عدنان حسين.. سأعود للسرد لأنّ الرواية حُلُمي الأكبر

عدنان حسين.. سأعود للسرد لأنّ الرواية حُلُمي الأكبر

حوار: صفاء الصالحي

عدنان حسين أحمد (جلولاء 1957) كاتب متعدد الاهتمامات، فهو قاص ومترجم وصحفي وناقد عراقي مقيم في لندن، حاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية الآداب، جامعة بغداد عام ١٩٨١،

والماجستير في النقد الأدبي من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن عام ٢٠٠٧ ، ولديه أكثـر من دبلوم في السيناريو، والصحافة الاستقصائية، والكتابة الابداعية. عمل في الصحافة العربية لأكثـر من أربعين عامًا في العراق والأردن وهولندا والمملكة المتحدة. صدرت له في القصة القصيرة (جولة في مملكة السيدة هاء، أقواس المتاهة، كوابيس منتصف الليل)، وفِي النقد (أطياف التعبيرية: غواية الحركة ورنين اللون في تجربة ستار كاووش الفنية، أدب السجون، الرواية العراقية المُغترِبة، الفيلم الوثائقي العراقي في المنافي الأوروبية)، وفي الآتي نص الحوار.

 يقال إن الإنسان ابن بيئته التي تصنع فلسفته منذ ولادته وحتى يكبر، كيف شكّلت البيئة التي عشتها في جلولاء ملامحك الفنية والأدبية؟

- دعني أستعين بالشاعر المتوهج أبي تَمّام الذي قال ذات مرة بيتين من الشعر فذهبا مَثلاً لما ينطويان عليه من فلسفة أنيقة، وحكمة دقيقة:

"نَقِّلْ فُؤَادَك حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الهَوَى / ما الحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّلِ

كَمْ مَنزلٍ في الأرضِ يَألَفُهُ الفَتَى / وحَنِينُهُ أبَدًا لأوَّلِ مَنزلِ"

وعلى وفق هذا التصوِّر التَمّاميّ فإننا جميعًا نَحِّنُّ إلى المنزلِ الأول، والمدينة الأولى، ومسقط القلب، إن شئتَ، فثمة علاقة سرّيّة مُبهَمة لا تُفَسّر بيننا وبين المكان الأوّل لعلّي أسمّيها الإيقاع الجغرافي أو النبض المكاني الذي ينتظم فقط عندما تستلقي على فراش مُلاصق للأرض وتُصغي إلى ذلك الإيقاع العجيب الذي تسمعهُ كما يسمع الجنين المرتبط بحبل السُرَّة دقّات قلب الأم، وكلّما نأينا واشتط بنا المَزار تلاشى ذلك النبض وأصبح أثرًا بعد عين.

لا ينفع المكان لوحده من دون وجود الكائنات البشرية، وخاصة الموهوبينَ والمثقّفينَ والمتعلِّمينَ، فهم ملحُ الأرض في كل زمانٍ ومكان. وهؤلاء هم الأوفر حظًا في الخلود أما العامّة فيذهبون، مع الأسف الشديد، إلى مدارج النسيان حيث يأكلهم الصدأ، وتلفظهم الذاكرة الجمعية. هناك عدد غير قليل من المثقفين مرّوا بهذه المدينة أمثال الإعلامية غلاديس يوسف، ومقداد عبد الرضا، وجمال نوري، وصلاح زنكنة لكنّ كُتابها الأساسيين هم جلال زنكَابادي، وشاكر نوري، وتحسين كَرمياني، وجلال جميل الخالدي، وسعد محمد رحيم، وعدنان حسين أحمد، ومجموعة من الفنانين في المسرح والتشكيل والصحافة والغناء أبرزهم د. محمد صبري، والنحّات حميد شكر، والفنان عادل أصغر، والصحفي خميس سبع، والفنان علي قادر، والمسرحي والي العزاوي، والتشكيلي محمد شوقي حقي، والمطرب عامر العلي وآخرين كانوا في طور اكتشاف مواهبهم الأدبية والفنية ولعل بعضهم ظهر في السنوات الخمس والعشرين التي غِبتُ فيها عن الوطن مثل صفاء الصالحي، علي حمد الصوفي، أحمد المرواني، حسام الدين مصطفى، وحيد يوسف ولي وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعًا.

 أصدرتَ مجموعتك القصصية "كوابيس منتصف الليل" (بالإنكَليزية)، ما هُوية هذه المجموعة؟ هل هي أدب عراقي مكتوب بالإنجليزية أم أنها تنتمي إلى ثقافة اللغة التي كتبت بها؟

- هذه ليست مجموعة قصصية بالمعنى الدقيق للكلمة؛ إنها قصتان طويلتان بعض الشيء يصل طولهما معًا إلى أربعة آلاف كلمة تقريبًا مع مقدمة مكثفة كتبْتُها بنفسي على وفق طلب المؤسسة البريطانية المعروفة بـ "كُتّاب المنفى" Exiled Writers Ink وقامت بترجمتهما الشاعرة الأردنية فتحية سعودي فيما راجعت النصوص المترجَمَة الشاعرة البريطانية سالي ثومبسون. أما المشروع الأساسي الذي كنت مُنهمكًا به فيعود إلى مُفتتح الألفية الثالثة الذي كنت منشغلًا فيه بكتابة مجموعة قصصية تحمل عنوان "كوابيس منتصف الليل". تتألف المجموعة من عشر قصص أنجزتُ أربعًا منها وتركتُ المشروع معلّقًا في الهواء. ما يميّز هذه القصص أن البطلة واحدة وهي المرأة الهولندية ليليان، والراوي العليم هو أنا شخصيًا الذي أسرد الأحداث بضمير المتكلم. وهذه القصص يمكن أن تُقرأ منفردة أو مُجتمعة لأن فيها أكثر من خيط تنتظم فيه هذه القصص العشر التي رَسمتُ المخططات العامة لأحداثها والفضاءات التي تدور فيها وأنّ منْ يقرأها متصلة يشعر بأنه يقرأ "نوفيلا" قصيرة ولا يشعر بالملل أو التذمّر خصوصًا وأنّ الحَبكات تنطوي على مفاجآت كثيرة، ونهايات تنويرية لا تخلو من روح الدُعابة.

 أصدرتَ من منفاكَ كتابا نقديا مهما "أطياف التعبيرية.. غواية الحركة، ورنين اللون في تجربة ستار كاووش الفنية" هل لك أن تحيطنا علمًا بفحوى هذا الكتاب والطريقة التي نظرتَ بها إلى هذا الفنان التعبيري الذي شذّ عن السرب؟

- تعود معرفتي بالفنان ستّار كاووش إلى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي يوم كان طالبًا في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وإثر تخرجه فيها، ولعله الفنان التشكيلي العراقي الوحيد الذي حقّق نجومية تضارع نجومية المطربين والفنانين السينمائيين والمسرحيين العراقيين، فصار معروفًا وهو في ذروة شبابه، وربما عزّز هذه الشهرة عمله في الصحافة العراقية خلال أوائل التسعينيات. وستّار بخلاف العديد من أقرانه ومجايليه كان صاحب مشاريع فنية تبدأ بالمدينة والأرصفة، وتمرّ بالسيارات الحُمر الفاقعة اللون، وتنتهي بثنائية الرجل والمرأة. فالإنسان سواء أكان رجلاً أم امرأة هو الموضوع الأثير لديه مُعزِّزًا إياه بالتقنيات والأساليب الأوروبية الحديثة كالتشخيصية، والتعبيرية الألمانية، والتنقيطية، واليوغند ستيل وما سواها من أساليب وتيارات فنية معروفة. عاش ستار في أوكرانيا، وحسنًا فعل حينما غادرها عند أول فرصة ليأتي إلى هولندا التي منحته الكثير كما منحت العديد من الفنانين العراقيين الذي لاذوا بهذا المنتجع الفني وتوزعوا بين جنباته الوثيرة. ولعل ستار يشبه في دأبه ونشاطه سعد علي حيث انتظم في عمله اليومي وقدّم العشرات من المعارض الفنية الشخصية والمشتركة وكتب عنه العديد من النقاد العراقيين والهولنديين ولعل آخر كتاب صدر عن تجربته الفنية هو "نساء التركواز" للناقدة التشكيلية الهولندية شارلوت هاوخِن. يُعدّ ستار كاووش من الفنانين العراقيين القلائل القادرين على الاندماج مع المدارس والتيارات الأوروبية الحديثة وامتصاصها، فهو يزور المعارض والمتاحف الفنية المحلية والعالمية بشكل منتظم، ويتناهل معها ليقدّم لنا في نهاية المطاف أعمالًا مُهجّنة تجمع بين خصائص المنبع والمصبّ في آنٍ واحد. لقد تقصيتُ في كتابي "أطياف التعبيرية.. غواية الحركة ورنين اللون في تجربة ستار كاووش الفنية" الذي صدر عام 2005 أثر المدرسة التعبيرية الألمانية، إضافة إلى التيارات الأوروبية الأخرى التي نهل منها ليخلق هُويته الفنية الخاصة به والتي تحمل بصمتهُ التي لا تُخطئها العين الخبيرة. لوحات ستار كاووش عالم من الجمال المُبهر، ومنجمٌ من الموضوعات التي لا تنضب.

◙ في النقد السينمائي أصدرتَ كتابًا بعنوان " الفلم الوثائقي العراقي في المنافي الأوروبية"، ما المعايير التي اعتمدتها في اختيار هذه الأفلام، وما المنطلقات المنهجية والمعرفية التي أسّست مسار هذا المنجز؟

- لا يجتاج الناقد المُحترِف الذي ينغمس لأربعة عقود في مشاهد الأفلام السينمائية وتحليلها إلى معايير مُحددة وإنما يضع ثقته في ذائقته الشخصية المدرّبة التي تستطيع أن تستشعر نجاح الفيلم أو فشله من اللقطات والمَشاهِد الأولى لأي فيلم روائي أو وثائقي أو قصير. أنا لا أنكر أهمية المعايير الفنيّة التي نحدِّد بواسطتها جودة الفيلم أو رداءته ولكن هذه المعايير باتت تسري في دمائي ولم أعد بحاجة لوضعها على الورق. ولا أخفيك سرًا إن قلت بأنني أشاهد أحيانًا خمسة أفلام في اليوم الواحد، وبمعدل ثماني إلى عشر ساعات مشاهدة يوميًا وخاصة في المهرجانات الدولية أو حتى في بعض الأيام العادية التي أكرّسها للأفلام العالمية التي يجب أن تُشاهَد لأهميتها الفنية العالية وما تنطوي عليه من تقنيات حديثة ومُبهرة.

في هذا الكتاب المعنون بـ "الفيلم الوثائقي في المنافي الأوروبية" هو حصيلة مشاهدة عدد كبير من الأفلام الوثائقية التي أنجزها مخرجون عراقيون يتوزعون في عدد كبير من البلدان الأوروبية وقد ارتأيت أن أدرسها وأحللها نقديًا اعتمادًا على الرؤيتين الفرنسية والبريطانية وطريقة تعامل المخرج الفرنسي الذي يريد أن يلامس الحقيقة من دون أن يتدخل هو شخصيًا ولا يسمح للمصوِّر وحتى كاتب السيناريو فيما بعد من إضفاء لمساته الشخصية على الفيلم على العكس من المخرج البريطاني الذي لا يجد ضيرًا في أن يُقحم رأيه الشخصي في الفيلم الذي يسعى لإنجازه.

هذه الأفلام الـ 27 أثارت انتباهي وهزّتني من الأعماق فكتبتُ عنها، فتارة أركّز على قصة الفيلم أو ثيمته الرئيسة، وتارة أخرى أتناول نموّ الشخصيات، وتارة ثالثة أسلّط الضوء على الرؤية الإخراجية. فالكتاب، عمومًا، ليس تخصصيًا وإنما هو مكتوب للقارئ العادي أيضًا الذي يقرأ ويستمتع ويستفيد. كما أوثِّق فيه للمنجز السينمائي لأصدقائي المخرجين الذين تربطني بهم علاقة شخصية وفنية وإبداعية، وأحيانًا اساهم في ترجمة هذا السيناريو أو ذاك، أو أقدّم ملحوظة هنا أو هناك يأخذها البعض على محمل الجد أو ينفر منها من دون أن يفلح في تقديم الأسباب أو الأعذار المنطقية التي توضِّح سبب هذا النفور.

أنا سعيد لأنني قدّمتُ في هذا الكتاب ثلاث مخرجات عراقيات وهنّ ميسون الباجه جي، ورانيا توفيق، وعايدة شليبفر، فالمُخرجات العراقيات مثل العُملة النادرة التي يجب أن نحتفي بها، ونضعها في المكان الصحيح ضمن المَشهد السينمائي العراقي.

أمحض بعض المُخرجين حُبًا من نوع خاص مثل المخرج المتألق محمد توفيق الذي كتبت عنه مقالات كثيرة تصلح أن تكون كتابًا كاملاً يوثّق تجربته الإخراجية المتفردة، فثمة شيء جديد ومميز في كل فيلم ينجزه. وهذا الأمر ينسحب على مخرجين آخرين ولكن ليس كلهم بالتأكيد.

 يدور في خلدي سؤال وددت أن أعرف إجابته منك لمَ لا يوظف عدنان حسين ما يملك من الحرفنة السردية والمهارة اللغوية والبلاغة الأسلوبية في تصوير هذه التجربة بقالب روائي؟

- شكرًا جزيلاً على هذا الإطراء الكبير الذي يعزّز الثقة بالنفس، ويدفعها لخوض مغامرات عديدة قادمة. وهذا السؤال المنطقي يطرحه عليّ العشرات من الأصدقاء والقرّاء الذين يتابعون ما أكتب ويتمنون لو أنني أشرع فعلًا بكتابة الرواية خصوصًا وأنا أعرَف بدروبها ودهاليزها السريّة والعلنية كتابة ونقدًا وتنظيرًا. وأعدكَ مثلما وعدت الكثيرين بأنني سأعود إلى السرد ثانية وأكتب ما أراه مناسبًا لهذه الحقبة الزمنية العسيرة التي يكاد فيها الإنسان يفقد أي أمل في هذه الحياة العصيبة المشحونة بالخوف والقلق والترقّب.

الرواية هي حلمي الكبير ولعل هذا التأخر في كتابتها سيكون واعزًا لأن أقدّم شيئًا لم يطرقهُ أحد من قبل على الصعيد المحلي خاصة وأن حياتنا سواء في العراق أو في المملكة المتحدة محتشدة بالكثير من الموضوعات الإشكالية التي تصلح لأن تكون مادة خصبة ومثيرة للرواية، هذا الجنس الأدبي الذي أصبح ديوان الأمم برمتها.

لقد تأخرت كثيرًا ولا أريد أن أختلق الأعذار للظروف الحياتية التي جعلتني أكرّس حياتي للصحافة والنقد بأنواعه المختلفة وأعرِض عن هذا العالم المكتظ بالحُب والدُعابة والفلسفة والجمال. وفي الختام دعني أشكرك من القلب لأنك جعلتني أبوح بكل هذا الكلام الذي كان مُخبأ في تضاعيف القلب، وتلافيف الدماغ.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top