، عن احتمال تسلل فكرة خلدونية أو أخرى إلى فلسفة التاريخ الهيغلية. إلا أن الأمر يتوقف عند هذه الحدود، أي على مجرد استفهامات عابرة من جهة، وعلى أن العلاقة المفترضة، أو المحتملة، لا تتجاوز في أحسن الأحوال انعكاسات غير مباشرة وبعيدة جداً. وإذا كان هذا الافتراض يشمل شتّى المداخلات التي أشارت إلى هذا الموضوع، فذلك ربما بسبب سيادة الاعتقاد بأن هيغل لم يكن في وسعه الاطلاع، بشكل مباشر او غير مباشر، على «مقدمة» ابن خلدون، نظراً إلى أنها لم تظهر في أول ترجمة أوربية كاملة لها، إلا بعد أكثر من عشرين سنة على وفاة هيغل، وقد عزز هذا التصور أن هذا الفيلسوف الألماني الذي لم يتردد في ذكر مصادره المهمة، الغربية منها والشرقية بما فيها العربية، لا يذكر ابن خلدون على الاطلاق، لا في مؤلفاته التي نشرها بنفسه، ولا في المخطوطات التي وجدت بين آثاره، ولا في محاضراته البرلينية التي نشرت بعد رحيله.

وكذلك الحال بالنسبة إلى مراسلاته الضخمة. فبعد تنقيب، نزعم أنه دقيق في مجلداتها العديدة التي نشرت حديثاً، لم نعثر على أي إشارة توحي بأن هيغل عرف ابن خلدون أدنى معرفة، بل على العكس، وجدناه ينفي أي إمكانية لظهور مفكر تاريخي في الشرق الإسلامي، وكل الشرق، حيث يرى في «دروس حول فلسفة التاريخ»، أن الحضارات الشرقية، لاسيما الإسلامية منها، عجزت عن تحقيق أي تطور فعلي في ميدان علم التاريخ، إنما واصل المؤرخون فيها اجترار الأساليب نفسها والتقاليد العتيقة الموروثة منذ أقدم الأزمنة، وأظهروا غفلة شاملة عن ضرورة جعل الدولة وتطورها أساساً ومحوراً لمدوناتهم التاريخية.

بيد أننا كلما تعمقنا أكثر في دراسة فلسفة التاريخ الهيغلية، أدهشتنا أكثر قوة الوشائج التي تؤلف بينها وبين فلسفة التاريخ الخلدونية. بل يراودنا طواعية الرأي بأن ما في فلسفة هيغل حول التاريخ من آثار خلدونية، يتجاوز ما يناظرها لدى المفكرين الغربيين الآخرين، الذين سبقوه إلى الاهتمام بهذا المجال، لاسيما أن بعضها يمس جوانب جوهرية جداً من مكوناتها، وبدرجة من قوة العلاقة تصعب معها تماماً إمكانية اعتبارها بنت صدفة مهما كانت عجيبة. على هذا الأساس، إذن، وعارفون بداهةً بأن الفكر الخلدوني، سبق نظيره الهيغلي بأكثر من أربعة قرون، يصبح من الطبيعي، والمشروع علمياً، البحث عن المصدر الواقعي لهذه التماثلات. وفي ضوء ذلك، يمكن اختبار احتمالية وجود تأثيرات فعلية، مباشرة أو غير مباشرة، مارستها الأفكار الخلدونية على نظيرتها الهيغلية في ميدان فلسفة التاريخ.

هذا الجانب بالذات، هو ما تقدم عليه هذه الدراسة، لكن دون ابتسار أو تعسّفٍ في الواقع. فنحن نعرف وجود مصادر مشتركة بينهما، كبعض مؤلفات أرسطو مثلاً، كما أن هناك، بالطبع، فوارق جوهرية عديدة تفصلهما من الجهل إغفالها. ونضيف هنا، أن فلسفة التاريخ الهيغلية هي التي قادتنا إلى اكتشاف علاقة لها مع فلسفة التاريخ الخلدونية وليس العكس. بعبارة أخرى، إننا لم ننطلق من مفاهيم ابن خلدون لنعثر لها، بأي ثمن، وبقرار مسبق، على امتدادات عند المفكرين اللاحقين وهيغل منهم، إنما انطلقنا من المفاهيم التاريخية الهيغلية ذاتها لنبحث عن أصول لها في الفكر السابق عليها. وهو منهج يشرّعه الديالكتيك الهيغلي نفسه، عبر تأكيده الثابت على إقصاء الصدفة ومحاربة فرضية وجودها، الشيء الذي يعني ضمناً، أن كل ظاهرة، والفكرة الفلسفية هي ظاهرة، لا يمكن أن تولد دفعة واحدة حتى إذا بدت كذلك، إنما لابد أن تكون قد ظهرت في لحظة سابقة، في شكل جنين أو نطفة، ثم أخذت أشكالها المتطورة لاحقاً. فللفكرة الفلسفية، كل فكرة، تاريخ هي أيضاً، وعلى البحث الدقيق أن يكشف عن حقيقة هذا التاريخ لذاتها.

وسواء ثبتت استفادة الفكر التاريخي الهيغلي من نظيره الخلدوني أم لم تثبت، وسواء تأثر هيغل بابن خلدون أم لم يتأثر، فإن أصالة الفلسفة الهيغلية وعبقريتها في الميادين الأخرى، وأيضاً في ميدان فلسفة التاريخ والدولة، هما حقيقة لا يطالها الشك. من هنا يأتي حرصنا الشديد على إسناد كل الافتراضات التي ستلي إلى أكبر قدر من نصوصهما المباشرة، وإلى كل ما بلغناه من الدلائل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top