أن تصبح  بوفوار .. سيرة مغايرة للفيلسوفة الوجودية الشهيرة

أن تصبح بوفوار .. سيرة مغايرة للفيلسوفة الوجودية الشهيرة

ترجمة منعم الفيتوري

أن تصبح بوفوار"، كتاب جديد صدر عن دار "بلوومزبيري" في لندن، من تأليف أستاذة تاريخ الفلسفة والثقافة كيت كيركباتريك، لتبني السيرة الذاتية وحياة العقل والأفكار التي عاشتها الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908-1986) واعتبرت وما زالت إلى اليوم أحد رموز التحرّر في الحركة النسوية العالمية وتجاوز تأثيرها حدود أوروبا وزمن جيلها.

تعتمد هذه السيرة الذاتية على يوميات، ورسائل لم تُنشر من قبل لتخبر القصة كيف أصبحت سيمون دي بوفوار نفسها. ويتضمّن 17 فصلاً، جزء منها عدّة فصول عن طفولتها ومراهقتها، ثم فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها ثم الحرب العالمية الثانية وما وقع خلالها وبعدها.

ثم يتمّ تناول كتبها الفكرية وحياتها الخاصة وقصصها العاطفية، وأعمالها الروائية ثم فترة الشيخوخة وحتى رحيلها. الكتاب يضمّ الكثير من التفاصيل حول حياتها، ويقدّم قراءة ضرورية وجذرية وجديدة لحياة وعمل سيمون دي بوفوار..نترجم فقرات من الكتاب لنسلط الضوء على بعض العوامل التي ساعدت دي بوفوار على أن تصبح مفكرة وجودية

في حياتها، تزامن اختفاء الله مع محبة وموت صديقها المخلص وحبيبها زازا. كلتا الخسارتين تركت أثراً واضحاً على حياتها. شعرت بوفوار أن حريّتها قد كلّفتها حياة زازا. في عام ١٩٢٨ اكتشفت بوفوار حياتها البديلة في باريس في: البوهيمية، والثّورة، والسّوريالية، والسينما، وباليه روسي. في ذلك العام بدأت دراستها بجامعة السوربون، بصحبة مجموعة رائعة من الفلاسفة. لم تصبح بوفوار صديقة لسيمون فايل، بالرغم من أن هذه على ما يبدو لي فرصةً ضائعة. كانت بوفوار مفتونةً بسيمون فايل، ليس لذكائها وحده، بل بسبب اهتمامها بمعاناة الآخرين. سمعت بوفوار ذات مرة أنّ سيمون فايل قد بكت على حالة الجوع التي ضربت الصين، وقد تأثّرت بقلبها الكبير بما فيه الكفاية كي يهتمّ بمعاناة النّاس في الجانب الآخر من العالم. أرادت بوفوار أن تتقابل مع سيمون فايل، لكن المقابلة أخذت منعطفاً مخيّباً للآمال، عندما تغير الحديث إلى الثورة: بحسب فايل، أو إيجاد سبب لوجودنا: بحسب ما قالت سيمون دي بوفوار.

أنهتْ فايل المقابلة بقولها: يسهل عليك ألاّ تشعر بالجوع أبداً! وِفقاً لبوفوار، فإن فايل نظرت إليها من أعلى إلى أسفل، وحكمت عليها بقولها: بورجوازيّة صغيرة متغطرسة. في تلك الفترة، شعرت بوفوار بالإزعاج. لكن بعد ذلك لم تكن تعرف فايل ظروفها التي كانت تحكم عليها بافتراضات خاطئة. لكن في مرحلة نضجها، رضيت بهذا الحكم على نفسها.

أدركتْ أنّها تفضل الرّوايات على كافة الأشكال الأدبيّة الأخرى. كتبتْ في مذكراتها: أتساءل، لماذا أكتب؟ مع فائدة التّذكر، يجب عليّ أن أتحدّث عن الفلسفة، لماذا لم أتحدّث عنها؟ شخصيّا، أردتُ أن أكتب عن الشيخوخة والعزلة وسارتر. كم يكفي لأتحدّث عنه؟ أو عن بوست وأولغا وبيانكا وناتالي؟ تردّدت بين خيارين: إما الخيال، أو الاستمرار في كتابة سيرتها الذّاتية التي قد تتّخذ شكل: مقال عن الكاتب!

عندما كانت تبلغ من العمر 16 عاماً في أحد محال بيع الكتب الدينيّة بالقرب من سانت سولبيس، طلبت من البائع كتاباً ما. ذهبت خلف المحل، حيث أمرها البائع بأن تتبعه إلى هناك، وعندما اقتربت منه عرفت أنّه لا يملك ما تبحث عنه، بل وجدت قضيبه منتصباً! هربت منه، وشعرت بأن: أغرب الأشياء يمكن أن تحدث [لها] بشكلٍ غير متوقّع! كما وصفت هيلين طفلوتها بأنّها مضطهدةٌ من قبل الله، وأشارت إلى أنّ حضور الله لم يكن متساوياً بين الجميع.

في مذكّرات فتاة رصينة، تصف بوفوار أباها الزّنديق، وأمّها المتديّنة بأنّهما يمثلان طرفي نقيض داخلها: الأب يمثّل دور المثقف، والأم تجسّد الروحانيّة. وهذان: حقلا الخبرة غير المتجانسين جذريّا، فلا يوجد بينمها شيءٌ مشتركٌ، بدأت تعتقدُ بأنّ الأشياء البشرية، كالثّقافة والسّياسة والأعمال والأخلاق والعادات، أشياء لا علاقة لها بالدّين. لذا "لقد فصلتُ الله عن الحياة والعالم، وهذا الموقف ممّا سيؤثّر بعمقٍ على تطوري المستقبلي".

‏في 22 أيار وصفت بوفوار تأثير سارتر عليها بأنّه غير عادي. في غضون ثلاثة عشر يوماً بعد لقائها به، كتبت في مذكراتها: لقد فهمني، وتوقّعني، وتملّكني! بحيث كانت لديها: حاجة فكريّة لوجوده.

‏لقد اكتشفا تشابهاً في مواقفهما وفي أطروحاتهما، بالإضافة لشغفهما الكبير بالفلسفة، كان لهما شغفٌ بالأدب ويحلمان معاً بمستقبلٍ أدبيّ.

اعتقدا في البداية أنّهما [أحرارٌ بشكلٍ جذري] لكنهم في الواقع كانا ضحيّةً لأوهام مختلفة. لم يعترف أيّ منهما بأيّ التزامات عاطفيّة تجاه الآخرين. اعتبر كل واحد منهما أنه سبب وإرادةٌ خالصةٌ، ولم يدركا معنى اعتمادهما على الآخرين، وكيف عاشا بعيدين عن محن العالم. لم يمتلكا الكثير من المال، وكانا يزدريان الرّفاهية: ما الهدف من البحث عن أشياء لم تكن في متناول أيدينا؟. عوضاً عن ذلك اهتمّا بتنمية الخيال المشترك بينهما، وتخزين الصور والأفكار والقصص: إذا لم تكن هناك علاقة للأدب، فالبديل هو نيتشه وماركس وفرويد وديكارت، إضافةً لتنظيم رحلات إلى صالات العرض والسينما.

على الرّغم من اتفاقهما على أهميّة الأدب، لكنّهما اختلفا حول ماهيته والغرض منه. يرى سارتر بأنّ هناك قوّة للكلمات، وأنّ الأدب يتألّف من الكذب والتّمويه. بينما بوفوار رأت بأنّ الأدب يفعل أكثر من ذلك، حيث قرأت فيرجينيا وولف وحازت على إعجابها: كانت هناك امرأة أرادت سدّ الفجوة بين الأدب والحياة. ما أرادته بوفوار حقّا هو: اكتشاف العالم ومعرفته.

شعرت سيمون في بداية حياتها بالبؤس والتّعاسة، من ناحية بسبب أسئلتها التي لا تجد لها إجابة، ومن ناحيةٍ شهدت تحوّلا غير مرغوب فيه في شخص تحبّه. كفتاة، اعتبرت بوفوار والدها رجلاً نادراً بين الرجال. لا أحد يضاهي ذكاءه وتألّقه واطّلاعه الواسع في القراءة، وقدرته على قراءة الشعر وشغفه بالجدل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top