تداخل السّيري والتاريخي في روايات أحمد خلف

تداخل السّيري والتاريخي في روايات أحمد خلف

علوان السلمان

(الكتابة امتياز نخبوي)

جيل ويلز..

النص السردي.. نص فعل متفاعل..ووليد مقومات وعوالم تخييلية تشكل نسجه الحاضن لأحداثه وشخوصه..

من أجل تحقيق المنفعة المنبعثة من عوالمه الحالمة من جهة.. ولذة التأمل القرائية بالتحليل والتساؤل واستبطان حكايا الشخوص من جهة اخرى..مع قدرة على مواكبة الواقع المجتمعي الذي يولد فيه ويحاكيه بتنوعه ووعيه بنسج متزن وملائم لمسيرة النص التصاعدية..

وما بين السرد الذاتي الذي يحقق عوالمه الراوي العليم والسرد الموضوعي الذي يخوض تفاصيله السارد الضمني الذي يشركه الراوي العليم في العملية السردية..(وعليه سنشركه بين حين وآخر في أن يروي لنا ما عاشه من أحداث وما يراه هو مناسباً لسرده من حكايات ألمت به في ماضيه وحاضره وما يتوقع حدوثه في القادم من الأيام..على أننا سوف نتكفل القسط الأعظم من تجاربه..) ص8 ـ ص9.. كان المنجز السردي(الذئاب على الأبواب) الذي حققت عوالمه النصية ذهنية فكرية متأملة نسجتها أنامله وهو يسبح بين تيماته التي اتكأت على أساليب حكائية داخل بوتقة واحدة بلغة واقعية تحمل خطابها الممزوج بلمسات جمالية اعتمدت تقسيم الأحداث الى أجزاء متفاوتة الكثافة من أجل إضفاء طابع التشويق على المبنى الحكائي..وأسهمت دار النخبة في نشرها وانتشارها/2018..لاشتغال منتجها القاص والروائي أحمد خلف على تيمات حكائية متعددة كان في مقدمتها(السيرة والتاريخ والبوح الذاتي..)داخل نسجه السردي..ليخلق عالما مليئاً بالمفارقات المتشابكة التي تقوم على التناقضات المتصارعة بحركة دينامية منفتحة على واقع متعدد الشرائح الاجتماعية..ابتداء من العنوان الأيقونة السيميائية التي شكلت على مستوى الدال نسق لغوي بفونيماتها الثلاثة جملة اسمية دالة على الوصفية برؤية منحت المستهلك(المتلقي) وعياً مضافاً بما تحمله من طاقة إيحائية تشده للولوج في عوالم النص وسبر أغواره واستنطاقه للوصول الى ما خلف عوالمه المشهدية..إضافة الى أنه يركز على الهم الاجتماعي كمحرك مؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنيته السردية والذي يحدد الوعي الاجتماعي المتمثل بشخصية(يوسف النجار)..الذي شكل بؤرة السرد البانورومي المتشظي الأحداث من جهة.. وصاحب التاريخ السيري المكتظ بالمفارقات الحياتية من جهة أخرى..انطلاقاً من دراسته الجامعية ومروراً بمشاركاته في الحروب وانتهاء بالاحتلال وتداعياته التراجيدية التي آلت الى فوضى البلاد التي كان من نتائجها الطائفية المجنونة التي حرقت الأخضر واليابس متمثلة في تفجير بيته وقتل ابنته وتهديده ومراقبته..كل هذا جعل منه بطلاً إشكالياً يعيش ماضيه وحاضره برؤية رافضة لواقعها بعد أن عاش اغتراباً مكانياً متعدداً يكسره أحياناً يونس الغطاس الذي( لايعرف لسانه الكذب)و(لا تأخذه نزعة دينية أو مذهبية)والذي أخبره عن تفجير بيته:

ـ لقد كشفوا عن أنفسهم بالاعتداء على بيتك..

ـ ولكن لا أظن أن لي أعداء يكرهونني الى درجة الانتقام من أسرتي؟

ـ عليك بالصبر وألا تبدو أمامهم ضعيفاً خائر القوى..إنهم ينتظرون تلك اللحظة التي تتهالك فيها الى الأرض كي يملأ الحبور صدورهم الخاوية..حذار حذار من لحظة الانهيار تلك..

تبادلا النظرات بصمت يعلم لو حصل للغطاس ما جرى معه لكان الرجل قد ألهب الأرض تحت أقدامهم ولكن من هم؟ ليس من الصحيح أن يُلقي الاتهام كيفما يخطر له..)ص13..

فالمنتج(السارد) باكتناز ذاكرته ووعيه الثقافي(الذي هو مجموع ما انصهر في ذهنه من جهد قرائي وبصري) يركز على تفاصيل الأحداث والمواقف المتوالدة منها والمتفاعلة مع الشخصية وتأثيرها في توجيه حركة النص وترابط تيماته الحدثية..حتى أنه جعل من بطله(يوسف النجار)بؤرة مركزية تجتمع حولها خيوط النص وتمنح نسيجه وحدة موضوعية بلغة انفردت بمستواها التعبيري المتدفق وخصوصية ألفاظها الإيحائية التي تعرض أفكاراً ذات أبعاد نفسية وتنقل قيماً إنسانية..كون اللغة روح المعنى باعتبار علماء السيميولوجيا..فضلاً عن أن النص مكتظ بالملامح الأسلوبية والفنية كالاستباق والاسترجاع والتذكر من أجل دعمه فنياً عبر بنية مكانية مؤطرة للسرد وموسومة بالتنوع ضمن رؤية فكرية تتناول تيمات منتزعة من الواقع الاجتماعي وصراعاته التي انعكست على الشخوص القلقة بحكم صراعاتها النفسية واحساسها بالاغتراب..إضافة الى انفتاح السرد على الكائن الأنثوي بصفته عنصر تشويق من خلال فعل الرغبة مع رصد الجماليات على مستوى اللغة والأسلوب والمعمار البنائي وتعدد الأصوات المنبثقة نتيجة تعدد الضمائر..مع تضافر الدلالات لتشكل جزءاً من التكوين الإنساني الذي هو جزء من التجربة الذاتية..

(حاول يوسف وبهدوء أن يتجاهل سيل الكلام الذي خصت به معارفها الذين تنكروا لها..لئلا يقع في ورطة من يعرف ومن لا يعرف..

ـ يسعدني أن تضمينني الى مجموعة الأصدقاء من أيام الجامعة.

حركت رأسها وهي تبتسم وعيناها تتأملانه عن كثب لعلها كانت تزنه من خلال وقفتهما معا الآن..

ـ كنت طالباً منعزلاً ولم تكن تريد التقرب من..............

قاطعها:

ـ أنت أيضاً كان لك جماعة تنسجمين معهم..

ضحكت وقد اسعدتها صراحته وعدم تردده في مخاطبتها عن تلك الأيام الجميلة الهاربة من قبضتها ومن بين يديه هو أيضاً إذ لم يعد لهما من تلك الأيام سوى التذكر

وزع نظراته المتمعنة بينها وبين ابنتها ووجدهما ليستا متباعدتين في العمر..وإن الأم ما تزال تحتفظ بالمزيد من حيوية الشباب الهارب..وإن كانت ضحكتها الطرية ونظراتها التي لا تخلو من ذكاء تكفيان للاعتقاد انهما شقيقتان ومن أرومة واحدة..

تلك كانت البداية للارتباط الحر الذي اسماه بكل قناعة وإصرار(علاقتنا حرة منفتحة)وقد وافقت على طلبه ذاك..قال لها:لا أحد يعلم الغيب ابدا..لا انا ولا انت..ونحن لسنا صغاراً..أعني نستطيع أن نقرر نوع علاقتنا عندما نعتاد على بعضنا..حين نعرف كم نحن بحاجة شديدة لبعضينا..) ص39 ـ ص40..

فالسارد يبني نصه الذي هو حدث تتوافر فيه معايير فنية على المستوى الموضوعي والذاتي على امتداد الهاجس النفسي المشكل للمشهد من خلال تداعي الزمن في الذاكرة..مع توظيف الحوار الذي هو(نمط من التواصل القائم على اساس التبادل والتعاقب على الارسال والاستلام)..بشقيه الذاتي والموضوعي الواقعي بصور تعبر عن مظاهر الصراع الفكري والانسجام العاطفي..إضافة الى مزاوجة المنتج بين الفضاء المغلق والمفتوح بقصدية التضاد مع توظيفه تقانة التنقيط المساحة التشكيلية التي تستدعي المستهلك(المتلقي) لملئ فراغاته..

من كل هذا نستنتج أن الرواية كشفت عن محنة الإنسان ومعاناته وسط عالم الجريمة الذئبية التي يقودها خفافيش الظلام بدعم من الاحتلال الذي سعى ويسعى لتحطم القيم الإنسانية والبنى التحتية..لكن(يوسف النجار)الرمز والراوي الضمني المنتفض.. يقود الموجهة بعد أن(تيقن من وضع سلاحه تحت طيات ثيابه.. قام بفحص السلاح الناري قبل الهبوط نحو الاسفل..تأكد من وجود الاطلاقات داخل السبطانة..أعاد مسدسه الى وضعه ورتب هندامه..أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين استجابة لتحديهما العنيد..) ص327..

ـ (ذئاب على الأبواب) نص سردي مفتوح النهاية..يتنفس نبض الحياة والأشياء..سابح بين عمق الرؤية وجمال التشكيل..مع تنوع البناء السردي وتجلي بواطن الذات وصراعاتها..مع اشتغال عل تيمات حكائية منتزعة من واقع اجتماعي مأزوم..إضافة الى تأكيد السارد على البنية المكانية المؤطرة للسرد الموسوم بالتنوع ضمن رؤية فكرية تحققها شخوصه المنحدرة من شرائح إجتماعية متفاوتة يجمعها الضياع الوجودي..مع مواكبة الواقع الإنساني الذي يصوره بلغة تجرده من واقعيته صوب غرائبية إدهاشية تقوم على مجموعة من الافعال المتداخلة زمنيا بتصوير مشاهد حركية من خلال متابعة مجريات الأحداث ونفسيات الشخوص والخوض في غمار الأمكنة بلسان الراوي العليم..واعتماد ضمير الغائب الذي أتاح الاقتراب والحضور الفاعل في تقديم الحدث وتسليط الضوء على القضايا الإنسانية عبر مشهدية سيمية تعتمد سردية بعيدة عن الضبابية..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top