فـي ذكراه السادسة والستين .. شعر السياب فـي دوائر النقد الأدبي

فـي ذكراه السادسة والستين .. شعر السياب فـي دوائر النقد الأدبي

د. نادية هناوي

كثرت النقود الأدبية التي سعت إلى قراءة شعر السياب وفك شفرات هذا الإبداع الذي صار فيه الشاعر عالماً شعرياً لوحده،

متعدد المستويات ومتنوع المحاور والدلالات حتى جربت في دراسة قصائده مختلف المنهجيات والمذاهب والاتجاهات ابتداء من النقود التاريخية والتذوقية وانتهاء بالنقود البنيوية والتفكيكية وما بعدهما بغض النظر عما يولده هذا التجريب من حالات شتى من التناقض في الاراء والتعارض في المنطلقات والمفارقة في الاستدلالات والتعدد في المنظورات والتنوع في التحصيلات .

وهذا ما يجعل المنجز النقدي الدائر حول شعر السياب حالة نموذجية لدراسة النقد العربي المعاصر. واقل ما يؤكده هذا المنجز هو فاعلية هذا الدرس في التوظيف والتوصيل او إعادة الصياغة للأبنية والاستخدام للمصطلحات بمبادئها وفرضياتها التفسيرية والإجرائية .

وقد تكشف دراسات متأنية كثيراً من التصارع في التفسيرات او تعددا في التاويلات أو الالتباس في الطروحات كما قد تحدد آليات التحكم في عمليات التفسير والتاويل والاستقراء والقراءة وبما يساهم في تنظيم فاعلية تحليل النص الشعري ونقده والكشف عن المعوقات أو الإمكانيات او الانظمة والتوجيهات التي يتمشكل الاشتغال فيها داخل نقدنا العربي المعاصر أو تختلط مدارات التشخيص والرصد التي يتحرك الناقد العربي في خضمها محددة أفعاله وموجهة تفسيراته ومتحكمة بشكل واع أو غير واع في تاويل النص المقروء شكلاً ومضموناً ودالاً ومدلولاً.

وقد اوضحت مدارس ونظريات التلقي والاستقبال ونقد استجابة القارئ أن قيمة النص الأدبي تترهن بالقراءة، ولا يمكن تصور انفصال النص الأدبي عن القارئ بأي حال من الأحوال فمثلاً هناك النص الشيء الذي يمثل العمل الأدبي في مظهره العادي والممكن وهناك أيضاً الموضوع الجمالي الناتج عن تحقق العمل الادبي بواسطة القارئ . 

وأن عملية تفحص يسيرة للمنجز النقدي الدائر حول شعر السياب سيظهر تنوعا رهيباً في توجهات النقاد نحو تحليله، وأغلب هذه التوجهات تتحرك في ثلاثة فضاءات متداخلة الاولى تبدأ من داخل النص لتنتهي خارجه، والثانية تبدا من الداخل لتنتهي فيه بشكل دائري منغلق، والثالثة تبدأ من خارج النص لتنفتح على شبكة لا نهائية من الدوال والمنطوقات . 

وبناء على فضاء الدائرة الأولى تكون العلاقة محددة ما بين الشعر والمجتمع والشعر والحياة ومن ثم تصبح إمكانية أن تكون القراءة اسقاطية فيها يكشف الناقد عما تختزنه ذاكرته من قيم وأفكار وانفعالات حتى يغدو نصه النقدي وثيقة فكرية أو شهادة على الواقع وغالباً ما توظف المناهج الخارجية ذات السياقات التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية في فضاء هذه الدائرة. ومن أمثلة هذا التوجه ما نجده في تحليل إحسان عباس لقصائد المومس العمياء أنشودة المطر وغريب على الخليج أو قراءة مدني صالح للشاعر وسيرته مهتماً فيها بالبدايات منتهياً عند العذابات والأوجاع مع توثيق إحصائي لقصائد السياب التي نظمها في لندن ودرم وباريس أو قراءة د. علي حداد للسياقات السياسية والاجتماعية في قصائد قافلة الضياع ويوم الطغاة الأخير متوصلاً الى أن السياب كان متماساً مع العروبة وأكثر تجاوباً مع قضاياها. ودرس عز الدين منصور الرواسب والمثيرات التي أسهمت في تطور شعر السياب بينما اهتم ريكان إبراهيم بدراسة البعد النفساني للرؤى والأفكار الخارجية في نصوص السياب الشعرية والعلائق الكامنة بين الشعر والقلق والشاعر والمرحلة ولا ينكر هذا الناقد أن مساره موجّه توجيها نفسياً خالصاً قائلاً :" إن الموضوع النقدي طاقة مستفيدة من مصادر عدة أولها النص نفسه ثم مرحلة الصلة بين الكاتب والناقد ثم آلية الاستبطان التي يمر بها الناقد في مناقشة النص من فهم ذهنية الكاتب وقدراته ثم أثره في صيرورة المجتمع "

واتخذ طراد الكبيسي من فكرة اليوتوبيا أداة لتفسير جيكور كرمز لليوتوبيا المضادة للمدينة التي تصورها السياب في أنشودة المطر محاولاً اصطناع العودة باللجوء الى الرمز متوسلا بالخرافات والاساطير كوسائل للتعبير غير المباشر عن جدوى العودة أي أن الشاعر حاول أن يقيم ضرباً من اليوتوبيا على غرار ما فعل إليوت في مواجهة المدينة وحضارتها الحديثة وذلك بالعودة الى القرية رمز البراءة والنقاء والعلائق الإنسانية التعاطفية، لكنه انتهى إلى أن السياب أخفق في بناء رؤية فكرية واضحة لفنه بالمقابل فتح لإدخال الفكر في الشعر آفاقا جديدة. وكان ذلك في معرض رده على دراسة الدكتور أحمد كمال زكي المعنونة( السياب مفكراً ) قال فيها :" إن السياب فشل في بناء يوتوبيا خاصة به" وخلص الكبيسي الى محصلة سياقية مفادها أن " السياب خير من مثل العودة الى ريف جيكور حيث البراءة الأولى في الشعر العراقي الحديث وفي رأينا إن هذه العودة لا تمثل مواقف فكرية بقدر ما تمثل حالات وجدانية فيها من ذكريات الصبا الشيء الكثير وفيها أزمات نفسية كثيرة "

وكثيراً ما اتخذ النقاد من السياب نفسه منطلقا لبناء اسقاطاتهم على النصوص الشعرية فتتبعوا مثلاً مراحل جهده وسيرته بسبب ما تمنحه مثل هذه النقود من مجالات كتابية تتعلق بتطور السياب من شاعر وصّاف للطبيعة الى شاعر يحس بارتجاع رومانسي وحنين عارم الى جيكور محاولاً المواجهة بين الفنان والعالم متوهما أنه حل جزءاً من المشكلة التي يعاني منها الفنان المعاصر وظل يدور في حلقة رومانسية معبراً عن حالة مرضية وذهنية وجسدية. وقد يؤدي هذا الإفراط في الاهتمام بالشاعر الى طغيان فكرة الاستشهاد بمقولات الشاعر وتقديم المضامين على الاشكال وكيف أن السياب كان يحس أن انفعاله لا يستطيع أن يعيش في نطاق ضيق قصير ولهذا كان يعمد الى أن يقول كل شيء لكنه قلما حاول النجاة من هذا الخطا لأنه لم يكن يملك إشباع ذلك الانفعال أو تسريبه في لمحات خاطفة أو في ومضات سريعة تومئ الى المحتوى بخفة نبرة لبقة. ويقول ناقد آخر إن الشاعر كان مفكراً يكثر من قراءة الشعر وإن محصوله الثقافي ضعيف وقدرة الإبداع في حياته قصيرة وشعره خلا من مواقف تأملية .. اعتقد أن الشاعر السياب قد أسرف كثيراً في تصوير الشهوات حتى يخيل الى القارئ أنه كان يريد أن يجعل قصيدته متنفساً للتعبيرات الشهوانية.

إن اقتناص مثل هذه المساوئ أمر طبيعي لمن جعل من سيرة الشاعر ومحطات حياته موجهاً لقراءاته. أما التموضع في الدائرة الثانية للنقد ففيها يكون النص الشعري فارضاً وجوده على الناقد وقد تساوى فعل النقد وفعل الكتابة وتلاقيا بنيوياً وتكون الرسالة / النص هي الموجهة للناقد فتكون القراءة مثل الكتابة نتاجاً واحداً بمعنى إنها ترتب الأنساق وتنظم الأشكال المتعلقة بالكتابة متموضعة عند حدود التعاطي الجمالي للشعر بصوره وألوانه الأسلوبية. وقد سعى بعض نقاد السياب الى استلهام هذا التوجه مشتغلين داخل الدائرة النصية لشعر السياب محللين صوره الموضوعية والمنهجية ومستقصين الطبقات الداخلية والأبنية الكامنة في تلك النصوص كتحليل أسلوب بناء القصيدة في مفتتحها ومقاطعها ورسم ملامح البطل فيها ومن ذلك قراءة الدكتور محسن اطيمش لقصيدة غريب على الخليج مبيناً أن القصيدة قصصية أفادت من فن القصة في رسم شخصية البطل وتصوره متخذة مدخلاً تصويرياً للقلوع التي تطوى أو تنشر منتهياً الى أن السياب هو رائد المحاولات الأولى لكتابة القصيدة القصصية. ومن الأمثلة أيضاً تحليل تقنية القناع وتوظيفها في القصيدة السيابية فقصيدة المسيح بعد الصلب قصيدة قناع يتوحد فيها السياب مع تصوير حالة متخيلة للسيد المسيح تبتدئ بعد صلبه. وأن السياب في قصيدة تموز جيكور قد دخل مرحلة تالية في استخدام القناع يتوحد فيها الشاعر مع رمزه. 

ومن الأمثلة أيضا رصد جماليات الاستهلال في شعر السياب أو قراءة المعطيات الأسطورية ومعطيات الثقافة الدينية والفكر البروميثي أو تحليل البنية اللغوية الاستفهامية في شعر السياب من خلال تشخيص الأنماط التركيبية والزمن الاستفهامي وأنماط المعنى الاستفهامي أو تحليل التركيب اللغوي للشعر العراقي المعاصر من خلال دراسة الجملة الشرطية وأدوات الشرط والأنماط الشرطية والدلالة والزمن الشرطيين. أو تتبع رموز البعث في ( أنشودة المطر ورسالة من مقبرة، وأن الاولى كانت تعبر عن نوع من الإحساس الصوفي والوثني في آن معاً بروح المطر وعلاقته بتحقيق الإنسان لذاته والتنعم بخيرات الطبيعة ومعاناة العقم والفقر بين يدي الوجود وتمثل القصيدة الثانية ذروة إبداعه في رموز البعث والحنين ولقد تضافرت وتآلفت فيها معاناة الخصب والانتصار من قلب الحياة. أو تحليل يقارن بين قصيدتي المومس العمياء وبنت المبغى لراضي مهدي السعيد أو يقارن بين توظيف التراث عند كل من السياب وعبد الوهاب البياتي أو مقارنة السياب بعلي محمود طه في استغلال الوسائل الدرامية في الشعر أو مقارنة السياب بإليوت ومدى تأثر الأول بالثاني من خلال قصائده المنشورة مثل حفار القبور والتي فيها كان السياب مهووساً بالتناص وهو بهذا كان يسير على منوال إليوت في الأرض اليباب . 

وفي نطاق الدائرة الثالثة للنقد نجد اهتمام النقاد ينصب حول استنطاق النقد لما فوق النص الشعري وليس لما حوله أو الانغلاق في باطنه وتغييب هوية صاحب النص ومن هنا يكون النقد الاستنطاقي سابرا لافاق جديدة في النص باحثا في مدياته. ويتحقق ذلك من خلال وجود سلسلة من الاشارات والتوجهات التي تساعد القارئ على استنطاق النص وتأسيس وضعية تلفظية تداولية تتحقق عبرها وظائف تأويلية .

وليس من اليسير تحديد تقنيات القارئ الناقد في استنطاق النصوص وضبط الآليات قراءتها وتأويلها لاسيما أن تعددها وتشابكها قد أوجد نوعاً من الانفصال بين ما نظر لها وما طبق منها فبعض الباحثين ممن خاضوا هذه المسالة طرقوا فعل الاستنطاق في قراءة النصوص الأدبية حصراً من حيث البنيات النصية مثلاً أو تعدد الأصوات وأغفلوا النصوص النقدية باستثناء محاولات قليلة حاولت كشف أنماط الاستنطاق مما يدخل في باب نقد النقد .

ومن أسئلة استنطاق النقد لكشف علاقات التشابه أو المقابلة معها تارة أو علاقات التنافر أو التعاضد تارة أخرى قراءة د. عناد غزوان في كتابه حركات التجديد في الأدب العربي لقراءة د. جابر عصفور لقصيدة انشودة المطر أو نقد الدكتور علي جواد الطاهر لقراءة د. إحسان عباس لقصيدة في السوق القديم من ديوان أساطير 1950 أو نقد علي الزبيدي لدراسة سامي مهدي عن ثقافة السياب فقال :" آثار الشاعر العراقي المعروف سامي مهدي قبل أكثر من سنة ضجة وخلافاً حاداً بمقال نشرته مجلة آفاق عربية عن ثقافة بدر شاكر السياب ومجمل هذا المقال أن السياب لم يكن ممتلكاً ثقافة حديثة كاملة وإن قصائده حقائق معروفة وإنه تراثي أكثر مما يجب وكلاسيكي تظهر كلاسيكيته في ارتفاع مشاعره وفي تمسكه بالقافية وفي تركيب جملته الشعرية ..وتتبع جوانب التعاضد والتنافر بينه وبين صاحب المقال في كون ثقافة السياب الحديثة قاصرة أو لا. 

وحاورت قراءة د. محمد رضا مبارك قراءة محمد الهادي الطرابلسي عن الفضاء الصوتي عند السياب في قصيدة بعينها هي (الأسلحة والاطفال) مستنطقاً بنيات الخطاب الشعري وذلك بفك سننه الكتابية في كلمات ما أو ثنائيات أو جدليات أو قضايا. 

أو يتتبع الناقد النظم في ديوان( قيثارة الريح) لاسيما قصيدة هل كان حباً أو يتتبع الرمز الأسطوري من حيث ضوابط استخدام الرمز الأسطوري أو يتتبع التناص في قصيدة الأسلحة والأطفال أو يتتبع الناقد التجديد في التشكيل والإبداع بين الرسم والشعر أو يتتبع لغة الشعر في واحدة من أهم دواوين السياب الشعرية وهي رائعته ( أنشودة المطر ).

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top