على حافة اللانهاية.. العقل والمادة وبحثُنا عن المعنى في كونٍ متطوّر

على حافة اللانهاية.. العقل والمادة وبحثُنا عن المعنى في كونٍ متطوّر

لطفية الدليمي

مَنْ هم الفلاسفة الحقيقيون في عصرنا هذا الذي يوصف بعصر موت الفلسفة ؟ سيكون أمراً متوقّعاً إذا ماتباينت الإجابات والأفكار بهذا الشأن؛

إنما هناك قناعة باتت تترسّخ بأنّ الفيزيائيين ( والرياضياتيين كذلك ) هم الوحيدون الجديرون ليوصفوا بكونهم فلاسفة حقيقيين. تتأسّسُ هذه القناعة على فكرة مفادُها أنّ الفلسفة هي في جوهرها مساءلةٌ للموضوعات الكبرى في الكون واستكشاف التأصيل الفكري الممكن لكلّ من الكينونات الثلاث الكبرى بحسب ترتيبها المنطقي : الكون ، الحياة ، الوعي . تقنّعت هذه الموضوعات الثلاث تحت مسمّيات وتوصيفات كثيرة منذ عصر بداية الفلسفة الإغريقية حتى إنتهت في يومنا هذا لتتجوهر في هذه الثلاثية الإشكالية .

شهدت العقود الثلاثة الأخيرة طفرة نوعية في المؤلفات التي تتناول هذه الثلاثية المعرفية من قبل فيزيائيين صاروا يعدّون في طليعة الفلاسفة الفاعلين في المشهد الفكري العالمي ، ويمكن تعداد بعض الأسماء المهمّة والمؤثرة في هذا الشأن : كارلو روفيلي ، شين كارول ، ماكس تيغمارك ، نِك بوستروم ، ماركوس دو سوتوي ، بول ديفيز ، ميتشيو كاكو ،،،، ، ولايمكننا هنا إغفال أحد الأسماء المهمّة في هذا الميدان : بريان غرين . 

قفز إسمُ بريان غرين Brian Greene، أستاذ الفيزياء والرياضيات في جامعة كولومبيا الأميركية العريقة، إلى طليعة أفضل الكُتّاب العلميين عقب نشر كتابه الذائع الصيت ( الكون الأنيق The Elegant Universe ) الذي حقّق نجاحاً كبيراً وتصدّر قائمة أفضل الكتب مبيعاً لأسابيع عدّة، ثمّ تتالت النجاحات التي نالتها كتبه الأخرى : ( نسيج الكون The Fabric of the Cosmos ) و ( الواقع الخفي The Hidden Reality )، وهاهو يُصدِرُ هذه الأيام ( فبراير 2020 ) كتابه الأحدث المسمّى ( حتى نهاية الزمان : المادة والعقل وبحثُنا عن المعنى في عالمٍ متطوّر Until the End of Time: Mind, Matter, and Our Search for Meaning in an Evolving Universe ) . يعمل بريان غرين ، البالغ من العمر 56 سنة - بالإضافة لأستاذية الفيزياء والرياضيات - مديراً لمركز جامعة كولومبيا للفيزياء النظرية ، ويعدُّ أحد الفيزيائيين الطليعيين المناصرين لنظرية الأوتار String Theory التي يعتقد كثيرون من الفيزيائيين بأنها ستمثّل المقاربة الصائبة لتحقيق التوحيد المرتجى للقوى الفيزيائية المعروفة . 

يتمايزُ هذا الكتاب جوهرياً عن كتب بريان غرين الأخرى ؛ فهو أكثر مساءلة للموضوعات الفلسفية في سياق تناول المفاهيم الفيزيائية ، وقد توسّع المؤلّف في ذائقته الفلسفية فتناول موضوعات على شاكلة : تطوّر اللغة وعلاقته بالوعي البشري ، الدين في عالمٍ متغيّر ، السياسة والعلم والتقنية وصناعة القرارات ذات المفاعيل العالمية ، تعليم العلم في القرن الحادي والعشرين ،،، ، وهو مايمنح هذا الكتاب مواصفاتٍ أراها مسوّغة للإقرار بأفضليته وتفوّقه النوعي على الكتب الأخرى - ذات الطبيعة الفيزيائية التقنية المحضة - التي كتبها غرين ، وفي الوقت ذاته هو السبب الذي جعل هذا الكتاب أكثر بدانة من الكتب الأخرى ( 448 صفحة بسطور متقاربة وكلمات صغيرة مرصوصة رصّاً ) ؛ لكنّ الفائدة والمتعة المرجوّتين من هذا الكتاب تعادلان كلّ عناء القراءة والتنقيب والبحث الفيزيائي المشوب بمطيّبات فلسفية مستساغة . 

تُعدُّ ثنائية ( المعنى / الغاية ) موضوعة لطالما ظلّت تمثّل إشكالية على كلّ الجبهات المعرفية ( فكرية ، فلسفية ، علمية ، وجودية ) ؛ فمنذ بداية النهضة العلمية والتأسيس المعلن للعلم الفيزيائي سادت قناعةٌ ( ميتافيزيقية الطابع ) بأنّ المعنى كامنٌ في الغاية ومشروط بوجودها ، وقد صارت مشروطية ارتهان المعنى بالغاية عنواناً عريضاً لعصر التنوير الأوروبي مثلما صارت ميداناً للمباحث فلسفية كثيرة أرادت جعل موضوعة ( الغائية ) مقترنة بكمال وجمال الوجود الإنساني حتى على صعيد العلم الطبيعي ، ويمكن في هذا الميدان أن نشهد كيف تحولت الفلسفة الديكارتية إلى نمط إختزالي ميكانيكي يجعل الموجودات ( بدءً من الكائن البشري وحتى الكون ) محكومة بقوانين ميكانيكية محددة تنقاد للفيزياء النيوتنية التي عُدّت في نهاية المطاف المثال الأكمل والأسمى في كيفية إقتران المعنى بالغاية .

إذن كل الأشياء موجودة من أجل غاية محددة خليقة بخلع معنى متّسم بالمهابة والجلال ويشي بالقدرة الخلاقة للصانع الأمهر ( الإله كلي القدرة ) ، وقد أبدى العلماء من جانبهم إنبهاراً - لم يلبث أن تعاظم مع الأيام - بالصياغات الرياضياتية المحكمة التي جاءت بها الميكانيكا النيوتنية التي صارت مسك ختام العلم الطبيعي وأيقونته العصية على البلى أو الإندثار . ظلّ الأمر على هذا المنوال حتى بدايات القرن العشرين وانبثاق الميكانيكا الكمومية التي قلبت الأسس الفلسفية للعلم الفيزيائي . 

قد لايُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى للحياة مقترن شرطياً بغائية فيها - ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضياتية والفيزيائية ؛ لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية : كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى ؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم ؟ هم يسعون في طلب مرجعية أخلاقياتية في مكانٍ ما من العالم ( أو الكون ) ؛ لكنّ التفكّر الوجودي والفلسفي سيقودنا في النهاية للإقتناع المُسبّب بأن المرجعية إنما تكمن في دواخلنا ونحن - لاغيرنا - من يصنعها ويشكّلها تبعاً لرؤيتنا الفلسفية وتوجهاتنا العلمية ومحرّكاتنا الأخلاقية . 

يناقش المؤلف في الكتاب - وباستفاضة مدهشة - الكيفية التي إنبثقت بها الحياة البشرية عقب سلسلة متتابعة من الوقائع الكمومية الضخمة التي تعود إلى بدايات الإنفجار العظيم ، وعندما ندرك هذه الحقيقة التي ترى بأنّ العقل والحياة إنما هما محض ظاهرتين عابرتين بالمقياس الكوني فسندرك حينها الأهمية العظمى لمسعيين أساسيين في هذه الحياة : الأول أن نحاول بأعظم مانستطيع من جهد ترك ميراث نبيل لنا بعد غيابنا، والثاني هو الإيمان بأنّ كلّ فردٍ فينا إنما أعطِي فرصة عظيمة ومدهشة لاختبار الحياة، ولاينبغي تحت أيّ سبب أو ذريعة نسيان هذه الفرصة العظيمة التي سرعان ماستنطفئ في لجّة الزمان الكوني .

إنّ فهم الكيفية التي تناغمنا بها مع الصورة الكونية الأشمل يظلّ دوماً مصدر فائدة عظمى، وإذا مافهمنا هذا التناغم الممتد من الإنفجار الكبير وحتى نهاية التخوم الزمنية التي يمكن أن ينتهي معها الكون - وحياتنا كذلك - فسيقودنا هذا الأمر على إعادة تشكيل مفهومنا عن المعنى والغاية في الحياة : سندركُ أن ليس من جوابٍ نهائي يجوبُ أعماق الكون منتظراً من كائنات بشرية مثلنا أن تكتشفه ؛ بل أنّ معرفة حكاية السردية الكونية سيرفع عنّا عبء البقاء مأسورين لذلك الهاجس الكوني اللحوح، وسيدفعنا في الوقت ذاته لتطوير أسبابنا الذاتية العميقة لموضوعة الغاية من وجودنا البشري ، والتفكّر الحثيث في تلك الموضوعة مع كلّ طور إرتقائي في حياتنا .

ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان : هذا مايؤكّده المؤلّف عندما يتناولُ موضوعة ( الدين ) ، وهو يرى عسفاً راديكالياً وأصولية علمية من جانب بعض العلماء عندما يسائلون الدين على أساس كمّ المعلومات الحقيقية التي يمكن أن يقدّمها لنا في فهم الواقع الموضوعي . ليس هذا من الإنصاف او المروءة لاعلى الصعيد القيمي أو البراغماتي . تكمن فائدة الدين - بعيداً عن مواضعاته اللاهوتية - في قدرته على تحفيز نوعٍ من حسّ الإنتماء الجمعي عبر رؤية حيواتنا في سياق كوني أكبر من النظرة الفردية الضئيلة، وتسكين مخاوفنا المتأصّلة تجاه حتمية الفناء والموت . يورد المؤلف العبارة التالية في هذا الشأن : " عندما أتفكّرُ في سعيي الدائم لفهم ذاتي - باعتباري كائناً بشرياً -، ولفهم الكيفية التي تتناغم بها كينونتي البشرية مع السلسلة الطويلة من الثقافة الإنسانية التي تمتدّ آلاف السنوات في عمق التأريخ البشري فإنّ الدين جزء حيوي ومفيدٌ للغاية في تلك الحكاية " . 

من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ مثل هذه المساءلات الجوهرية للموضوعات الكبرى ( الكون ، الحياة ، الوعي ) إنما تنشأ منذ بواكير الطفولة ؛ وبهذا تكون الطفولة مصدر التنوير والشغف المعرفي الذي ينبغي الإنتباه إليه وتطويره . يعترف بريان غرين : " منذ أن كنتُ طفلاً تلبّسني ولعٌ عظيم في التفكير بهذه الأسئلة : لم أفكّر بِـ ( لماذا أنا هنا ؟ ) بل بِـ ( كيف جرى الأمر لأكون هنا ؟ ) ، ولم أفكّر بِـ ( لماذا يوجد كونٌ ؟ ) بل بِـ ( كيف حصل الأمر ليكون الكون على ماهو عليه ؟ ) . إنّ مثل هذه الأسئلة تقودك حتماً إلى قلب الفيزياء " . يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب : هذا هو ماتعكسه هذه الأسئلة الجوهرية لطفلٍ يافع عبر التفكّر في سؤال ( كيف ؟ ) بدلاً من سؤال ( لماذا ؟ ) . 

كتابُ غرين هذا هو أقربُ ليكون جولة رائعة يحكي لنا فيها المؤلّف كيف انبثقت الحياة والعقل من الفوضى الأولى ، وكيف نخلعُ معنى على تجربتنا البشرية بوسائط عدّة : السرديات الكبرى ( قصّة الخلق ) ، الأسطورة، الدين، الإبداع الخلّاق، العلم، الأنساق الثقافية، السعي الحثيث وراء الكشف عن الحقيقة، التوق الكلكامشي إلى المطلق الخالد الأبدي . 

بقي أن أقول : لابدّ لهذا الكتاب ( وأمثاله من أدبيات الثقافة الثالثة ) أن يعطى أسبقية في الترجمة بقصد إشاعة هذه الثقافة في أوساطنا العربية وتحبيبها إلى القرّاء الشغوفين وتشجيعهم على قراءتها وجعلها عنصراً إثرائياً لاغنى عنه في ثقافتهم العامة . 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top