الشخصية الوصولية ومرآة الذات المزيفة في الأدب

الشخصية الوصولية ومرآة الذات المزيفة في الأدب

د. نادية هناوي

يذهب الفلاسفة إلى أنّ الشخصية مفهوم يطلق على أي كائن حي تحكمه حاجات وأهواء بينما يفسر النفسيون الشخصية بأنها مجموعة الأفكار والسجايا والميول والعادات التي فيها يتميز فرد عن آخرين غيره.

ولقد ميّز كارل يونغ بين التفرد والفردانية، فأما التفرد فسيرورة إيجابية تجعل الفرد متزناً وهو يؤدي مهامه متماشياً مع المقتضيات والواجبات العامة. وأما الفردانية فسلبية وفيها تتعارض خصوصية الفرد مع أية مقتضيات أو واجبات، فيتحرك بشكل معتم وغامض مختبئاً وراء قناع يَظهر فيه أمام الناس على خلاف حقيقته.

وهذه الفردانية هي المهيئ الأول في تشكل الشخصية الوصولية التي لا تتوانى عن عمل أي شيء أو سلوك أية طريقة مشروعة وغير مشروعة من أجل بلوغ أهدافها حتى لو تطلب الأمر القفز على القيم والتنصل من المبادئ والتغاضي عن الأخلاق، إذ كل شيء ممكن ومحتمل وطارئ.

والكوجيتو الذي يمثل هذه الشخصية هو ( أنا احتال إذن أنا موجود) ولا حدود للاحتيال ما دامت (الغاية تبرر الوسيلة) وأما السبيل فـ( جامل وتملق ..تسد وتسيطر) بغية النجاح المفاجئ والسريع في مجال لا تعرف هذه الشخصية ألفه من بائه ممارسة الخداع الذي به تغطي على جهلها وتصعد صعودا ماراثونيا إلى مراتب عليا بالمراوغة والانتهازية والاحتيال والأنانية والاستغلال والمكر والدهاء والدناءة والخيانة والعداء والتسويف والاستيلاء والنرجسية والمزاجية والضعف والدونية...الخ.

ولا تسود الشخصية الوصولية إلا في المجتمعات المضطرية والمنقسمة التي تمر بأزمات ومشكلات، وليست المجتمعات الحديثة وحدها عرفت هذا النوع من الشخصيات؛ بل عرفته المجتمعات الإنسانية منذ قدمها فكانت سبباً في زرع الشر بين أفرادها. 

فما الذي يدفع الشخصية إلى الوصولية وكيف يتمكن منها حب الذات تمكناً يجعلها تتملق وترضخ وتتمسكن مستذلة نفسها أمام الآخر ماسحة أكتافه ومتمسحة بأذياله، مؤدية مختلف أدوار الرداءة من أجل الظفر بمآربها ؟ ولماذا تحلم هذه الشخصية بامتلاك منصب أو بلوغ غاية وربما من دون مواهب وإمكانيات تؤهلها لأن تملك أو تحقق ذلك كله لوحدها ؟ 

هذه الأسئلة تجيب عنها الرواية بوصفها فن التجسيد للواقع المعيش الذي منه يستل الروائي شخصياته بأنواعها، ومنها الشخصية الوصولية التي يضفي عليها الروائي من مخيلته السردية سمات تبين عيوبها وتفضح ألاعيبها وتكشف عن سلبياتها. وهو ما عنيت الرواية العربية بمعالجته بأعمال روائية مهمة لكتّاب مهمين. ولعل شخصية سرحان البحيري في رواية( ميرامار) لنجيب محفوظ أوضح مثال على الوصولي الانتهازي النفعي الخائن لأفكاره والمخادع المتلون والمتشدق الذي سيقع في شر وصوليته في نهاية المطاف فتنكشف دسائسه وسرقاته وينتهي حاله بالانتحار. 

وبهذه الشخصية الوصولية أعطى محفوظ مثالاً لحال فئة خطيرة على المجتمع وقيمه، رامزاً بانتحار سرحان إلى الانهيار الذي سار نحوه المجتمع العربي والذي تجلت نتيجته في نكسة حزيران. وفي رواية (الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم جسد الصحفي يوسف الشخصية الوصولية التي تتسلق حتى تصل إلى القمة بالمكر والخديعة وقد انفصل الفكر لديها عن العمل وما عاد لها إيمان بقضية إلا تلك التي تجني من ورائها المكاسب.

ومن الروايات الحديثة التي وظفت الشخصية الوصولية رواية( خبر عاجل) للدكتور نضال الصالح والصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون بالأردن 2020 وهي ثالث عمل له بعد روايته (جمر الموتى) 1992 و(حبس الدم) 2019 .

ومن العنوان( خبر عاجل) يتجلى مسار الرواية المتسم بالطارئية ومضمونها المتغير بالوصولية التي توضحت على مستويين: مستوى التأليف ومستوى السارد. فأما على مستوى التأليف فمن خلال :

ـ تدخل المؤلف بالتوضيح الأول الذي استهلت به الرواية وفيه يعلن للقارئ بأن في روايته من المستور والمسكوت عنه ما لا يسمح الرقباء بنشره. أما كيف عرف المؤلف بذلك فمن خلال الدكتور هشام الذي سرّب إليه تقريرهم عنها علماً أن هشام هو أحد الرقباء الثلاثة، وهو أيضاً شخصية مساندة في الرواية، وهذا أول مؤشر على الوصولية التي بها تتملق الشخصية ساردها ومؤلفها معا. ثم التوضيح الثاني الذي فيه يقول المؤلف في ختام الرواية:( للرقيب مطلق الحق في منع هذه الرواية من النشر والتداول) وليست غاية المؤلف من التدخل بهذه الطريقة إشراك القارئ في عمله أو انتقاد ظواهر سياسية وثقافية واقعية حسب؛ بل هي أيضا لعبة سردية وربما هي طريقة للامعان في فضح الرقابة وتابوهاتها.

ـ تناوبه بالظهور مع السارد بما سماه( إشارات خارج النص وداخل الحكاية) جاعلا وراء كل مقطع سردي فيه السارد هو الشخصية الرئيسة مقطعا ميتاسرديا فيه يؤدي الدكتور هشام دور المساند والمساعد وهو يحلل كل مقطع أما توضيحا لمعنى أو تعديلا لصورة أو استبدالاً لمفردة ما غير مناسبة بغيرها أو تعريفاً بموقع أو حادثة . 

أما وصولية السارد فتوضحت في :

1ـ أنه لم يجعل الوصولية متمثلة في شخصية واحدة كما هو الحال في روايتي (ميرامار) و(الرجل الذي فقد ظله) فيكون الأمل بالقضاء على خطرها ونجاة المجتمع من شرورها ممكناً ومحتملا؛ بل جعلها شاملة أكثر شخصيات الرواية كإشارة رمزية إلى استشراء لظى الوصولية في واقعنا العربي المحترب بالطائفية والإرهاب والفساد حتى لا أمل بالنجاة منها. 

2ـ أنه جعل شخصية البطل أحمد قريبة من الماضي الناصع والأصيل الذي يمثله جده المتنبي، مبتعداً به عن الحاضر المحترب بالفساد، بينما اتهم غيره ـ أصدقاء ورفاقاً وأقرباء ومثقفين ـ بالفساد.

3ـ نفعيته التي جعلته يتخذ من شخصية الدكتور هشام وسيلة بها تمكن من الوصول إلى كتابة عمل يمكن أن يسمى رواية، وكذلك شخصية جمان التي ما كان ارتباطه بها عن حب حقيقي. وهو ما توضح في الثلث الأخير من الرواية حين صارت رسائلها الالكترونية العاجلة تنقل له أخبار حلب وأهلها وما يستجد فيها من مسائل الإرهاب والنزوح فيتحرك على وفقها بوصفه ملازما في كتيبة عسكرية. 

4ـ المراوغة التي بها جعل شخصية الدكتور هشام نفسها وصولية وهي تتملقه ممارسة دور الشخصية المساندة والناقدة( ما حدث لك من إقصاء وتهميش وتقديم أقزام عليك ليسا سوى نقطتين متناهيتين في الصغر ضمن لوحة كبيرة يملؤها السواد) ص32ـ33.

5ـ تمويه هدفه الخاص المتمثل بـ(تجريب معمار روائي مختلف) بهدف عام يتمثل في التظلم من الوصوليين والرغبة في كشف الاعيب الرقيب الثقافي.

6ـ التناقض بين انتقاد مؤامرات الآخرين على حلب وعليه، وبين تآمره هو على القارئ حين جعل الناقد شريكا له في إتمام عمل ما كان ليصنعه لوحده، مقلصا بذلك دور هذا القارئ إن لم يكن صادره بالمرة.

7ـ الانتهازية التي بها احتال السارد على ناقده الدكتور هشام وتحديداً في الربع الأخير من الرواية حين ابتعد عن مناوبة مقطع سردي بمقطع ميتاسردي واتجه إلى صيغة سردية جديدة وهي تبادل الرسائل مع هشام ممهدا الطريق للخاتمة التي فيها قلب ظهر المجن له متنكرا لدوره الناقد ناكراً مساعدته له، متصدراً المشهد وقد أنجز روايته. فما كان لهشام إلا أن يقول ولو بعد فوات الأوان( هذه ليست رواية وأنا لست قارئاً ) ص181 

8ـ الضعف والدونية والفردانية جعلت الوصولي دكتور هشام يوصي في خاتمة الرواية الوصولي السارد( الإخلاص لجنس أدبي في رأيي يعني الإبداع ..اخلص لكتابة الرواية وحدها .. صحيح إن الحياة الثقافية تشهد صدور مئات الروايات كل سنة ولكن الأكثر صحة أن قليلاً منها هو رواية بحق ) ص190 وفي هذه الوصية إدانة للسارد الذي اعترف أنه مشمول بالوصولية أيضاً (نحن لسنا نحن بل صورنا الزائفة في المرايا ظلالنا المتموجة على سطح الماء) ص172 " 

9ـ التزييف الذي به تعالت الشخصية الساردة على الآخرين مسقطة ما عندها من سمات وصولية على الآخرين. واتضح هذا التعالي في الخاتمة التي اختارها السارد لنفسه ميتا وهو يتأسف على واقع هيمنت فيه الوصولية على الناس وجعلتهم أجساداً بأقنعة شتى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top