متابعة/ المدى
طوال 7 سنوات انتظر خالد انتهاء الصراعات المحلية والإقليمية المشتعلة في أرضه سنجار المطلة على الحدود السورية، منذ طرد مقاتلي تنظيم داعش منها، للعودة إليها وبدء حياة جديدة، لكنه قضى مع أحلامه وثلاثة من أطفاله حين التهمت النيران خيمتهم وحولت كل شيء فيها إلى رماد.
يصف سعيد أحد الشهود على الحريق الذي أتى على خمس خيم في مخيم بيرسفي شرق زاخو: "كل شيء حدث خلال لحظات، التهمت النيران الخيم، لم نستطع فعل شيء، لكن خالد أصر على محاولة إنقاذ أطفاله فمات معهم". حوالي 60 في المئة من سكان سنجار التي تعد آخر مناطق انتشار المكون الايزيدي في العراق، لم يعودوا إليها، على رغم مضي أكثر من أربع سنوات على استعادتها من تنظيم داعش الذي احتلها في صيف 2014 وارتكب فيها عمليات إبادة جماعية.
ويؤكد سعيد (45 سنة) أن "العودة مستحيلة في ظل غياب الاستقرار الأمني والسياسي وعدم وجود إدارة موحدة، وتحول المنطقة إلى حلبة صراع محلية وإقليمية" حيث تتقاسم الأرض سلسلة تشكيلات قتالية مختلفة الولاءات.
جبهة قتال تتقاسمها القوى
في شمال القضاء تنتشر قوات البيشمركة، وفي المدينة التي دمرت الحرب أجزاء واسعة منها كما في محيطها تتمركز قوات الجيش والشرطة العراقية وألوية الحشد الشعبي، وفي جنوبها وغربها الممتدين على البادية والحدود السورية تنتشر فصائل مختلفة من مقاتلي الحشد، الذين يتقاسمون مناطق شكلت طوال 15 عاماً، حواضن للجماعات السنية المتطرفة، وعلى الجبل تتمركز وحدات إيزيدية مسلحة تنتمي عقائدياً إلى حزب العمال الكردستاني لكن مقاتليها عراقيون وهم رسمياً جزء من فصائل الحشد.
على بعد نحو 100 كم شمالاً، تراقب تركيا بحذر واهتمام كبيرين، وتتخذ من وجود المجموعات المسلحة القريبة من حزب العمال والتي تعتبرها "خطراً على أمنها القومي"، حجة لدخول المنطقة وإقامة مراكز أمنية فيها قد تشكل بوابة لما يطلق عليه القوميون الأتراك "ولاية الموصل" المقتطعة من تركيا، فيما تبدي إيران اهتماماً كبيراً بالقضاء الذي يضم إلى جانب الايزيديين مسلمين، وتأمل جعله قاعدة نفوذ وبوابة نحو سوريا وهو ما دفعها إلى نشر مجموعات مسلحة موالية لها هناك.
حرب تصريحات وتهديدات
حوَل تقاطع المصالح الإقليمية سنجار إلى نقطة خلاف تركية- إيرانية وساحة صراع ساخنة تتسابق فيها الدولتان على رسم الخطط وتحريك البيادق. فالأولى لا تتردد في إعلان نيتها اقتحام المنطقة، والثانية تواصل الانتشار فيها فعلياً عبر مواليها من وحدات الحشد، وتهدد بأنها "لن تسكت عن أي محاولة احتلال تركية". نهاية شباط 2021، تبادل السفيران الإيراني والتركي في العراق الهجمات الإعلامية على خلفية التدخل في سنجار، وكاد الأمر يتطور إلى أزمة دبلوماسية. بدأ الأمر حين رد السفير الإيراني إيرج مسجدي على سؤال بشأن التهديدات التركية بالتدخل في سنجار، قائلاً إن "إيران لا تقبل بوجود قوات أجنبية في العراق، وترفض التدخل العسكري. يجب أن لا تكون القوات التركية بأي شكل من الأشكال مصدر تهديد للأراضي العراقية ولا أن تقوم باحتلالها… على الأتراك الانسحاب إلى خطوط حدودهم الدولية، وأن تتولى القوات العراقية توفير الأمن بنفسها".
بعد ساعات رد السفير التركي لدى العراق فاتح يلدز: "أعتقد أن السفير الإيراني آخر شخص يمكن أن يعطي تركيا درساً في احترام حدود العراق". وسط ذلك التراشق الإقليمي، دعا رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، السفيرين إلى عدم التدخل في ما لا يعنيهما، وكتب: "ممثلو البعثات الدبلوماسية في العراق واجبهم تمثيل بلدانهم وتعزيز التعاون بين البلدين، فعلى ممثلي تلك البعثات أن يعوا جيداً واجباتهم، ولا يتدخلوا في ما لا يعنيهم، ويحترموا سيادة العراق لكي يُعاملوا بالمثل". بعدها بأيام أطلق زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وهو فصيل معروف بقربه من إيران وله كتلة برلمانية قوية وذراع عسكرية نافذة، تهديداً صريحاً لتركيا إذا دخلت سنجار، قائلاً "هناك معلومات عن نية (الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان الهجوم على سنجار الصيف المقبل، إذا حصل ذلك فأنا مستعد شخصياً لحمل السلاح ضد القوات التركية". وحذر الخزعلي من أن "الوجود التركي سيكون أكثر تعقيداً في المستقبل من الوجود الأميركي الحالي"، مبيناً أن "تركيا تسعى لاحتلال سنجار وتلعفر وسهل نينوى وجزء كبير من كركوك"، وأن أردوغان "يعمل على تثبيت وجوده في كل منطقة احتلها العثمانيون سابقاً". ليست العصائب، وحدها التي هددت بالرد على أي تدخل تركي، فـ"حركة النجباء" المدعومة من ايران أيضاً توعدت "بمهاجمة القوات العسكرية التركية في شمالي العراق".
تحركات على الأرض
حرب التصريحات تلك لم تكن الأولى، فقبلها بأسبوعين أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رفض بلاده أي وجود تركي في العراق، واصفاً سياسة أنقرة بـ"الخاطئة". وذلك بعدما هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 22 كانون الثاني، بشن عملية عسكرية في سنجار "لتطهيرها" من مقاتلي حزب العمال. وقال اردوغان: "بخصوص إخراج الإرهابيين من سنجار: لدي وعد دائم، يمكننا أن نأتي فجأة ذات ليلة". وأضاف: "نحن مستعدون دائماً للقيام بعمليات مشتركة، لكن هذه العمليات لن يتم الكشف عنها"، مؤكداً، "يمكن أن نأتي ذات ليلة على حين غرة".
وفي منتصف شباط، قال الرئيس التركي: "لا (جبال) قنديل ولا سنجار ولا سوريا. من الآن، لم يعد هناك مكان آمن لهؤلاء الإرهابيين".
تصريحات أردوغان تزامنت مع زيارة أجراها وزير الدفاع التركي خلوصي آكار في 18 كانون الثاني برفقة رئيس الأركان يشار غولر إلى بغداد وأربيل ناقشت ملف سنجار. وأعلن آكار في ختامها التوصل إلى "تفاهمات" مع العراق ضد حزب العمال من دون الكشف عن طبيعتها. حين كان الإيرانيون والأتراك يتبادلون التصريحات، كان الحشد الشعبي يعزز وجوده بثلاثة ألوية جديدة أرسلت إلى المنطقة على نحو عاجل ونشرت في مواقع عدة بما فيها داخل جبل سنجار. وبحسب مصادر إيزيدية، جاءت تلك التعزيزات لمواجهة أي تدخل تركي، ووزعت في مناطق متفرقة حول المدينة وفي تلعفر وما بين سنجار وربيعة غرباً على الحدود السورية.
الاتفاقية المعطلة
عملية نشر مزيد من مقاتلي الحشد الشعبي في سنجار، أحرجت الحكومة العراقية وأثارت قلق حكومة إقليم كردستان، اللتين كانتا قد توصلتا إلى اتفاقية في تشرين الأول 2020 لتثبيت الاستقرار في سنجار، تنص أهم بنودها على إبعاد الحشد الشعبي والوحدات الموالية لحزب العمال من المنطقة، وتولي قوات الشرطة الاتحادية والجيش بالتنسيق مع قوات إقليم كردستان مهمة حفظ الأمن، إلى جانب تطويع 2500 شاب من أبناء سنجار للمساهمة في تعزيز الأمن. اتفاقية سنجار التي حظيت بدعم دولي هدفت إلى تثبيت الاستقرار الأمني لإعادة النازحين، وهي اتفاقية أمنية مشتركة مع حكومة إقليم كردستان بشأن البلدة الإيزيديّة الواقعة غربي محافظة نينوى، التي سقطت في قبضة داعش عام 2014، وشهدت حينذاك إبادة جماعية ضد الإيزيديين. عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني والنائب عن نينوى شيروان الدوبرداني يرجع السبب وراء عدم تنفيذ الاتفاقية إلى وجود "قوات غير شرعية وغير نظامية إضافة إلى مقاتلي حزب العمال تهيمن على القضاء بشكل كامل".
جمر البقاء ونيران العودة
في المخيمات الموقتة التي بنيت سريعاً عام 2014 لاستقبال نازحي سنجار، يعيش حوالي 200 ألف شخص في بيوت صغيرة مؤجرة أو هياكل غير مكتملة البناء، بعدما فقدوا ممتلكاتهم ومدخراتهم في الأيام الأولى من اجتياح التنظيم لمناطقهم. هناك تسجل أسبوعياً حالات انتحار لشبان وشابات، وتتكرر بلا حل ومن دون أسباب واضحة حرائق الخيم، ويتواصل نزيف الهجرة إلى خارج البلاد، في ظل الفقر وانتشار البطالة وآثار فايروس كورونا.
يذكر مكتب إنقاذ المختطفين الإيزيديين في إحصاء له صدر مطلع عام 2021 أن 150 ألف نازح إيزيدي عادوا إلى منازلهم من أصل حوالي 360 ألفاً، فيما بلغ عدد الذين هاجروا خارج العراق أكثر من 110 آلاف إيزيدي.
تحصي دائرة أوقاف الايزيديين أكثر من 70 مقبرة جماعية تنتظر رفع جثث ضحاياها لتحديد هوياتهم. قد يتطلب الأمر سنوات طويلة. ويقول الإعلامي ماهر شنكالي الذي يستبعد فكرة العودة: "أحياء المدينة وبناها التحتية مدمرة بنسبة 80 في المئة، والكثير من المجمعات السكنية لم يتم تنظيفها إلى الآن من المخلفات الحربية، ولا توجد حكومة محلية حقيقية تدير القضاء". ويشير شنكالي إلى أن الصراع السياسي والعسكري في المنطقة من الأسباب الرئيسية التي تحول دون عودة الأهالي: "هناك سبع مجموعات عسكرية تتقاسم السيطرة على القضاء وتدعي تمثيل القضية الإيزيدية أو دعمها".
عن شبكة نيريج
اترك تعليقك