اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل (11 من14)

نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل (11 من14)

نشر في: 11 يناير, 2021: 07:54 م

 د. حسين الهنداوي

أطوار الدولة

في مؤلفيه «فلسفة الحق» و«فلسفة التاريخ»، يحدّد هيغل بدقة أربع مراحل رئيسة، إجتازها الماضي الإنساني، تتميز كل واحدة منها بمبدأ كوني خاص بها، مكلّفة بتحقيقه في مجال التقدم في وعي الحرية، كما تعبّر عنه في كافة منتجاتها الروحية.

وهذه المراحل الرئيسة الأربع، هي على التوالي: العالم الشرقي والعالم الإغريقي والعالم الروماني والعالم الجرماني. وهذا يعني أنه يعتقد بوجود تاريخ نظري، مستمر التطور وكوني، للدولة، إلى جانب وجودها الواقعي في التاريخ الملموس، الذي يجسّد نفسه في هذه الأشكال المتباينة من الكيانات السياسية الخاصة، التي عرفتها الشعوب والجماعات، في الشرق والغرب. فكيف تبدو العلاقة بينه وبين ابن خلدون، فيما يتعلق بهذين التاريخين الفعلي والنظري للدولة؟

على صعيد التاريخ الفعلي، أولاً، هناك تماثل مدهش بين منظوريهما، لا سيما من جهة تسلسل الأطوار الطبيعية لحياة الدول. فكلاهما يرى أن الدولة أشبه بالكائن الحي، يولد، وينمو، ثم يهرم، ويموت، وأن التاريخ هو سلسلة متعاقبة من الدول، تمر كل واحدة منها في دورة تطور، تتضمن عدة حلقات تتتابع بشكل حتمي.

صحيح «أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها» حسب ابن خلدون. لكن لها عمراً معيناً بدقة أيضاً، لا تستطيع زيادته، هو، في الجوهر، عمر عصبيتها الخاصة، التي مثلما الكائن الطبيعي، تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب ومن هذه إلى الكهولة فالموت. وكما جاء في «المقدمة»: «الدولة لها أعمار طبيعية، كما للأشخاص». وهذا العمر محدود بمائة وعشرين سنة تقريباً، تنقسم داخلياً إلى ثلاثة مراحل أو أجيال، هي مرحلة الولادة والنشوء، تليها مرحلة القوة والازدهار، ثم تأتي، بعد هذه، مرحلة الفساد والانقراض.

ولا تعدو أعمار الدول في الغالب ثلاثة أجيال من البشر:

"الجيل الأول، لم يزالوا على خلق البداوة، وخشونتها وتوحشها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في مجد بنائها... والجيل الثاني، تحول حالهم، بالملك والترفّه، من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب... فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، لكن يبقى لهم من ذلك بما أدركوا الجيل الأول. وأما الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة، ويفقدون حال العز والعصبية، بما هم فيه من ملكة القهر... وتسقط العصبية بالجملة... حتى يأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت".

ولا يقتصر هذاالتماثل على الطابع الخارجي لأطوار الحياة الطبيعية للدولة، إنما يمتد ليشمل المضمون العام لكل من لحظات السيرورة تلك، إذ إن الدولة "تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها، في كل طور، خلقاً من أحوال ذلك الطور، لا يكون مثله في الطور الآخر... وحالات الدولة وأطوارها، لا تعدو، في الغالب، خمسة أطوار. الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع الممانع، والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها... الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك... الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك، مما تنزع طباع البشر إليه، من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة... وهذا الطور هو آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة... الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة... الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة، في هذا الطور، متلفاً لما جمعه أولوه.. مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور، تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن إلى أن تنقرض".

ومن المرجح جداً لدينا أن ابن خلدون يستلهم في هذا المفهوم حول أطوار الدولة مفهوماً مماثلا لأخوان الصفا ورد في أوضح أشكاله في الرسالة الرابعة من القسم الرياضي في فصل الجغرافيا ونصه: "واعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ ولها غاية إليها ترتقي، وحدٌّ إليه تنتهي، وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحلَّ الأول المتقدم ويتمكن الحادث المتأخر، والمثال في ذلك مجاري أحكام الزمان؛ وذلك أن الزمان كله، نصفه نهار مضيء ونصفه ليل مظلم، وأيضًا نصفه صيف حار ونصفه شتاء بارد، وهما يتداولان في مجيئهما وذهابهما كلما ذهب هذا رجع هذا، وتارةً يزيد هذا وينقص هذا، وكلما نقص ذلك من أحدهما زاد في الآخر حتى إذا تناهيا إلى غايتهما ابتدأ النقص في الذي تناهى في الزيادة، وابتدأ الزيادة في الذي تناهى في النقصان، فلا يزالان هكذا وهذا دأبهما إلى أن يتساويا في مقداريهما، ثم يتجاوزان على حالتيهما إلى أن يتناهيا إلى غايتيهما من الزيادة والنقصان، وكلما تناهى أحدهما في الزيادة ظهرت قوته وكثرت أفعاله في العالم وخفيت قوة ضده وقلَّت أفعاله. 

فهكذا حكم أهل الزمان في دولة الخير ودولة الشر، فتارةً تكون القوة والدولة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارةً تكون القوة والدولة وظهور الأفعال لأهل الشر، كما ذكر الله جل ثناؤه: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ الآية. وقد ترون أيها الإخوان أيَّدكم الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت قوة أهل الشر، وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان. واعلم أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان ودور وقران من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى بلد". انظر: رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء (الجزء الرابع) الرسالة السابعة.

أما عند هيغل، فتأخذ هذه الفكرة صياغة تكاد تكون خلدونية تماماً، إذ وبموجب مفهومه الديالكتيكي، الخاص بالمراحل الرئيسة للتاريخ الكوني، يعتمد تقسيماً عاماً، يطبقه على كل دولة فعلية، يميز فيه، بوضوح، أربع مراحل مختلفة، في سيرورة تطور هذا أو ذاك من المبادئ الخاصة والمحدودة، من مبادئ الروح الكوني، ويأخذ الشكل التالي: «إن روح شعب ما، هي كالفرد الطبيعي. وبصفتها هذه، فهي تزدهر وتتعزز، ثم تنتصر، ثم تضعف وتموت» كما كتب هيغل في "العقل في التاريخ".

فأطوار حياة الدولة، في المنظور الهيغلي، تقتصر على الأربعة التالية:

1 - طور ولادة الدولة وانطلاقها، الذي لا تكون فيه «روح الشعب» قد بلغت بعد مرحلة الوعي التام لما تهدف إليه، إلا ضمنياً، إنما تقتصر على الشعور بضرورة النشاط، وتتحرك تحت شكل نزوع طبيعي غامض، لا يعرف إلا غايات حقيقته المحددة.

2 - طور الشباب والرجولة، حين تبلغ الدولة تحقيق الهيمنة والإزدهار وكافة الانتصارات الأخرى. ففيها يصبح المبدأ جلياً وخلاقاً، وينزع إلى صيرورته كغاية. لذلك، فهو «أجمل الفترات»، ومرحلة "شباب ذلك الشعب" .

3 - طور الكهولة والهرم، الذي تفقد فيه الدولة حيويتها السابقة، كما تبدأ العقبات أمامها بحماية المنجزات التي حققتها، وهي أيضاً الفترة التي تبدأ فيها نهاية وصايتها التاريخية على الشعوب الأخرى، لمصلحة ضرورة انبثاق دولة جديدة، تحمل مبدأ أسمى، وتحت قيادة شعب تاريخي جديد.

4 - طور المصير المفجع، الذي هو موت الدولة وانقراضها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

تعديل قانون الأحوال الشخصية دعوة لمغادرة الهوية الوطنية

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: نائب ونائم !!

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

العمودالثامن: إضحك مع الدولة العميقة

 علي حسين تهلّ علينا النائبة عالية نصيف كلَّ يوم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والفضائيات، ويتعاطى العراقيون جرعاتٍ مسكنةً من التصريحات التي يطلقها بعض النواب، حيث يظهرون بالصورة والصوت ليعلوان أن المحاصصة...
علي حسين

كلاكيت: عشرة أعوام على رحيل رينيه

 علاء المفرجي في الذكرى العاشرة لرحيل شاهد عصر الموجة الفرنسية الجديد، التيار الذي شكّل حدثاُ مفصلياً في تاريخ السينما ألان رينيه الفرنسي الذي فرض حضوره القوي في المشهد السينمائي بقوة خلال تسعة عقود...
علاء المفرجي

نحو هندسة للتوافق التنموي

ثامر الهيمص وليكن نظرك في عمارة الارض، ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلا. في...
ثامر الهيمص

ضجة التّماثيل.. كَوديا بعد المنصور!

رشيد الخيون أقام ديوان الكوفة بلندن(1993) أسبوعاً عنوانه "التُّراث الحي في حضارة وادي الرّافدين"، ففاجأنا دكتور بعلم الأحياء، معترضاً على إحياء "الأصنام"، وبينها كَوديا. لم نأخذه على محمل الجد، حتى كسرت "طالبان" تمثالي بوذا(مارس2001)،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram