قناطر: في بلاد أهل الذِّمة

طالب عبد العزيز 2020/12/12 07:41:55 م

قناطر: في بلاد أهل الذِّمة

 طالب عبد العزيز

يقلّم بستانيو المدن التوت باكراً، هم في كانونهم الأول، والبرد لما يزل في غيابة الاودية والسهول البعيدات، لكنَّ أوراق القيقب افترشت الحديقة العامة في العاصمة الامبراطورية، وصارت مقرنصات الرصيف صفراء،

هي صفراء محمرّة منذ أسبوعين، كانت الريح قد نحتت الأغصان، فهي عارية تلوذ ببعضها، ومن الجسور بدهانها الاخضر يطل السائقون على اسيجة المنازل، يحدثون بعضهم عن النساء، اللواتي تركن ملابسهن الداخلية على الأسيجة. كلُّ وجهة نظر عن الشرف عربية، وكل التفاتة في عنق امرأة ذميّةٍ تحدثك عن الأجداد، الفرسان الذين مروا من هنا. الخفر والحياء امتياز الطالبات القرويات، اللواتي التحقن بالجامعة هذا العام. نحن نغادر المدينة منذ أمس، والطريق الى البحر لن تمرُّ بالجبال، وحده الحُورُ يُبهج باغصانه الجُرد، ويقرّب المسافات.

لستُ من الوقار بشيء، لكي اسمّي الطريق مُقدّساً الى المدينة هذه، وما كان للحافلة ان تسلك الطريق الى القبة المذهّبة تلك، التي يرفُّ علمها الأزرق في السماء الضبابية، هي في مناى بين الجبل والبر الطويل ... وسوى الفخار الخزف، الذي في واجهة المطعم، لم أتبين من الماذنة الا هلالها النحيل، كنت ضجراً بما يكفي لأقول شيئاً عن السعادة هنا، كذلك كان المسافرون، الذين دخلوا المطعم، وتقاذفتهم المقاعد ودورات المياه. ليس في المدينة ما ينفع العين سوى الأشجار التي عرّاها الخريف المبكر، أما القبّة التي أفردتها الريحُ بين البرية والجبل، ويمسكها الطريق، من جهة البحر، فلم تكن مقصداً لأحد.

تقول نشرةُ الضوء التي في الحافلة إنَّ درجة الحرارة في الخارج ادني من الصفر بقليل، فيما تكون قد تجاوزت العشرين بين المقاعد، سَوّى معاونُ السائق للطفل من قفطانه منامةً، فتدثر بترنيمة أمّه ومِلاءةِ الضوء الشحيح. كانت قضبان المقاعد باردة، فهدهدت الطفل ونام. في المدينة التي يكون ضريح الشاعرُ فيها أهم معالمها، في معظم المدن التي زرتها، ما كنت احسبُ انَّ يكون للأترجِّ متحفٌ، لولا أنني سمعت إحداهن تقول لخليلها: نلتقي في ( متحف الأُترجّ). ومن سياجه الهابط عند الضريح المرتفع أعمدةً من الرخام المعصفر، رأيت الصِّبية يتقاذفونه، كان المساءُ أصفرَ برتقالياً، لكنَّ القبل كانت لاذعةً وبطعم النبيذ أحياناً.

إتصل بي أحدُ الاصدقاء، الذين تعرفتُ عليهم قبل نحو من عشر سنين، كانَ ذميّاً بما يكفي، إذ، لم يسلم آباؤه طوال غزوات العرب الفرسان لمدينتهم، فقد احتموا بالجبل فكان عاصماً لهم، وبلغة عربية لا تخلو من لكنة الاعاجم عادة، اعلمني بانه سياتي بعد ساعة، وان السوق الكبير مغلق اليوم، لذا يتخذ سائقو التاكسي أعذارهم بإجور أعلى، قلت ليكن، لكنك أين الآن؟ فقال بانه قرب غابة الحور، وأنَّ الغربان ما زالت تنقر ما علق بالأغصان من مطر البارحة، وأنت بيتهم خلف السور الضخم، الذي ينصّف المدينة، قلت: ولم هو عالٍ هكذا؟ فقال إن الريح تأتي من الجبل فتتسلقه، وإنَّ اشجار الأترجِّ التي في حديقته لا تكفي لايواء الثلج الذي سيسقط الليلة. ودعته وكان الشيوخ في المقهى المجاور يثقلون أكتافهم بالصوف، يحتمون بموقد الخشب الكبير من الريح، التي بدأت تهبُّ، فيما رائحة الماعز تملأ الباحة .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top