باليت المدى: الوجه الآخر للجمال

ستار كاووش 2021/02/07 10:39:44 م

باليت المدى: الوجه الآخر للجمال

 ستار كاووش

يلازمنا الفن على امتداد حياتنا، فلا يمر علينا يوم دون أن يشع فيه أمامنا ضوء الفن والإبداع والجمال، سواء في التفاصيل المحيطة بنا أو في الطبيعة التي نعيش بين أحضانها، أو تعكسه الأشياء العفوية العابرة التي تحدث في زوايا لا تخطر على بال أحد.

نراه في تبرعم وردة أو إنحناءة شجرة، من خلال غروب شمس أو إلتماعة قمر. ومنذ ساعة الولادة حتى ساعة الرحيل يختلط الفن في حياة الانسان بشكل لا مثيل له، والغريب أن تفاعل الجمال والفن مع الإنسان وارتباطه به لا يتوقف عند رحيل هذا الأخير، بل يتعدى ذلك ويستمر سنوات طويلة جداً، وربما يكون الفن هو الوحيد الذي يتماهى مع الإنسان حتى بعد مغادرة هذه الدنيا، وقتَها يقول الفن كلمته الأخيرة من خلال شاهد القبر الذي ينتصب بزهد ووقار، ويأخذ أشكالاً وأساليب مختلفة، تحمل الكثير من الجمال والرمزية والتعبير، نعم أنه شاهد القبر الذي يظل واقفاً بجلال بعد أن يذهب المعزّون ويفض جَمع المشيعين وتخلو المقبرة.

لقد برعَ الكثير من الفنانين في جعل شواهد القبور أعمالاً فنية استثنائية وذات قيمة بصرية وتاريخية ورمزية عالية. فما حكاية شواهد القبور، وهل هي أعمالٌ فنية حقاً؟ أم مجرد تذكارات عابرة تشير الى تاريخ ولادة ووفاة الشخصيات التي ترقد تحتها؟ رغم أن الإنسان يمضي دائماً ويغيب، لكن هناك أثر يبقى وراءه ويدل عليه، لذا يمكن القول إن الفن والجمال ينبثق حتى من الموت، وزهرة الفن لا تكبر في الحدائق فقط، بل كذلك في أشد الأماكن غياباً، وأقصد المقابر. وحتى الأشياء السلبية في هذه الدنيا تحمل معها -إذا تأملناها من جوانب متعددة- جانباً آخراً فيه الكثير من الإيجابية، وشاهد القبر هو الوجه الآخر للعملة، هو انعكاس لروح الميت الذي يرقد في ظلام القبر، إنه النهار الذي يقابل حلكة الليل التي تحته، وهو الجانب الآخر المضيء من القمر.

مثلما هناك لوحات فنية ومنحوتات تضمها المتاحف وتحمل الكثير من التفرّد والغرابة والتأثير، فهناك العديد من شواهد القبور، تصل الى مصاف الأعمال المهمة والملهمة وربما تفوقتْ عليها فنياً بعد أن تركت أثراً جمالياً عميقاً في النفس أو درساً في المحبة أو حتى إلتفاتة تحمل الكثير من الدعابة، مثل قبر الموسيقي الفرنسي فرناند أربيلوت الذي تعلوه منحوتة برونزية لأربيلوت ذاته مضطجعاً على ظهره وهو يمسك بكلتا يديه رأس زوجته ويتأمله بعمق وكأنه يريد أن يقول بأن روحه ما زالت موجوده قربها. أو قبر الشاعر البلجيكي جورج رودنباخ، الذي هو عبارة عن تمثال له، يبدو وكأنه يشق صخرة القبر ويحاول الخروج منه ماداً يده الى الأعلى، وبذلك تتطابق رمزية شكل التمثال مع الطريقة التي يكتب بها هذا الشاعر الرمزي قصائده. حيث أراد أن يوصل رساله تقول بأن أعماله سوف تبقى حتى بعد مماته. وشواهد قبور أخرى مذهلة في تأثيرها وابتكار أشكالها وما تشير إليه. فهنا يظهر ملائكة يحيطون بالقبور بطرق درامية ورومانسية، وهناك ينتصب تمثال لامرأة شابة تقف منتحبة فوق قبر زوجها الذي قتل في إحدى الحروب، وقبور أخرى كثيرة، تحمل شواهدها تفاصيل مدهشة وفي غاية الجمال والتأثير، ليتحول القبر من خلال ذلك الى عمل فني وتتحول المقبرة الى متحف واسع في الهواء الطلق.

الجمال ينمو كل وقت، حتى بعد الموت وهو من صنع الإنسان نفسه إنْ أراد ذلك، والأمر يشبه الى حد بعيد، التقليد الذي يقوم به الكثير من الروس عند استذكارهم - أثناء الشرب- شخص متوفٍ من العائلة، حيث يخصصون للمتوفي كأساً مليئة بالفودكا ويغطونه بشريحة من الخبز الأسمر ويضعونه قربهم على الطاولة، كإشارة لوجوده الرمزي بينهم، وكلما كان الشخص الراحل عزيزاً وقريباً من قلوبهم، كلما ازدادت انخابهم وارتفعت كؤوسهم أكثر. ذلك الكأس مذهل في رمزيته وهو فعلاً يقترب من جمال شواهد القبور، فهما مثل مصباحين يُضاءان فقط بعد الوفاة.

من المنح التي أهدتها لي الحياة هي أني عشت في بلدان وزرتُ أراضٍ عديدة ومتباعدة ومختلفة التقاليد والثقافات، ومثلما اكتشفتُ تفاصيل كثيرة من خلال حياة هؤلاء الناس، فقد عرفتُ من المقابر أيضاً كيف يتعامل الناس مع بعضهم، وكيف تعكس هذه الأماكن الساحرة والغامضة، الجمال الذي في قلوب البشر.

يمكنني القول إن الأمر سهل جداً ولا يحتاج الى تعقيدات ولا قيود وتأويلات. وشواهد القبور التي شاهدتها دليل على ذلك الوفاء الجمالي واللفتات الحانية من الإنسان... الى أخيه الإنسان، إنها اللوحة الأخيرة التي بقيت وستبقى من حياة شخص جميل، مضى بعيداً ولن يشغل مكانه أحد... سوى شاهد القبر.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top