الراوي مبتكر ومُخلِق للسرديات

الراوي مبتكر ومُخلِق للسرديات

ناجح المعموري

الحماس حاضر لقراءة رواية عبد الخالق الركابي وهكذا أخذتني " ما لم تمسسه النار " وتعرفت منذ اللحظة الاولى وأنا اقرأ بأنها رواية معقدة ، وقائعها متناوبة ، متداخلة ،

الأزمنة متداخلة العلاقات متشعبة الذاكرة ، المرويات كثيرة ، كل هذا يعني ضرورات الضبط عند القراءة والانتباه لتداخل الوقائع والاحداث ، مضافاً لذلك مهارة الركابي المعهودة في كونه لاعباً قادراً على تفويت العديد من الفرص على القارئ الذي دائماً ما يذهب نحو المرويات بوصفها وقائع معروفة ، لكنها في عمقها غير ذلك ، على الرغم من المعروفات كجزء من تاريخ حقيقي عاشته بغداد أكثر مما تعرفت عليه مدينة مثل بدرة التي كانت في الماضي مكاناً للطرد والعزل والنفي والموت بعيداً عن الأهل ، بينما في هذه الرواية حازت بدرة صفة الجديدة " وتحولت رحماً صيانياً ، مضافاً لاستعادته لمن كان بعيداً عنها ، لكنه ظل مقترناً بها لم تكن بغداد مثلما هي بالسابق ، والقاص يعني ببغداد العراق كله ( الفترة العصيبة التي تحولت الحياة فيها في بغداد ــ بفعل قصف الطيران الاميركي اليومي ــ الى ضرب في جحيم كنت اتوقع معه أن ينهار البيت فوق رأسي في أية لحظة وكان ثمة كابوس وحيد ينغص عليّ نومي في اغلب الليالي / ص 10/اليومي المألوف يحوز رمزيته الممنوحة له من مهارية الركابي ، لأنه قادر على التحكم باللغة وسحبها بطاقته المانحة له سرداً جاذباً وماهراً ، ونموذج بغداد ليس وحيداً وانما الشواهد على ملاحظتي كثيرة جداً ، بحيث بالإمكان التفرغ لملاحظة شبكات الرموز في المألوفات والمعروفات وتمظهرت لي هذه الالتقاطات وكأنها ممنوحات شعرية ذات حضور لحظي ويومي ، وبرع بذلك عندما استعاد اليومي لديه روحه الفنية وشعريته المختلفة عما توافقت عليه الأفراد والجماعات . 

الرواية ليست تقليدية ، تميزت ببناء غير نمطي ، تداخلت فيه السرديات واستولدت تنوعاً ليس سهلاً الإمساك به ، وعبد الخالق يضع القارئ وسط شبكة تزداد تداخلاً وتعقيداً ولعل أبرز المفاجآت الاستهلال السردي الذي جعله فاتحة لرواية طويلة . واللعبة كامنة فيه وليس سهلاً على المتلقي إدراك لعبة عبد الخالق الا في انتهاء الرواية التي استعادت المتلقي الى الاستهلال وهذا اللعب المهاري ينطوي على طاقة في ترتيب البناء وآليات التحكم به . لذا كانت فاتحة الرواية حوّلت سيرورته الى خاتمة . منحت نديم دوراً مركزياً ، وجوهرياً فمنذ ابتداء فاتحة السرد وحتى الخاتمة ، وقد أشار عبد الخالق الركابي ( تناوب اثنان . الكتابة فيها : نديم اسكندر بيك وأنا من بعده ليعود نديم فيختم ما بدأ كأني به أبى إلا أن يبرهن على أن له وحده فصل الخطاب / ص 9//

الإشكال البنائي المثير هو وجود عشرة فصول في الرواية هي المكتوبة بالاشتراك بوجود نديم أو حضوره الفني بمعنى أن الفصول العشرة لها بناء مديني وتشارك ثنائي وهذا لا يعني بأن هذه الفصول هي المعنية فقط بشخصية نديم ، بل إن ما هو خارج هذا العدد أكثر فاعلية ضمن شبكات الوقائع السردية . لكن عبد الخالق الركابي اختار الفصل الحادي عشر خاتمة مثلما قاله في النهاية وانطوى على تمثيلات ثقافية ومعرفية ، سنحاول الإشارة لها . بحيث كان ـــــ نديم ـــــ عقلاً صاغته الكثير من العقول المطرودة الى بدرة التي افضت كنيتها مع الحذف البسيط الى ما يجعلها مكاناً مضيئاً ومتميزاً ، اقترنت به الكثير من المميزات والتجوهرات . ووجدت في هذه الرواية المهمة ابتداء نديم فاتحة وخاتمة ، رغبة من الركابي أن يجعل منه مجالاً حيوياً ، أدى دوراً في توصيف ورسم شبكات الأفراد والجماعات في بدرة التي ساعدته ، على توفير أوسع فرصة لنديم في تطورات السرد . كذلك لعبت الفاتحة محوراً مركزياً وضع المتلقي أمام الآلية التي اختارها الركابي من خلال العثور على الدفتر في استهلال الرواية بحيث تحول ذلك الى عتبة بنائية في الرواية . إنه ذاكرة تاريخ فيه سوادات لم تعلن منذ البداية ، بل تكشف لاحقاً بالتدريج ، وهي ذات علاقة مباشرة مع مشتركات معنية بالراوي ونديم وأصدقاء له . والمرويات كشاف عن الدفتر الملوث والمكسو بالسواد واحتراق أطرافه ، تعبيراً عن ذاكرة جمعية متآكلة . والحضور القوي هو بدرة الجديدة التي لم يستطع الأفراد والجماعات تجاهل بدرة الأولى .

الأكثر دهشة في هذه الرواية مشاركة نديم والراوي على التشارك بكتابة الفصول العشرة وبراعة الركابي فوضت نديم كتابة الفصل الحادي عشر . الذي تضمن كل الأجوبة الخاصة بالأسئلة والتي ظلت طافية وموزعة بين الغياب وضياع مصادر التعرف والاقتراب من الأسماء ذات المعرفة والممتلكة المعلومات مطلوبة للكشف عن نديم وخصائصه التي ظلت غائمة . مارست تشوشاً على مكملات الذاكرة السردية التي تهيكلت حولها كل المرويات التي صاغت بنجاح تاريخاً ممتداً لسنوات طويلة ، وأهم ما تبلور في مرويات ذاك التاريخ خزان بدرة في قديمها وزمنها الجديد ، وأنا سعيد لأن عبد الخالق حافظ لذاكرته وأمين على خزانات الأفراد والجماعات وتواريخها ، لذا استحضر تاريخ الأفراد المطرودين إليها مؤكداً على أمجادها وبطولاتها التي هي جمعته ، على الرغم من أنها ذات صفة فردية وما يمثل هذا هو التظاهرة التي تفجرت أثناء العرض السينمائي الذي تحول الى مجال سردي جوهري ضمن خزان هذه المدينة التي صاغ الأفراد المطرودون فيها تاريخاً لها وللعراق ، وسجل كل منهم طاقة ذاكرة جبارة الملمح الفني والمعرفي . هو الراوي الذي حاز صفة المخلوق والمبتكر والمثير في دوره السردي ظل مكتفياً بصفته السردية ولم يحز اسماً له ، لأن الركابي أراده راوياً دالاً على كل العراقيين أو على الكل الذين عاشوا في بدرة وحافظوا على تاريخها الجديد والقديم وتفضي هذه السردية الى أكثر من منفذ فيه خصوصيات المكان ، لكنه ينطوي على تشاكلات مركزية وهنا تتضح الوحدات السردية وجوهرها ، الإشارة ضرورية جداً للذاكرة اليقظة المقترنة بمدينة بدرة واعني بها تفاصيل المرويات التي ذهب إليها الراوي متعاوناً لاستكمال ذاكرة الجماعات التي عاشتها المدينة ودخول " نديم " مركزاً مهماً ، تعمقت الرواية كثيراً ونديم هو الشخص الواحد الذي تشكلت حول شبكة من المرويات لذا وجدت بأن شخصية " نديم " التي كانت فاتحة السرد امتدت خاتمة لها وهي التي اتخذت دوراً بارزاً في وضع خاتمة للخطاب ، بمعنى أن " نديم " هو اللاعب الأساس . لكن لا يمكن نكران الدور الذي قام به الراوي متعاوناً مع نديم لاستكمال الوحدات السردية التي كان لها دور مهم على السرديات الاخرى وتشكلت معاً خزاناً للذاكرة الكلية وذهب الى الكلية التي تؤشر للجميع ، وليس لجماعة واحدة أو ثانية . لذا تحول الدفتر الى ما يشبه التميمة او آخذه بدرة ذات الطاقة السحرية التي عرفها العراق القديم وهذه الاخذة لها طاقة صيانية ، تتمتع بصلة عميقة بالماضي وتاريخ المرويات التي تم الغاء الاسم فيها وظل صوتاً تابعاً الى نديم ، حتى لحظة الحصول على الدفتر أخيراً . 

وصول الراوي وعائلته الى بدرة هو المنفذ المركزي الذي صاغ العديد من البؤر السردية ، ابتداء ببتول ومن بعد نديم واسكندر ودلالة وجوده في بدرة وملكياته وهيمنته كسلطة ، اخضعت أفراد وجماعات المدينة ولهذه معاً سرديات خاصة بالمكان وعقائد واساطير ، وتحولت معاً مرآة خاصة للجماعات ، تشارك بها الجميع كهوية كلية ، لها امتدادات في الداخل والخارج ، على الرغم من أن المجتمعي الممتد نحو مهران له حضور ضعيف وتم اختزاله سريعاً . والملاحظ وجود طرف واحد متباين الدور مثل رجل الدين في مهران ، والراوي المرتبط بعلاقة قوية مع نديم وأيضاً ما ادته بتول وغيرها من إناث ونساء في بدرة الجديدة والقديمة ، ساهمت بتولّد شبكات سردية أفضت الى النتائج التراجيديا بين نديم والوالد بعد اطلاع الابن المصاب بالصرع وتوابعه النفسانية ، وما أدى الى انهيارات كبيرة . قادته الى الشماعية . المكان المتعايش به وتعلم فيه تطويع عجائن الطين . وهي المكان الذي حاز حضوراً مبكراً حتى اللحظات الأخيرة . وهذا أحد الملامح التي ذكرتها في تنوعات وتداخلات البناء الذي اخترق المألوف بالسياق السببي السردي . 

أدرك الراوي العلاقة الجوهرية ، بين نديم مجهول المصير ودفتره المشؤوم الذي سبق للراوي ان دون فيه تلك الفصول العشرة القصيرة . التي كان الأول منها يحمل عنوان " أين أنا " السؤال الاول الموجه للمتلقي هو " أين أنا " وطاقة السؤال " أين أنا " قوية متأتية من كون الوحدة البنائية فيها هي الاخيرة ، لكن الراوي جعلها من ابتداءات السرد . لأن اللحظات الأخيرة مع هاجر في النهر استكملت سردية اسكندر بيك التراجيدية ، ولم تشأ سردية نديم الابقاء عليها بعد وفاة فردوس ويبدو بأن موقف نديم الاجتماعي والشعور الامبراطوري / البطرياريكي قادة للتخلص من هاجر حتى تستكمل نقاوته . واعتقد بأن الكنيتين فردوس تضمين لزمن فردوسه معها ، وهاجر اسم دال على المغادرة والطرد التوراتي / سارعت للتخلص من ثوبك محاولاً إنقاذها ولولا نوبة الصرع فاجأتك حتى كادت تؤدي بك . ذلك هو مطلب هؤلاء المحامين الوحيد منك لكي ينتهي كل شيء بخير . السؤال الذي يحتل موقع تباين الرأي واختلاف التأويل وهو لماذا لم يحز هذا الفصل رقماً ، وابتداء التسلسل برقم (2) وأنا اعتقد بأنه ظل مكتفياً بفراغ الرقم لكن عبد الخالق الركابي لا يعني هذا ، بل هو مولع بخلق ارباك للمتلقي ، لا بل امتحانات وكل ما يفترضه المتلقي مقبول وغير مطعون به . لأن سردية هاجر هي الأخيرة التي وضعت حسماً مناسباً لمكانة الأب في مدينة بدرة ، وفصل " إين أنا " الذي كتبه الراوي . 

حتى اللحظات الأخيرة وقبل مقتلها ظلت الحولاء هاجر هي الكابوس المعذب له ليلياً ، إنها " عين الشيطان " 

يتبع

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top