ذكريات صحفي في زمن الانقلابات..سوء حظ من تأميم الصحافة إلى الإقامة في كوبنهاغن

ذكريات صحفي في زمن الانقلابات..سوء حظ من تأميم الصحافة إلى الإقامة في كوبنهاغن

بغداد – علاء المفرجي

سوء حظ !.. لعلي سيئ الحظ، لكن اقتراناً بالتاريخ السياسي العراقي، وبالجزء الخاص من تاريخ الصحافة بعد انقلاب 8 شباط على وجه التحديد، يصح القول إنني مجرد شريك بسوء حظ قديم ضم أجيالاً من العراقيين فقدوا الأمان وتحوّلت حياتهم إلى جحيم.

بهذه الكلمات يستهل الكاتب والناقد سهيل سامي نادر كتابه الصادر عن دار المدى (سو حظ... ذكريات صحفي في زمن الانقلابات).. فالكتاب الذي حمل تبويباً في غلافه (مذكرات) يتناول السيرة المهنية للمؤلف، وأيضاً سيرة العمل الصحفي وتحولاته في العراق على وقع الانقلابات العسكرية والأحداث الدراماتيكية التي شاء (سوء الحظ) أن تكون مرتبطة بسيرة الكاتب ابتداء من منصف الخمسينيات وانتهاء بكوبنهاغن في الدنمارك حيث يقيم الآن.

فالكاتب لديه الكثير من التجارب التي طبعت عمره الذي تجاوز الخامسة والسبعين ، فهل اختار الوقت المناسب والعمر المناسب لتكون هذه التجارب قد اختمرت فيقدم نفسه بشكل متكامل لا مجرد التقاطات تلمع تاريخه. ففي هذه السيرة مارس الكاتب دور المحلل النفسي، حيث رصد كل ما مرّ بحياته وكتب عنه بمصداقية، من غير أن يأخذ الجانب المضيء من حياته، فالسيرة الحقيقية بعيدة عن تزييف الحقائق. وبدت هذه المراوحة جليّة بين من يعتبرها توثيقاً لفصول من حياة شخصية وبين من يقاربها من عمله في الإعلام على مدى خمسة عقود.

يحاول سهيل في مذكراته أن يكرس (سوء الحظ) الذي لازمه منذ بداية عمله في الصحافة، ويعطي في أصعب المواقف مساحة كبيرة من السخرية .. يقول المؤلف: "في أسوأ الأيام كنت أستعيد مفردات من سيرتي المهنية أمام أصدقائي، المقربين من الصحفيين، ليس لزيادة التعاسة بل لإشعال روح المرح. ذلكم كان حال أصدقائي أنفسهم وإن كانوا أكثر تكتماً مني. في حياتي الكثير من مواقف الرعب والإزعاج، وهذا بالضبط ما جعل العودة إليها بحاجة إلى المرح، وإنقاص روح الجد" .

ففي العراق يحتاج الصحفي المجد ّ والمثقف إلى أن يستدخل شيئاً من أخلاق رواقية تنأى عن التراجيديا ولا تتبنى الآمال ولا اليأس بل تثابر بتقليل الألم، وعدم الابتلاء بمرض الإنجاز والدخول بسباقات متهورة. إذا ما كان المرء صحيح القلب والعقل فإنه ما إن ينجو حتى يكون عليه أن ينسى. وبافتراض أنه لا ينسى، والآلام لا تنسى، وطموحات الشباب المغدورة تظل تلدغه حتى بوصوله إلى عمر الشيخوخة، فسيكون سجين ألمه وآماله المحبطة إذا لم يقاومها بالفكاهة. فالكاتب وقلة من الأصدقاء الموهوبين استبدلوا أحزان الشفقة على النفس بالقدرة على الاختراعات، وبناء صيدلية تحوّل السم الذي يفور في الأمعاء إلى ترياق.

وفي سعيه للكشف عن سيرته الذاتية وأبرز محطاتها، فأنها تكون مقرونة ب(سوء الحظ) ابتداءً من أول فرصة عمل له في الصحافة بعد خروجه من التوقيف، يوم حصل على وظيفة مصحح في جريدة أهلية صدر قرار تأميم الصحافة وإلغاء الصحف الأهلية، وبذلك فقد عمله الأول. وليس انتهاء بإشكالية إقامته في الدنمارك، حيث ُمنح إقامة لمدة خمس سنوات، وحسب القواعد القديمة كان هذا يعني عتبة لمنحي إقامة دائمة بعد انتهائها. "لكن سوء الحظ كان يركض خلفي وفي اللحظة المناسبة كان يسبقني فأمر عليه وهو جالس ينتظرني، ضاحكا ً ساخراً ، ّ إذن غيرت التطورات السياسية في الدانمارك اللعبة، فساوت بين جميع الإقامات الممنوحة في السنوات الست الأخيرة وجعلها مؤقتة وأكثر من هذا ينظر فيها ويدقق في كل حالة على حدة."

ولأن سهيل سامي نادر يعد أحد ابرز الوجوه الستينية، فإنه لم يعرف انهم (متميزون) كستينين بالمعنى الثقافي، إلا بعد تخطوا الستينيات حيث كان طلاب أوروبا يكافحون من أجل حرياتهم. بيد إن الستينيات العربية كما يرى "طرطشة هائلة في طين الأنظمة العربية اللزج."

ويؤرخ نادر الى افتتاح هذه المرحلة – أعني الستينيات – بحدث فني مهم هو ارتفاع نصب الحرية لجواد سليم في قلب ساحة التحرير، في وقت تلغى فيه جميع الحريات بانقلاب 8 شباط الدموي عام 1963. وهو ما جعل هذا التاريخ الكارثي يثير الاضطراب في سيرة الحرية في العراق. ليعود إليه الاعتبار عام 2019 يوم حدثت الانتفاضة ضد فساد النظام السياسي العراقي التي قادها شباب العراق، فهؤلاء لا غيرهم من قام بملء نصب الحرية بالدلالة الثورية.

وينتقل سهيل سامي نادر في محطات سيرته بالقارئ، من جريدة (الثورة) القومية النزعة، الى (الثورة) بعد انقلاب 17 تموز، ثم دار ثقافة الأطفال، وجريدة الجمهورية ، وكمجلة الاذاعة والتلفزيون، وألف باء، وصولاً الى محطته الأخيرة أو عتبته العراقية الأخيرة كما يسميها، جريدة المدى؛ التي عمل فيها كرئيس تحرير تنفيذي، ولم يغادرها حتى في خروجه من العراق الى عمان ودمشق، حيث عمل في تحرير كتب دار النشر التابعة لها واستمراره في الكتابة في ملحقها الثقافي (تاتو).

يقول عن هذه التجربة: "عملنا في بيئة أصدقاء أذكياء متفاعلين، لكن ما إن نخرج إلى الشارع حتى نشعر أننا في مكان لا نعرفه، وتتداعى كل قناعاتنا بمستقبله. لقد انصب اهتمامي على هذه الحقيقة، فكيف نحلل واقعاً نخافه ولا نستطيع، السيطرة عليه؟ كيف نراهن على ديمقراطية يقودها غير ديمقراطيين ويتحكمون بها؟"

اللافت في سيرة سهيل سامي نادر هو تلك القدرة العجيبة على تذكر جميع المقالات التي كتبها خلال عمله في مختلف المنابر، وظروف كتابتها وأسباب هذه الكتابة.

وفي الطريقة نفسها لا يتوانى بالحديث عن الحداث المرعبة التي واجهها بسبب عمله في الصحافة، منها اختطافه من بعض الميليشيات المسلحة، والتي كان فيها قريباً من الموت؛ وأيضاً اعتراضه مع زوجته من قبل بعض المسلحين وهو في طريقه الى عمان وإطلاق النار عليه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top