نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل..قوة الدولة من قوة العصبية (12 - 14)

آراء وأفكار 2021/01/16 08:06:30 م

نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل..قوة الدولة من قوة  العصبية  (12 - 14)

 د. حسين الهنداوي

التوالي في الأطوار الطبيعية للدولة، عند هيغل، هو عينه تقريباً عند ابن خلدون. وهو لا يتعلق بتوالي سلسلة من المراحل الاجتماعية أو السياسية أو الأنماط الحضارية، إنما هو تتابع لمستويات في قوة الرابطة الجماعية، التي تقوم بفضلها الدولة.

فكما أنها مرتبطة بدرجة قوة «العصبية»، عند ابن خلدون، فإنها مرتبطة بحال روح الشعب، عند هيغل، سواء بسواء. كما أنهما يشتركان في القول بأن سقوط دولة ما، يفضي، بالضرورة، إلى قيام دولة أخرى جديدة، وأن انهيار الدول والأمبراطوريات، ليس عرضياً، إنما نتيجة حتمية لمنطق التطور عينه.

لكن إذا كان التماثل بينهما بديهياً، على صعيد الحياة الطبيعية للدولة، فإن الأمر يختلف جزئياً، فيما يتعلق بحياتها الكونية. وهذا الاختلاف، يعبر عن نفسه، في غياب مفهوم التقدم في ماهية الدولة، عند ابن خلدون، إذ إن دينامية الدولة، تقتصر، لديه، على حياتها المباشرة، كسلطة محلية، بينما هي، عند هيغل، تمتد لتشمل حياتها كظاهرة كونية. لذا، فإن تتابع صيرورة الدولة، بين الولادة والموت، هو، عند الأخير، يظل مستمراً على نطاق التاريخ البشري ككل، بينما هو، عند ابن خلدون، تتابع مستقل بذاته، وميكانيكي إلى حد كبير، ومحلي بالضرورة، إلى درجة يتوجب على كل عصبية أن تمر في التجربة التلقائية نفسها، لبناء الدولة الخاصة بها.

ولئن بدا التقدم في التاريخ الكوني للدولة معدوماً تقريباً، فذلك لأن الأخير يقتصر، في واقع الحال، على سلسلة انتقالات متوالية على الدوام، من العمران البدوي إلى العمران الحضري، لا تحكمها علاقة التراكم، إنما علاقة القطيعة الدورية؛ إذ كلما نجحت عصبية ما في بناء دولة، تحقق الازدهار والهيمنة على العصبيات الأخرى، وجدت نفسها، بعد زمن محدد، آيلة إلى التحلّل، بفعل تناقضاتها الداخلية، ثم إلى الترنّح والسقوط، وكذلك دولتها، تحت أقدام عصبية جديدة، دخلت التاريخ لبناء دولتها الخاصة. وهذه القطيعة الحتمية، لا تقتصر على الدولة، بل تشمل الحضارة أيضاً، مادامت كل دولة لا ترث من منجزات الحضارة السابقة عليها، الا ما تجد نفسها مضطرة إلى تقليده. فالتجربة السياسية للبشرية، ليست حركة واحدة، في التحصيل الأخير عند ابن خلدون، إنما مجموعة حركات متوازية، يمكن أن يتواجد بعضها إلى جانب البعض الآخر في التاريخ، دون تواصل أو تناقض، إلا خارجياً وعرضياً.

أما بالنسبة إلى هيغل، فلا قطيعة بين الحضارات، مهما كانت المظاهر التي توحي بها. انما هناك استمرارية كونية لظاهرة الدولة، جوهرها «التقدم في وعي الحرية»، وتشمل مجموع الفعالية السياسية للبشرية، على الرغم من، أو بالأحرى بفضل، التضاد القائم بين العوالم السياسية التاريخية، والناتج من تباين مضامينها الروحية الخاصة وزمنياتها الفعلية، وشروط الجغرافيا والمناخ والأنثروبولوجيا التي تفصلها.

التفوّقية العرقية

إنطلاقاً من مفهوم «العصبية»، وبعض الأحكام الاعتباطية، في كتابات ابن خلدون، المتعلقة بسكان أفريقيا السوداء والعرب والأتراك خاصة، ذهب عدد من المؤلفين إلى الاستنتاج أنه من دعاة التفوّقية العرقية. والحال، إننا نجد أفكاراً مشابهة تماماً، لدى هيغل، أوحت بأنه، هو أيضاً، من أصحاب هذه الدعوة. ومن الجدير بالذكر، أن الاستغلال الأيديولوجي لهذه الأفكار، من قبل الاشتراكيين القوميين الألمان، لم يقتصر على هيغل وحده، كما هو معروف، إنما شمل ابن خلدون أيضاً. ففي العام 1936، نشر طاهر الخميري، أستاذ اللغة العربية في جامعة هامبورغ، آنذاك، دراسة بعنوان «نظرة في مقدمة ابن خلدون»، أكد فيها أن ابن خلدون، هو من بين المفكرين الأوائل، الذين أسسوا فكرة تفوّقية العنصر الآري الجرماني على السامي، على أساس «نقاء الدم» أو "صفاء النسب" كما ترى سفتيلينا باتسييفا في كتابها" العمران البشري في مقدمة ابن خلدون". وقبل الخميري، كان بعض الكتاب الألمان، المتأثرين بالأيديولوجيا العرقية، قد نشروا عدة دراسات تصب في هذا الاتجاه، من بينهم ويزينديك وهورتن.

وقد يكون من الصحيح أن هذه التفسيرات، لا تمتلك أية صدقية، خارج رؤوس أصحابها. كما، بالمقابل، لا تقوم على أية موضوعية محاولة بعض أيديولوجيي القومية العربية، جعل صاحب «المقدمة» مبشراً بنزعة قومية عربية. فأفكار ابن خلدون خالية، في الواقع، من النزعة العنصرية أو العرقية، لاسيما وهو يؤكد أن «النسب أمر وهمي لا حقيقة له»، كما كان قد رفض نتائج المنهج الاجتماعي الساذج، الذي يقوم على التمييز بين الأمم بالأنساب فقط.

إلا أن ابن خلدون، كان، بلاشك، من المؤمنين بتفوق العقيدة الإسلامية وقيمها الدنيوية، كما فهمها، وكتاباته كلها، تنطوي على دفاع عميق عنها وعن فكرة «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، التي نص عليها القرآن، في صدد الأمة الإسلامية. أما دفاعه الواضح عن ضرورة النسب القريشي في الملك، فذلك مرتبط بكون الأخير من أهل العصبية القوية، وهو شرط ضروري، لديه، كي تبلغ الدولة تحقيق هدفها في "انتظام الملة واتفاق الكلمة".

ويمكن إيجاز أهم جوانب العلاقة بين هيغل وابن خلدون، في هذا المجال، في قولهما، من جهة، بنقص الإنسانية في أمم أفريقيا السوداء، وفي تأكيدهما على توحش البدو والعرب والأتراك. إذ نجد، بالفعل، تماثلاً شبه تام في موقفيهما من هذين الموضوعين.

فعن الأمم الأفريقية السوداء، يشير ابن خلدون مراراً إلى أنها ناقصة الإنسانية، وحياتها قريبة من حياة البهائم، فهي تجهل الديانات، وتأكل لحوم البشر، وترقص، وتغني بمناسبة وبغير مناسبة كما ورد في المقدمة. لكنه يرفض، بالمقابل، تعليل جالينوس والكندي لمظاهر حياة الأمم السوداء، القائل بـ«ضعف أدمغتهم»، ناسباً ذلك إلى عامل المناخ وحده.

هذه الأفكار نفسها تقريباً، نجدها عند هيغل في أكثر من موضع، في «دروس فلسفة التاريخ»، كقوله: إن «من يريد معرفة المظاهر البشعة للطبيعة الإنسانية، يستطيع أن يجدها في أفريقيا.. بلاد الطفولة الإنسانية، التي تقف في ما وراء نهار التاريخ الواعي، مغلفة بلون الليل البهيم» كما يقول هيغل.

أما عن العرب، فنعرف أن جدالاً واسعاً، جرى حول تأكيدات ابن خلدون «أن العرب، اذا تغلبوا على أوطان، أسرع إليها الخراب. والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية.. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء، الذي أصل العمران». أو أن العرب «أبعد الأمم عن سياسة الملك»، أو أنهم «بطبيعة التوحش الذي فيهم، أهل انتهاب وعيث». وهو رأي يعممه أحياناً، ليشمل الأتراك والتتر وكل الجماعات القبلية الكبيرة ذات «العمران البدوي" .

هذه الأحكام عينها، نجدها لدى هيغل أيضاً. فبالنسبة إليه، ان العرب والأتراك والتتر، «نجحوا، بفضل الفتوحات، أن يبلغوا الهيمنة والثروات وحق العائلة المالكة في السيطرة والروابط بين الأفراد. إلا أن كل هذا، لم يكن إلا عابراً ومشيداً على رمل. لأنه يقوم في يوم، وينهار في الغد منه» حسب هيغل. وذلك لأن هذه الشعوب البدوية، لا تبالي ببناء دولة أو حضارة، رغم كل مظاهر الحماس والقوة، التي تتمتع بها. فما تهتم به أساساً، هو نهب وإخضاع الشعوب المتحضرة، ولا تترك من أثر سوى "الخرائب والدمار" .

أما جزيرة العرب، فيسميها هيغل أحياناً «العربية الهمجية» (L'Arabie de la Barbarie) . وهي فكرة، لا نشك في أن مصدرها مؤلفات أيديولوجية، ككتاب «روح القوانين» لمونتسكيو، حيث نجدها أيضاً. ويرى هيغل كذلك، أن الإرادة التي يتمتع بها الأتراك، هي «إرادة اعتباطية»، وتجد تجسدها الملموس في سلوكية فرقة «الإنكشارية» في الجيش العثماني. إذ الإرادة، التي تمتلكها وتستعملها هذه الجماعة، تبدو، في نظره، «إرادة وحشية.. ومحض تعصب، يهدد بتدمير كل ما هو منظم، وكل شكل من أشكال الحقوق والقيم الجماعية» كما يرى هيغل.

لكننا، ورغم كل ذلك، لا نعتقد أنه ينطلق، في كل هذه الأحكام، من انتمائه إلى نظرية، تقول بالدونية العرقية للشعوب الشرقية، إنما من قناعة مسبقة بتفوق الروحانية المسيحية كونياً، منذ لحظة تماهيها مع الأمم الأوروبية الغربية. فقد قادها هذا التصور، بلا شك، إلى الاعتقاد الراسخ بتفوق النشاطية الحضارية الغربية على مثيلتها الشرقية، منذئذٍ. وهو لا يكتفي عند هذا الحد، إنما يموضع ذلك التفوق في فترة أقدم، تتزامن مع ولادة الحضارة الإغريقية. وهي فكرة، عبرت عنها الفلسفة الهيغلية على الدوام، لاسيما في مفهومها الخاص عن المراحل الأربع الرئيسية، التي يمر بها تطور التاريخ الكوني.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top