هادي عزيز علي
كان الوقف معروفاً قبل الديانات الإبراهيمية فقد عرفته الحضارات البابلية والمصرية والرومانية والعرب متمثلاً في مكة ( البيت العتيق ) .
لذا لم ينفرد الفكر الإسلامي بوضعه وتأسيسه كما يقول البعض . وحيث إنه فكراً ( منتجاً بشرياً ) فهو ليس من الأحكام القطعية لكونه يندرج تحت الأحكام الظنّية لجواز الاجتهاد به ، وهذا الجواز الاجتهادي دفع من يقول إن الوقف غير جائز شرعاً كأبي حنيفة وشريح ومكروها عند عبد الرحمن بن عوف لأنه يعطل الفرائض ، كتعطيله أحكام المواريث في سورة النساء لأن الوقف يخرج الأعيان من ملك الواقف ويحول دون انصرافها للتركة مستدين الى الحديث النبوي : ( لاحبس على الفرائض ) .
ولكن الغالب من الفقهاء يقولون بجوازه ، رغم الاختلاف في العديد من فروعه كأيلولة ملك العين بعد الوقف على سبيل المثال . وهم يقتربون من هذا التعريف : ( حبس العين وتسبيل المنفعة ) أي توظيف الأعيان في سبيل الخير والبر، ويتجلى هذا التوظيف بانشطة ووظائف مختلفة . فقد تكون الوظيفة تعليمية كفتح المدارس والجامعات ، وتكون صحية كإنشاء المستشفيات ، أو اجتماعية كمساعدة الفقراء والمعوزين ، أو عائلية كالوقف على الذرّية ( الوقف الذرّي ) أو ثقافية كانشاء مسرح ، او تخصيص مكتبة ، أو دينية كتشييد مسجد ، أو تدريس أحكام الدين والشرائع .
الوقف وفق ما تقدم تصرف فردي مدفوع بوازع الخير ، لذا فهو ليس تكليفاً شرعياً بدليل إن تاركه لا يأثم ، ثم هو نشاط مدني وليس طقساً دينياً وأن اجراءات تأسيسه تتم على وفق القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية وليس على أساس فتاوى المؤسسة الدينية ، فمحكمة الأحوال الشخصية هي التي تصدر الحجة الوقفية والقانون المدني هو الذي يحكم خروج العين الموقوفة من ذمة الواقف وقانون التسجيل العقاري هو القانون المسجل للحجة الوقفية ، والوقف قانونا هو أحد تشكيلات السلطة التنفيذية المرتبط بنظامها المدني ، ولا وجود له في تشكيلات المؤسسة الدينية .
الوضع الحالي الملتبس المصحوب بالفوضى يبعد هذا النشاط عن أهدافه خاصة عندما تتنازعه المصالح والمكاسب والمغانم وان الضجة الحالية للوقفين السنّي والشيعي لا تبتعد عن هذا التوصيف لذا فان الامر يحتاج الى اصلاح جذري يبدأ بتخليصه من النزعة الطائفية والفساد المصاحب لها وهدر امواله . ويتم الإصلاح باعتباره جزءاً من البناء المؤسسي للدولة وإحدى مؤسساتها التي يمكن أن يساهم في التنمية والتطور، وإعانة الدولة في محنتها المالية الحالية ، وذلك بتوحيد الأوقاف جميعاً مسلمة كانت أم غير مسلمة بمؤسسة واحدة تدار باعتبارها مؤسسة تعود للوطن . وإعادة النظر في الميزانية الفلكية المرصودة له خاصة وإن الكثير من الأوقاف ممكن إدارتها ذاتياً ومن أموال الوقف نفسه بما في ذلك رواتب المتولين وبقية الموظفين ، لأن قيام الدولة بمصاريف الوقف لا ينسجم والأهداف المرجوة منه ، فضلاً عن تخفيف نزعة السلطة الدينية وترك الإدارة وفق ما مرسوم لها قانونا ، لأن الوقف ليس مكاناً للتعبد وهو ليس مجرد مسجد أو حسينية بل هو نشاط مدني كبير مدفوع بفعل الخير ويعود بالنفع للجهة الموقوف من أجلها وللمواطنين أيضاً ، ويكفي أن نذكر هنا على سبيل المثال : إن الصندوق الوقفي لجامعة هارفرد يغطي مصاريف اثنتي عشرة كلية بطلابها وكادرها التدريسي ومواد الدراسة وكلفة الأبنية وسائر المصاريف الأخرى ، فإين أوقافنا الطائفية من هذا الجهد النبيل لجامعة هارفرد . عليه إن بقاء الامور على وضعها الحالي يعد إساءة للدين وتفريطاً في حقوق الواقفين وعبثاً في المال الموقوف .
اترك تعليقك