أكرم الوتري: شاعر القصيدة العضوية

أكرم الوتري: شاعر القصيدة العضوية

صلاح نيازي

2-1

ادناه محاولة تعريفية بالشاعر العراقي المرحوم أكرم الوتري، وبديوانه الوحيد " الوتر الجاحد " الذي ربما صدرعام 1950.

على الرغم من أن اسم الشاعر متداول بين جيل الشعراء في الاربعينيات والخمسينيات، إلا أن مؤرخي الادب، لم يأتوا له على ذكر، لدرجة تثير الاستغراب، بينما نال شعراء "مرحليّون"، أقل منه موهبة ومكنة وتقنية، حظوة هم ليسوا اهلاً لها بالكامل. ولد أكرم الوتري عام 1930 وحصل على شهادة البكالوريوس في القانون، عام 1952 وحصل على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي بسويسرا.

كتب الوتري الى جانب الشعر، في بداية حياته الأدبية، القصة القصيرة، فنشرت له قصة عام 1945 بعنوان: سعيد رغم الألم كما نشرت له قصة أخرى عام 1946 بعنوان: الإيمان.

ترجم عن الانجليزية ديوان: جني الثمار Fruit Gathering لرابندرانات طاغور، كما ترجم عن الفرنسية كتاب النظرية المحضة في القانون لهانس كلسن ونشر عام 1983. أما أطروحته فنشرت بالفرنسية عام 1996.

الوتري مجايل لبدر شاكر السياب، وعبد الرزاق عبد الواحد، وحسين مردان. لكن بماذا اختلف عنهم؟ إنّه شاعر مدينة بلا مدافع، ولا ينافسه في ذلك أحد كما سنرى.

يضمّ ديوان "الوتر الجاحد" ثلاثين قصيدة قصيرة، وكلّها مؤرخة إلاّ قصيدة:"سرّ" التي افتتح بها الديوان، وبها يختتم الديوان وربما حياته الشعرية.

السؤالان الجديران بالطرح هنا:

ما قيمة هذا الديوان؟

2- لماذا انقطع الشاعر عن كتابة الشعر؟

قال راوية القصيدة في آخر بيت في الديوان:

"وتري

لِمْ شدوتَ بالزبد الفاني

وأرخصت روحك المغلولة"

للإجابة عن السؤال الأوّل، لا بدّ من إطلالة سريعة على مسيرة الشعر الحديث في الأربعينيات بالعراق.

المتعارف عليه أن مصطلح الشعر الحديث، يعني فيما يعني، الآنفلات من إسار، الشعر النمطيّ وموضوعاته ومناسباته، التي شاعت في شعر الزهاوي والرصافي. قد يعزو بعض مؤرخي الأدب هذا التحوّل الخطير إلى عاملين: نكبة فلسطين التي فضحت خواء الألفاظ المتورمة بلاغياً، وإلى التعابير التحريضية المتجمّرة، والقوافي الراعدة. العامل الثاني هو انفتاح الحياة الثقافية العراقية، على التيّارات الشعرية الوافدة من لبنان وسوريا ومصر. ولكنْ لا ننسَ الحرب العالمية الثانية، فقد كانت إيذاناً بتدشين عهد جديد

أخذ الشباب في الأربعينيات، عن جهل أو علم، هذه الفرصة التأريخية النادرة، فاندفعوا يؤسسون إلى رؤية جديدة.

كان للتجديد في بدايته سحر الموضة، ولكنّه سرعان ما أصبح الزيّ السائد.

لكنْ ما قيمة ديوان "الوتر الجاحد"؟ وبماذا يتفرد؟

يستهلّ الشاعر ديوانه باقتباس من: "نشيد الإنشاد":

"أطبعني ختماً على قلبك

أو وشماً على ذراعك

فالحبّ قويّ كالموت

والغيرة قاسية كالقبر".

رغم أن الديوان يخلو من الغيرة بأية صورة، إلاّ أن مجمل القصائد متمغنطة بالحبّ مع الفارق بالطبع. فالاقتباس أعلاه من نشيد الإنشاد مشاعر فردية حادّة تفحّ بها أنثى، بينما الحبّ في الوتر الجاحد، وإن اتخذ صيغة ذاتية، إلاّ أنّ فيه رنّة ثقافية تجعله أوسع وأعمق.

في الديوان توظيف بارع للطبيعة وألوانها، وتوظيف أكثر براعة للصمت، مما يجعل حتى النأمة الضئيلة دويّاً مرعباً.

إن ديوان الوتر الجاحد كُتِبَ على النهج الفراهيدي من حيث التفاعيل، إلا أنّ فيه إيقاعاً مختلف الجرس، كاختلاف النغمة الواحدة إنْ هي عزفتْ على أوتار مختلفة.

بعيداً عن التمحّل، يمكن اعتبار هذا الديوان، انعطافاً، من حيث الموضوع والأسلوب والإيقاع، عمّا كان مألوفاً وشائعاً في الشعر العراقي متَمَثَّلاً بالكاظمي والزهاوي والرصافي.

تأثر الشاعر، على ما يبدو بالشعر اللبناني، من حيث الموسيقى، ولاسيّما بحر الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)، وهو وزن نادر لدى الزهاوي والرصافي، كما أن الشاعر من ناحية أخرى ربط الحبّ بالجنون والتشرّد والتوحّد.

قد يكون من المفيد قبل تصفّح الديوان، أن نتوقف عند كلمتين وردتا في قصيدة :"سرّ"، التي صّدّر الشاعر بها الديوان:

"خجلان من سرّي أستّره

ويظلّ يرهقني من الكبتِ

فإذا همستُ فأنتِ في نفَسي

وإذا سكتُّ فأنت في صمتي"

الكلمتان المعنيتان هما: خجلان والكبت.

على الرغم من أنّ الديوان ينتهي بثورة ضدّ الحب، إلا أنه سيبقى حتى في صمته.

من القصائد الأولى في الديوان قصيدة بعنوان: بغداد الحزينة". يتعامل الشاعر مع بغداد وكأنها آمراة مترمّلة. المقهى مختنق بأنفاسه، وما من أحد يستطيع أن يتبين الوقت، ولكنْ ما أهميته بالنسبة لهم.

يقول راوية القصيدة:

الساعة التعبى تظلّ تُطلّ من خلل الدخان

تحصي المهازل والمآسي بالدقائق والثواني"

يدلّ تعبير من خلل الدخان على ضيق من نوع ما. حتى الساعة تعبى لأنها تجترّ نفسها.

ومن المقهى المختنق الأنفاس، ينتقل راوية القصيدة إلى أنماط محبطة من البشر، منهم الأذلّاء العبيد، ومنهم المسودّة جباههم، ومنهم الساجدون الذين يستغفرون من الخطايا، وكلّهم في تيه.

ينتقل الشاعر بعد ذلك، إلى نواح الأغاني العراقية، وأنينها المبرّح.

بين هذه الجماعات المحبطة يظهر الشاعر في هذه المدينة المخذولة:

" من شاعرملك السماء وشدّه بالأرض قوتُ

يطوي السنين على العذاب فلا يعيش ولا يموت"

وهذه لا ريب أقسى معادلة.

***

كان الجيل الجديد بالعراق يستلهم الشعر اللبناني خاصة، والشعر المصري عامة.

تشيع بين هؤلاء الشعراء في بداياتهم الاولى، ألفاظ مثل، السأم، الظلام، القلق، الألم، الملل، الجراح، اليأس، الحلم، الشبح، الدموع، الدروب وكل ما هو دفين وسجين.. وتفرد الوتري بشيوع لفظة السر في شعره، رغم أن ألفاظاً كهذه توحي بقتامة وموات وانكماش، إلا أنها دعوة غير مباشرة للتغيير والتجديد والتمرد.

كان السياب معنياً بتصوير رتابة الأيام كمعاناة فردية، يضيق معها النفس. حمّلها كذلك الأمراض الجسدية فشلّ من حركتها، وهكذا نجح في تصوير بطء إيقاع الحياة. كان السياب الى ذلك ينفر من المدينة التي ظنها أنها ستسعفه، لأنها مزقته. نظر الى الأنهار الكبيرة والبحار نظرة خائف. لكن مطالعاته القليلة الأولى في الشعر الانجليزي مكنته من استثمار ملل جديد. ملل طبقة متوسطة في مجتمع غربي، وهو كثيرا ما يقترن بالعقم. الا ان السياب راح يفتش عن خلاص، اولا بالرجوع الى طفولته الريفية وثانيا بالانخراط بالسياسة قبل ان ينتمي كلية الى ملكوت الفن والحياة.

أما البياتي، فقد وجد أمامه كسلاً هائلاً ممتلئاً بالاسترخاء والتثاؤب والحشرات والحيوانات السائبة المعطوبة، فراح يجند حتى طبول الأعراس ومزاميرها، الى قرع حربي، وبوق نفير. أدخل الى أهل الكهف، الصحيفة والمذياع والبيانات، التي تتسم كأية بيانات أخرى - بالآقتضاب والسرعة المربكة الخالية من التريث والتأمل.

على أية حال حاول الشاعران كلاهما، أن يجدا حلاً أو حلولاً للأدوار الاجتماعية، وتصوراً عن ثقة أن الحل السحري يكمن في السياسة.

غير أن الوتري، مختلف. أولاً لانه لم يشغل نفسه بأي إصلاح من أي نوع. على الرغم من أن تأففه من المسموعات والمرئيات قد يسهم - بصورة غيرمباشرة - في التغيير والتجديد.

ما تميز به الوتري حقاً، هو تصوير خواء المدينة وقيمها الموروثة من حيث موقفه الفلسفي، وبالقصيدة العضوية من حيث الأسلوب. وسنحاول أن نتمعن أكثر فيما يلي من سطور، في هذين الجانبين.

يمكن اعتبار الوتري شاعر الخواء، وهذا تفرده في الشعر العراقي. إنه ببساطة، لم يجد بينه وبين بيئته قاسماً مشتركاً. بهذا المعيار كانت نظرته أكثر مأساوية، إذ ليس في ماضيه فردوس مفقود، وليس في غده فردوس هالّ، أو لا "يعيش أو يموت". لقد اختلف الشاعر مع بيئته فأصبح مغترباً مع مفردات مجتمعه، ولو استمر في كتابة الشعر، لكان بين أيدينا الآن شعر في غاية التفرد.

مثلاً، يصور الوتري في قصيدته بغداد الحزينة مدينة متنافرة، راكدة ركود ماء آسن، خطرُهُ في حركته المنفرة الزاكمة، حتى الزمن فيها راكد أو يكاد، ثوانيه تشبه دقائقه، ودقائقه تشبه ساعاته. أيامه كأسابيعه وشهوره.

ليس في هذا شيء جديد. ولكن الجديد بالفعل، إنه كأنما أطل عليها لأول مرة بحواس سائح غريب، ومن بيئة أخرى، فهي أفضل وأنشط وأكثر طزاجة، وحيوية. اذن بعينين غريبتين، وأذنين غريبتين وفكر غريب كان ينظر الوتري الى بغداد التي خبرها في المنتصف الثاني من الاربعينيات.

تبدأ قصيدة بغداد الحزينة بعنصر الزمن المتمثل بساعة جدارية. إن اختيار الشاعر للساعة الجدارية موفق تماماً، أولاً لأنها معلقة ،أي فوق الرؤوس، كما أن دقاتها توحي بما سحُق من زمن، ووقعها وقع مطارق.

لا شك عالج مجايلو الوتري، الزمن الرتيب الثقيل، غير أنه هنا أكثر حدة. يبدأ الشاعر قصيدته هكذا:

الساعة التعبى تظل تطل من خلل الدخان "

أخذت الساعة هنا بعداً أعمق بكلمة "تعبي" وكأن دقاتها بحيح ولهاث. إنه زمن بطيء بدليل الفعل "تظل" الذي أبطأ الايقاع والموسيقي. أصبح وكأنه اجترار ولا مضغ.

ثم جاء تعبير "من خلل" لتزيد من تعتيم المشهد حتى قبل ان يأتي الدخان. توحي كلمة "خلل" كذلك، الى كثافة غيوم الدخان حيث الخواء على أشُده. وهكذا انتقل الشاعر، وبحذق، من حاسة السمع مهما كان الصوت وَشَلاً الى حاسة البصر مهما كانت غائمة. رواد المقهى من ناحية اخرى غير آبهين بالوقت. اولا بدليل انحجابه الا قليلا، وان الساعة - التي فوق الرؤوس - هي التي تطل عليهم "محصية المهازل والمآسي، بالدقائق والثواني".

ذكرنا اعلاه ان الشاعر، كأنما اطل عليها لاول مرة بحواس سائح غريب، وبهذه الصفة، تأخذ المشاهد صيغة المفاجأة، فيحتار الشاعر وتتدفق الاسئلة:

"ماذا جرى للارض

حتى عاد أهلوها عبيداً؟"

واظلمّت الأبصار

حتى لا ترى فيها جديدا؟"

يقول أوسكار وايلد:"المنظر المتكرر لا يثير الانتباه" الا ان الشاعر المفطور لا يألف الاشياء، يرى فيها تشكيلة جديدة، لذا فحواسه مستوفزة على الدوام. على أية حال، حتى يفهم هذان البيتان البسيطان فهْماً أكثر دقة، لا بد للقارئ المتمعن من النظر في طبيعة الأسئلة التي يطرحها الشاعر في قصائده الأخرى، وما هي دلالاتها. على العموم أنها ليست اسئلة بحاجة الى جواب، بقدر ما هي حيرات واندهاشات مفاجئة، وكأن قائلها غير مصدق ما يحدث امامه. انها خاتمة اكثر منها بداية، خاتمة من سقط بيده. يتناول الشاعر في هذه القصيدة كذلك، شرائح مجتمعية مختلفة، بين السارحين المنغمسين بحسياتهم، وبين الساجدين الذين يستغفرون من الخطايا.

لكن يستوقفنا في هذه القصيدة البيتان التاليان:

"والاغنيات النائحات

تعتقت دهراً فدهراً

والعابرات على الطريق

كأنما يحملن سراً

نذكر أولاً، أن السياب قد يكون، أول من طوّر في الشعر العراقي الحديث، أهمية الأغنية الفولكلورية، فضمنها في شعره، وجعلها الوشيجة الاكثر متانة، التي تربطه بالعراق حين يكون بعيدا عنه. هكذا الاغنية الشعبية في نظر السياب، إيقاع عاطفي واجتماعي يتجمع حوله الناس بغض النظر عن سطحيته اوتفاهته، وربما لم يكن داريا بسطحيته وتفاهته - لأن نظرته - في الاقل في مطلع حياته - نظرة ريفية ساذجة.

بينما الوتري في البيتين اعلاه، جعل النواح ملازما للغناء العراقي. ورغم ان كلمة "النائحات" هنا، صفة الى الاغنيات، الا انها تصرف الذهن الى "النائحات" اي النادبات، وكأنهن يبكين شيئا عزيزا فُقِد. ولكن حتى هذا الندب، في نظر الوتري، خاو ليس فيه جديد. انه معتق وعتيق تتوارثه الافواه كالتثاؤب من دهر الى دهر بنفس الايقاع ونفس الكلمات، وكأنه راكد وأسن.

اما في البيت الثاني:

"والعابرات على الطريق كأنما يحملن سراً"

فينتقل الشاعر من حاسة السمع الى حاسة البصر بصورة مرعبة مفجعة. فبينما كان الشاعر يسمع النائحات على اسطوانة او في مذياع، او ربما في بيت مجاور، فاذا بهن امام عينيه: "والعابرات على الطريق" وكأنهن انفضضن من مأتم.

لا بد أن الشاعر كان يرسم لهن صورة في ذهنه عن طريق حاسة السمع، فاذا به يُفاجأ بهنّ وهن يعبرن على الطريق، وكأنهن "يحملن سرا". وحين نجمع النائحات النادبات، الى كلمة يحملن، تصبح الصورة وكأنها جنازة. ولو جمعنا عتق الاغنيات، الى كلمة سر، يصبح السر هو الاخر عتيقا لا لذة فيه. خواء بخواء.

ومما يزيد من رعب المشهد أن الشاعر استعمل كلمة "العابرات" بدلا من الماشيات او السائرات، لان العبور يعني الانتقال من نقطة معينة الى نقطة معينة يكون الوصول اليها هو المقصود، ولا اهمية للطريق وما يدور فيه من حوادث. عبور بلا توقف.

وكأن العابرات كن مسرعات لعملية دفن، ربما دفن انفسهن في بيوت خاوية. بدأ الشاعر القصيدة بزمن عقيم متعب، ومكان مكتظ بالدخان، الا انه في الابيات التالية ينفلت من الزمان والمكان، ولكنه انفلات ضائع:

وأسير في صخب الجموع

كأنني من غير قلب

وتجرني الاحلام والاوهام

من درب لدرب"

الكلمة الأساسية في البيتين، هي "تجرني"،أي أنه فقد زمامه، ولكن تلك الجموع، التي رأينا عيّنة منها في بداية القصيدة، تحارب التجديد المتمثل بالشاعر، لا تريد أن تسحقه فقط، وإنما تريد أن تجعله واحداً منها، عبداً لما تعارفوا عليه، وهنا يذكر الشاعر معادلة مستحيلة، هي أنه "لا يموت ولا يعيش".

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top