المَسِيحيَّة بالعراق... عشرون قرناً بلا انقطاع (4-5)

آراء وأفكار 2021/03/05 08:43:31 م

المَسِيحيَّة بالعراق... عشرون قرناً بلا انقطاع (4-5)

 رشيد الخيون

مأثرتان لمسلم وإيزيدي

لعلَّ المَقاتل والاضطهادات، وعدم لين الحكومات مع الإيزيديين، دفتعهم إلى التَّضامن مع الأرمن والمسيحيين عموماً، عندما تعرضوا إلى الاضطهاد العثماني (1915) بما يشبه الإبادة. يتذكر ذلك الأمير الإيزيدي إسماعيل بك ﭼول، هذا الرَّجل الذي نعته صدِّيق الدَّملوجي (ت 1958) ظلماً بـ"الأمي والغبي، لا يصلح أن يكون أكثر مِن راعي أبقار، وليس من له العقل ولا الفهم"(الدَّملوجي، اليزيدية، الموصل: الاتحاد 1949 ص422)!

لا ندري لماذا كل هذا التَّعالي وبخس النَّاس! وللأسف لم تأت الدراسات على كشف هذا الجانب التَّضامني في حياة الإيزيدية أو ضمن ما أُرخ مِن حوادث المنطقة. فالأمير إسماعيل يبدأ بالحديث عن هذا التَّضامن بسرد منام كأنه دخل إلى كنيسة، مِن كنائس ماردين، وأن قساوسة دخلوها، وأمامهم صناديق يخرجون منها محارم سود ويوزعونها على النَّساء.

وحسب قوله، إنه بعد فترة، لما سمعوا باضطهاد سيصير ضد المسيحيين أرسلوا إلى مطران دير الزَّعفران ومطران مالايان الأرمني يخبرانهما بأن الإيزيدية مستعدون للمساعدة، ومَن يحضر معهما مِن المسيحيين، وبالفعل حضرت حوالى مائة عائلة، وقام بالمساعدة أيضاً أَمير الإيزيدية بسنجار حمو شرو، وأخذ إسماعيل بك دواب بنقل المسيحيين إلى القرى الإيزيدية بسنجار، وحمل معه صورة السَّيد المسيح، وقدم لهم الصورة لعلها تعوض عن الكنيسة، وتوافد عليهم المسيحيون مِن الأناضول وسوريا، وكان معهم قسيس فأخذوا يصلون معه.

أخذ إسماعيل يدور على القرى الإيزيدية يوصيهم بالعناية بالمسيحيين، وخاض الإيزيديون معركة مع المسيحيين ضد الجماعة القادمة بدليس، وهم الذين اعتقد المسيحيون أنهم أسهموا بقتل جماعتهم هناك، ثم تسلل إسماعيل بك إلى الموصل والتقى بباطريرك الأرمن المنفي إلى الموصل مِن إستانبول، وزافيل أفندي، وأخبره سراً بوجود المسيحيين بسنجار. كذلك عمل الإيزيدية على استقبال قوافل الأرمن المساقة إلى الإبادة، وتحدثوا معهم باللِّسان الأرمني والتُّركي، ناصحين العساكر بالرِّفق بهم، والأرمن بمحاولة الهروب إلى الجبل، وهناك يحميهم الإيزيدية.

وحصل أن طلب قائممقام سنجار محيي الدِّين أفندي مِن أمير الإيزيدية تسليمه اثنين من النساء الأربع الأرمنيات، اللواتي لذن بحمى داره، فامتنع بشدة، ولكن القائممقام أبلغ حكومة الموصل بأن أيزيدية سنجار يخابرون الإنجليز، وينهبون ويسلبون، فجاءت الأوامر إلى العشائر العربية بقتل الإيزيدية وسبي ذراريهم ونهب أَموالهم، كان ذلك في يناير (كانون الثَّاني) 1918، ووصل عسكر عثماني ووضع شروطاً على الإيزيدية: تسليم المسيحيين الموجودين بسنجار وأَطرافها وتسليم الأسلحة، وأَخذ اثنين وعشرين من أكابر الإيزيديين رهائن عندهم وحصلت المعركة وترك الأَيزديون، ومعهم الأَرمن، المدينة إلى الجبل.

بعد سفر مُضنٍ، ومواجهة مصاعب مع عشائر الأَنبار، غربي العِراق، ولم يجد حرجاً كونه شيخ الإيزيدية بين شيوخ تلك العشائر، وخصوصاً وضوح هزيمة الأَتراك، تمكن إسماعيل بك مِن الوصول إلى بغداد، ومقابلة القادة الإنجليز، وطلب منهم الأسلحة والمعونة، مع المساعدة في احتلالهم للموصل، أو على حد عبارته تزويده بتنكة (صفيحة) من السُّم ليشربها مع قومه والمسيحيين المحاصرين معهم بجبل سنجار!

بعدها تمكن من مقابلة المس بل (ت 1926)، وسلمته ثلاثة آلاف روبية، وينتظر ما سيصدر له من أمر. لكن الأتراك خرجوا مِن الموصل، وعاد الجميع إلى سنجار، إلا أن خلافاً داخل إمارة الطَّائفة الإيزيدية جعل الإنجليز يأمرون إسماعيل بك أن يبقى ببغداد لفترة. ثم عاد وسويت الأمور. فوجد من المسيحيين الأرمن مَنْ ردَّ الجميل بالعناية بالإيزيدية في ظروف صعبة(إسماعيل ﭽول، اليزيدية قديماً وحديثاً، تحرير: قسطنطين زريق، بيروت: المطبعة الأمريكانية 1934 ص53-72).

ما سرده أمير الإيزيدية من حوادث وسعي لحماية المسيحيين من الإبادة شهد له بها الأب إسحق أرملة السرياني (ت 1954)، للأيزيدية ولشيخ طي المسلم أيضا قائلاً: "لابد لنا من كلمة في شأن محمد شيخ طي، فإنه أوصى مَن ينتمي إليه أن يحقن دم كلِّ نصراني يلوذ به، وأرسل عددا من المسيحيين إلى صديقه حمو شرو صاحب سِنجار"(الأب أرملة، القصاري في نكبات النَّصارى، السـويد: دار سـركون للنشر 1998(الطبعـة الأولـى 1910) ص98).

أقول: على الرغم مما يُشار إلى دافع العداء الإيزيدي للعثمانيين، فإن القصة التي سطرها الأمير الإيزيدي تُعد واحدة من ملاحم التضامن والتسامح بين الأديان داخل العراق، ولعلَّ الموقف المسيحي الآثوري الإيجابي مع الإيزيديين (1935) السَّالف الذِّكر، يتعلق بحمايتهم بالموصل وخارجها مِن قِبل أمراء الإيزيدية.

كان هناك دور للقائمقام المسلم العراقي ثابت السويدي في محاولة إنقاذ المسيحيين مِن تلك الإبادة، وقد فقد حياته مِن أجل ذلك. يروي النَّائب في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) سليمان الفضي (ت 1951) قصة السُّويدي، الذي التقاه وهو عائد إلى العِراق عبر حلب كشاهد على تلك الإبادة، يوم كان يشغل منصب قائمقام قضاء البشيرية في ولاية ديار بكر، والمعروفة في التَّاريخ باسم آمد. قال السُّويدي: "كنت أشغل قائمقامية قضاء البشيرية في ولاية ديار بكر، وجاءت أوامر الحكومة إلى الوالي رشيد بك الجركسي بذبح الأرمن القاطنين تلك الدِّيار. فأرسل هذا عصابة مِن الجراكسة تولوا ذبح الأرمن والمسيحيين على اختلاف مللهم، بصورة وحشية لا يمكن وصفها، ولم ينج مِن أيديهم طفل ولا شيخ ولا امرأة".

وأردف قائلاً في ما فعلته حكومة الاتحاد والترقي بعد عزل السُّلطان عبدالحميد الثَّاني (ت 1918): "كان مِن الطَّبيعي أن أعترض على قتل المسيحيين العرب، الذين يشهد الجميع بأنهم لم يعصوا أمر الحكومة، ولم يكن لهم أدنى علاقة بالأرمن. وكتبت إلى الوالي أصف له المذابح البربرية، التي ارتكبها رجاله. فغضب مني وشكاني إلى إستانبول، واتهمني بحماية الأرمن، فأمرت الحكومة بنقلي إلى قضاء روم قلعة مِن أعمال حلب، وها أنذا إلى القضاء المذكور" (فيضي، مذكرات سليمان فيضي، ص191-192).

يقول فيضي: "إنه عندما وصل إلى بغداد واستقبله الأصدقاء افتقد أحد القريبين عليه، وهو يوسف السُّويدي (ت 1929)، وكان مِن رجال اليقظة الفكرية، وعضو مجلس الأعيان في عهد فيصل الأول (ت 1933)، وشخصية معروفة في العهد العثماني مِن قبل (المطبعي، أعلام العراق في القرن العشرين). أسرع فيضي إلى داره، ووجده منكسراً كئيباً، وما إن أبلغه بلقائه بولده ثابت حتى أجهش بالبكاء قائلاً: لقد قُتل ثابت"! فقد دُبر قتله بمعرفة والي ديار بكر. فحسب رسالة وصلت لصاحب المذكرات فيضي أن الوالي المذكور خشي مِن ثابت أن يتصل ويخبر عن تلك المجزرة، ففتكوا به بعد ست ساعات مِن لقائه فيضي بديار بكر، وافترق بهما الطَّريق. وبعد أن عُقدت الهدنة في الحرب العالمية الثَّانية فتح التحقيق في تلك المقاتل، فلجأ الوالي الجزار رشيد بك الجركسي إلى الانتحار (فيضي، مذكرات سليمان فيضي، ص 192).

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top