رسالة إسحاق حنّا..قراءة فـي رواية عبد الرضا صالح محمد سبايا دولة الخرافة

رسالة إسحاق حنّا..قراءة فـي رواية عبد الرضا صالح محمد سبايا دولة الخرافة

حنون مجيد

تنفتح رواية "سبايا دولة الخرافة" للروائي عبد الرضا صالح محمد، على مسعى غايته إدانة الإرهاب؛ وجهاً كالحاً من وجوه فرض التعاليم الدينية بالإكراه،

منذ أن غيّرت البنية النصية لعنوان" الدولة الإسلامية في العراق والشام"، إلى "دولة الخرافة"، ومن "رعايا" الدولة الإسلامية، إلى "سبايا" دولة الخرافة التي نفت في تطبيقاتها الميدانية، أي علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم.

وتسفر قراءتها عن اتجاهين متعاكسين، يشكلان جسد سيرورتها التي التحمت فيها الأحداث الكثيرة، بدءاً من مدينة الموصل عندما تعرضت لاجتياح الجماعات المسلحة التي ترتدي زوراً رداء الإسلام، وتمارس باسمه أشنع الأعمال، حتى يقيّض لعائلة الرواية أن تنجو بأغلبها أثناء هربها من بطش هذه العصابات، لتعود إلى مستقرها؛ مدينة العمارة مركز محافظة ميسان، بينما تتحرك في سيرورتها المعاكسة نحو مدينة الموصل بدءاً من مدينة العمارة في محاولة من بطل الرواية إسحاق حنّا تحرير عمته السبيّة ميريام.

سكنت هذه العائلة الموصلية مدينة العمارة بعد نزوح عميدها دانيال إليها، طلباً للرزق في محيط جديد، بعد أن تعرض لخسارة في مدينه الموصل، وشحّة المورد في أختها بغداد. 

هناك في محلة التوراة يكوّن الرجل عائلته في مجال اجتماعي ودود، تجتمع فيه شمائل الأصالة والكرم والمسالمة، فإسحاق الرضيع الذي نجا بإعجوبة من حادثة سير على طريق عام ، راح ضحيتَها أبواه، ينشأ بين صديقين مسلمين ؛ خالد وحيدر في صداقة طيبة ممتدة، سيكون لها أثر مشهود على تحرير عمته آنفة الذكر ميريام.

لقد حفلت طبيعة هذه الرواية بالطابع الاجتماعي العريض، مع الفانتازيا وبعض الملامح السينمية، التي من دونها لا يمكن لبطلها تحقيق مهمته الجديدة التي عزم على تنفيذها، إلاّ بممهدات استباقية كان عونه عليها منذ بدايتها صديقا طفولته؛ خالد الذي أصبح ضابطاً في الجيش العرقي الجديد، وحيدر المدرس . 

إن محاولة استيعاب مختلف تداعيات هذه الرواية، وما تفرزه من طروحات فنية، تتطلب النظر إليها من مستويين؛ القراءة من على السطح، والقراءة من عمق، وذلك لسمة طابعها الحركي الذي امتازت به، سواء على صعيد الحدث، أم على صعيد الزمن كذلك. 

ويمكن القول؛ إن هذه الرواية انتمت في بعض مفاصلها إلى الرواية "الميدانية"، بناء على مشاركة الروائي نفسه تصفح الوقائع التي حصلت في المدينة وللمدينة، وأهلها وطرقها وبعض قراها، حينما أتيحت له فرصة الذهاب حيث جرت بعض الأحداث. 

وهنا يتجسد الجهد البنائي الذي بذله الروائي في سعيه لإنجاز روايته، وما تخلل ذلك من تفاصيل، كانت تستدعي أشدّ أنواع التعاطف مع أبطاله والجماعات الأخرى، التي وجدت نفسها وفي مفاجأة سوداء تحت رحمة عتاة، وأن ما بدأ يخيّم على نفوسهم وأجواء المدينة ظلام غير مشهود، في أي زمن من أزمان التوحش والانتهاك.

لقد توفرت هذه الرواية على طرائق عديدة لتلوين أجوائها وبث دلالاتها، فاشتغلت على مساحات متعاقبة من الجغرافيا والتاريخ، لقطع رتابة السرد التراتبي وخلق أجواء جديدة، تحلّ محل القديمة التي قد يكون ملّها المتلقي. كما أنها أزاحت صوت الراوي بما أضحى يسود عوالمها من حوارات تأتي على ألسنة متحاورين، يتكلم كل منهم بلسانه الخاص وهويته الخاصة، وقد جاءت على هيئة فصول بأسماء مختلفة، ومقاطع مفصولة بعلامات رسمية، أتاحت للروائي حرية الحركة للانتقال بالمتلقي إلى أماكن وأزمان مختلفة ومتعاكسة؛ كسراً لسكون التلقي، وتنويعاً على إيقاعه كذلك.

في مثل هذا العرض الواسع الذي انبرت الرواية من خلاله، إلى بث رسالتها الإنسانية بأحداثها الجسام التي لحقت بالناس، تمّ الكشف عن التفاعل الإنساني مع أولئك الذي كانوا يقاومون السلوك الشائن للمحتل، ولاسيما المواقف الشجاعة التي كانت تواجَهُ بها صنوف المساومة التي كانت تُمْلى على معتنقي الأديان الأخرى، لأجل سحبهم إلى ديانة مغايرة ضمانَ سلامة رؤوسهم من القطع، أو السلب والسبي معاً .

لقد واكب الروائي سيرورة روايته باطلاع مشهود، على المدن والقصبات والقرى التي مرّت عليها العائلة المنكوبة أو لجأت إليها، حتى تحقق لها في الأخير وبعد عناء عظيم الوصول إلى مدينة كركوك، ومن ثمّ إلى مطار أربيل فإلى البصرة، ثم إلى مدينة العمارة مباشرة حيث السكن وما يتعلق بالموجودات الشخصية هناك، وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما يصدر من تهويمات، عن فصل العلاقة بين المبدع ومقترباته المرجعية، وما يظل متعالقاً بين المبدع ومنتجه لا يمكن أن تكون وثيقة صالحة جداً أو تماماً، لتقويم النص في أغلب الأحوال.

عند أولى لحظات الاستقرار التي سادها حزن فجائعي، تدارست العائلة أقرب الخسارات؛ فكانت مقتل الجد دانيال، سبْي العمة الجميلة ميريام، والاستيلاء على السيارة الخاصة وبعض المال، لتنفتح صفحة روائية جديدة، يعتزم فيها إسحاق الذي أنقذ أهله أو أكثر أهله من فتك داعش، تحرير عمته ميريام والعودة بها إلى برّ الأمان، حتى لو كلفه ذلك حياته في مواقف كريمة وشجاعة، يمارس الفعل فيها درجة عالية من درجات الخيال!

لقد قدّر على المفصل هذا أن يتضمن كثيراً من الإجراءات والعقبات، التي ينبغي أن تتيسر لإسحاق ليفي بوعده الذي اعترض عليه جمعٌ الأهل والأصحاب، وأن يذهب به إلى مداه الأقصى؛ نجاحاً أو فشلاً ولتكن العاقبة ما تكون. 

ومما يمكن الإشارة إليه هنا أن بعض الأعمال ترتقي إلى درجة المهمات، التي بتحقيقها يتم نجاح كبير، وإلّا فإنها بفشلها ترتد على صاحبها بأوخم النتائج والمحصّلات، وكم حفل التاريخ بمثل هذه المهمات التي لم يحالفها النجاح وذهبت بعواقبها أدراج الرياح. 

ولعل التجارب التأريخية، تؤشر على أن كل من كان يتصدى لمثل هذه المهمات، كان على عزم شديد، وطاقة جسدية تحتمل شتى الصعوبات. ولو راجعنا الملفات الشخصية لأصحاب المبادئ والرسالات على مرّ التأريخ، لما وجدنا فيهم رجلاً عليلاً أو سقيماً، يعطل داؤه تنفيذَ رسالته أو يحبط عمله عليها بإرادة تتضافر فيها قوتا الجسد المرّ والعزم العنيد. 

في هذه الرواية "سبايا دولة الخرافة"، تحققت الصفات البدنية والنفسية لبطلها إسحاق حنا، ليحرر عمته ميريام بل وثلاث نساء معها كذلك، ضمن مواصفات "رسالة" شخصية لرجل انحصرت جل مواصفاته الممتازة لتحقيق هذا الفعل المحصور في إطار عائلي لم يتعدّ إلى ما هو أكبر منه.

لذلك اختار الروائي بطله هذا لتنفيذ ذلك، فهو شاب قوي، وذو حساسية عالية إزاء ما تتعرض له المرأة، وما يلحق بأهلها وذويها من ألم وقلق وعار، حينما تكون سبيّة محلّلة على قاهر مغتصب بقوانين شريعة غاب.

لقد بدأت مهمة إسحاق أولاً بالحصول على الجنسية السويدية ، يساعده على الحصول عليها صديقه خالد، ليمكن له أن يقضي أياماً مع قريب له هناك، ريثما ينجز معاملة السفر إلى تركيا، ومن ثمة إلى الموصل، لتقديم طلب الانضمام تطوعاً في صفوف تنظيمات داعش هناك. 

كان ذلك يتم عبر سلسلة من الممرات الضيقة والمخيفة، وبوسائط شتى تسنّت مع قدرات متباينة خاصة وعامة، وجميعها كانت محكومة بقدر كبير من الفشل والإحباط، لكي يتم تحرير المرأة والعودة بها كسيرة الجسد والروح، حاملاً في أشهرها الأولى من سفاح، كان عليها لكي تبرأ منه أن تتخلص من جنينه بالإسقاط. 

إن هذه الرواية المثيرة التي تداخل فيها فعلا الواقع المتاح، والخيال شبه الأسطوري، انفتحت باستمرار على مكنونات الواقع الملتبس والعنيف والمر، حينما يتصدى له الفن بممكناته التي لا تحد، وهو ما حصل هنا، كلّه أو جلّه دونما شك. 

الرواية من إصدار دار أمل الجديدة- دمشق ط2017 

عدد الصفحات 230 صفحة من الحجم المتوسط

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top