في تنويع  صورة  العمارة الإسكانية

في تنويع صورة العمارة الإسكانية

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

"إذا كان الناس مختلفين، فلماذا يتعين أن تكون شقق سكناهم متماثلة على حد سواء؟!"، يتساءل المعمار الدانمركي الشاب ذو الشهرة العالمية "بياكه انغيلس" (1974) Bjarke Ingels،

أحد مصمميّ بلوك المبنيّين السكنييّن غير العادييّن (WV) بمدينة كوبنهاغن، عمارتهما اللتان ستكونان "ثيمة" هذه الحلقة من "عمارات". بالطبع يبقى هذا التساؤل يمتلك صدقيته (..ومشروعيته أيضاً)، كما نعتقد، في بلاد مترفة لا تعاني من أزمات عديدة، وخصوصاً أزمة سكن. لكنه ما فتئ يثير قدراً من الاستفهام والاستفسار عن جدوى طرحه، وعن موثوقيته

(..وصوابيته أيضاً) في بلدان تتطلع أن تجد حلولاً لمشاكلها الإسكانية العديدة والمزمنة من خلال مداخلات معمارية تتضمن في غالبيتها سعياً واضحاً وراء تكثيف إجراءات النمذجة وتوحيد المقاييس Standardization للعناصر الإنشائية لجهة التسريع في إنتاج الوحدات المقيسة الداخلة في عمليات تنفيذ تلك المباني. معلوم إن الجهد التنظيري المعماري، ما انفك، ينادي وحتى يوجب على مدى عقود عديدة بضرورة الالتفات نحو "التنميط" والمعيارية كحل واقعي لمشاكل الإسكان. بمعنى آخر يتعين إدراك إجراءات توحيد المقاسات وتنميطها بكونها عماد التعاطي مع المشكل الإسكاني؛ وليس، قطعاً، الى التغيير والمخالفة كما تدعونا مقولة المعمار الدانمركي العالمي. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذاً تحظى تلك الأعمال غير المألوفة وغير العادية، وحتى الشاذة باهتمام الوسط المهني، وأحياناً باهتمام من خارج ذلك الوسط؟

- لماذا؟ لأن مهام "كسر" المألوف وتخطيه وتجاوزه، مثلما هي محاولات تقصي الجديد من رحم القديم، كانت دوماً شغلاً إنسانياً وإبداعياً: ضرورياً وممتعاً في آن، لجهة كشف آفاق معرفية جديدة، قادرة للوصول نحو تخوم المجهول وبالتالي الدنو من إمكانات جديدة وغير مسبوقة في سبر أغوار المهنة وأساليب تقدمها والنهوض بها. من هنا يتعين إدراك قيمة هذا الجهد الإبداعي وتقدير أهميته الذي يقوم به المبدعون في إظهار ذلك الجديد والبوح به. 

عندما كلف أحد المطورييّن المعروفين في الدانمرك مجموعة من المعماريين الشباب (وقتها)، الذين لم يسبق لهم تنفيذ مشاريع معمارية كبرى، كان ذلك بمثابة محض "مغامرة" استثمارية حقيقية من المطوّر "بير هوبفنه" Per Høpfner (أو بالأحرى من قبل ابنه!). حدث ذلك في عام 2004، وكان "المزاج" المعماري في الدانمرك قد شرع يتغير بسرعة نحو تبنّي مقاربات <عمارة ما بعد الحداثة> وتوظيف قيمها في الممارسة المعمارية المحلية؛ هي التي ظلت، في الغالب الأعم، لعقود "قانعة" بما يعرف بالأسلوب "الوطني الرومانسي"، الذي يستمد مبادئه التصميمية من التقاليد البنائية المحلية الممزوجة مع بعض من قيم عمارة الحداثة. 

في خضم تلك الأثناء الحافلة بظهور تصاميم غير عادية في المشهد المعماري الدانمركي، لفت انتباه الوسط المهني المحلي تصاميم معماريين شباب أسسوا لأنفسهم مكتباً استشارياً باسم "بلوت" PLOT، سنة 2001 وكان من مؤسسيه الرئيسيّين الدانمركي "بياكه انغيلس" (الذي سيصبح، لاحقاً، واحداً من ألمع "نجوم" العمارة العالمية) والبلجيكي "جوليان دي سميث" (1975) Julien De Smedt، وقد عملا سوية سابقاً عند مكتبOMA في روتردام بهولندا الذي أسسه المعمار الهولندي العالمي "ريم كولهاس" (1944) Rem Koolhaas (والأخير، كما هو معروف أستاذ معماريتنا الفذة: "زهاء حديد" في مدرسة A.A. بلندن في نهاية السبعينيات، وقد عملت هي الآخرى بعد تخرجها في مكتبه الاستشاري). ومع أن مكتب المعماريين الشباب انحلّ لاحقاً بعد خمس سنوات من العمل المثمر والتجديدي في سنة 2006 ، وانفصل الى مكتبين هما BIG و JDS ؛ إلا أننا نتحدث في مقالنا هذاـ عن فترة التشارك المثمرة إياها، وعن عمارة المبنيّين السكنيين (WV) في كوبنهاغن.

يعود تاريخ البناء لهذا المجمع السكني المتكون من كتلتين تمثلان مبنيّين سكنييّن منفصلين ، لكنهما متجاوران ومتقابلان الواحد تجاه الآخر الى 2004 - 2005، وبمساحة إجمالية مبنية تقدر بـ 25 ألف متر مربع. يأخذ المجمع اسمه من الشكل العام الذي يفترض أن يُرى من الأعلى لكلا المبنيين. فكتلة المبنى الأول الشمالي تتعرج على شكل Zigzag وتعمل ما يشبه حرف (W)، في حين كتلة المبنى السكني الآخر الجنوبي تكون "منبعجة" من وسطها مشكلة حرف (V) اللاتيني. والفكرة التصميمية لـ "شكل" هذين المبنيين تبدو "غريبة" عن سياق كتل المباني السكنية العادية التي تنطوي في الغالب الأعم على كتل بنائية ذات أشكال هندسية منتظمة جهد الإمكان، لكنها في مجمع (WV) إضافة الى "تعرجها"، فانها تغدو متفاوتة في ارتفاعات أقسامها المختلفة، وتظهر وكأن بعض شققها "محذوفة" من طوابق بلوكها السكني . ويفسر مصممّوها هذا الأمر بإضفاء نوع من الخصوصية و"الذاتية" الى <اميج> الكتلة المبنية وتكريس فرادتها! جدير بالذكر أن حصيلة وعواقب نزوع التفرد والتميز اللذين يسعيان إليهما المعماريان، تطلّبا أن تكون تصاميم الشقق السكنية مختلفة سواء في المساحة الإجمالية أم متنوعة في عدد الطوابق التى تتوزع فيها أحياز تلك الشقق، ذلك لأن تصاميم شقق المبنيين امتلكت جميعها على فضاءات مزدوجة الارتفاع Double Volume وامتدت فراغاتها ضمن طابق واحد أو اثنين وحتى ثلاثة طوابق في الشقة الواحدة! وقد بلغ عدد الشقق في بلوك (V 114 )وحدة، وهناك حوالي 40 نوعاً مختلفاً من تلك الشقق في هذا البلوك وحده! 

يتذرع المعماريان في اختيارهما لهذه الصيغة من "اميج" العمارة الإسكانية، بحجة "الفردانية" Individuality، التي تقوم على تأكيد وترسيخ القيمة المعنوية للفرد، داعية في الوقت ذاته الى جعل رغبات الفرد وممارساته بمثابة قيمة مستقلة. وفي هذا الصدد يذكرنا المعمار "جوليان دي سميث" ..<..بأننا نعيش في عالم أصبح "للفردانية" فيه صدى واسع، أكبر من ذي قبل. فالتنوع، الآن، ليس فقط أمراً مقبولاً، وإنما مرغوباً به. يجب أن نوفر للأشخاص الذين يعيشون في مشروع سكني إمكانية الوصول الى الفردانية والتمتع بمزاياها!". بيد أن السعي وراء تكريس هذه الرغبة تصميمياً في مشروعهما الإسكاني، لا تعني، البتة، تخلي المعماريان عن محاولات التقصي والبحث عن حلول تصميمية واقعية وحتى محض عقلانية. إذ ما يميز أعمال هذيّن المعماريين القدرة والكفاءة في إيجاد "مجاورات" منسجمة بين ما هو خارق ومألوف، وبين ما هو غريب وعادي، في صياغة مفردات اللغة التصميمية. إذ يعزو المعماريان قرار "انبعاج" وسط كتلة مبنى (V) واتساعها وانفراجها، على سبيل المثال، لجهة حصول غالبية الشقق على أكبر قدر مشاهدة بانورامية للمنظر المحيط بالمبنى. كما أن قرار اصطفاء أشكال مثلثة لشرفات "بلكونات"Balcony الواجهة الجنوبية في المبنى نفسه، الممتدة بوسع وبعيداً عن جدار الواجهة، والتي أضفت منظراَ مدهشاً وغير مألوف في معالجة تلك الواجهة، يرجع في الأساس ليس لبواعث "بصرية" فحسب، وإنما السماح لمرور أشعة الشمس بوفرة الى كل شقة من شقق البلوك السكني، في الوقت عينه يمكن، أيضاً، به تأمين التهوية بسهولة، وإمكانية الاتصالات البصرية بين الشرفات الأخرى. وقد يجد المرء ثمة علاقة توحي، بشكل وبآخر، ما بين أسلوب معالجة تصميم مخططات طوابق المجمع السكني (WV)، وتلك المعالجات التى اجترحها يوماً ما "لو كوربوزيه" وطبقها في مشروعه الإسكاني الشهير "الوحدة السكنية" (1947 - 52) Unité d'habitation في مرسيليا بفرنسا. بيد أن تجربة المعمار الرائد السابقة، وإن ألهمت عمل المصمميّين الشابين، فقد تم تأويلها وحتى تحسينها في المشروع الكوبنهاغني من حيث "تقصير" الممر الداخلي الرابط بين شقق المجمع وإنارته من كلا الجانبين. 

وتبقى عمارة المجمع السكني (WV) المميزة، تمثل إحدى المحاولات الجادة من قبل المعماريين الشابين في إضفاء "صورة" جديدة في "معجم" تنويع تابولوجية العمارة الإسكانية التي ظلت في الغالب الأعم عمارة "محافظة" ومستقرة، في وقت شهدت تنويعات العمارات الأخرى طفرات تغييرية جذرية في تشكيل "اميجها" التصميمي وتعددت أساليب لغتها المعمارية. وهذا المجمع بعمارته اللافتة، يعكس أيضاً، تأثيرات الوفرة المالية وغنى بعض المجتمعات التي تسعى لتوظيف تراكم الثروة بالحصول على أكبر قدر من المتعة وتغيير النمط المعيشي لها فضلاً على استبدال قيم الذائقة الجمالية بقيم أخرى تكون متساوقة مع المستوى المعيشي الذي وصلت إليه والى ذلك الذي تتوق نحوه. كما تبين النزعة المغايرة التي اتسمت بها عمارة المجمع السكني إياه، الى التقدم الكبير الحاصل في إنتاح المواد الإنشائية وصفاتها الفيزياوية من حيث العزل الحراري والصوتي وتنوع تلك المواد وألوانها المختلفة. هذا بالإضافة الى التوظيف المتقن للنجاحات التي أحرزتها النظم البنائية وما تقدمه من امتيازات عديدة لم تكن متاحة سابقاً.

ومصمما المجمع السكني (WV)، كما أشرنا هما: الدانمركي "بياكه انغيلس"، الذي أنهى تعليمه المعماري من مدرسة العمارة في كوبنهاغن سنة 1999 (المدرسة التي عملت، شخصياً، فيها باحثاً لحوالي عقد من السنين)؛ وهو مؤسس مكتب "مجموعة بياكه انغيلس Bjarke Ingels Group (BIG). ويحظى مكتبه الآن بشهرة معمارية عالمية وله فروع بالعديد من مدن العالم. أما المعمار الآخر المشارك في التصميم، فهو البلجيكي: "جوليان دي سميث" (1975) Julien De Smedt، مولود في مدينة بروكسل، وأنهى تعليمه المعماري في عدة مدارس معمارية، وحصل على شهادته المعمارية، وبدرجة شرف، من مدرسة بارتليت للعمارة في لندن سنة 2000. مؤسس مكتب بلوت مع انغيلس في 2001، ثم مكتبه الخاص JDS (وهي تسمية ترمز الى الحروف الأولى لاسمه)

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top