في رواية (الجحيم) للكاتب الفرنسي غاسبار كونيغ :

في رواية (الجحيم) للكاتب الفرنسي غاسبار كونيغ :

كيف تغير وجه الشر ؟!

ترجمة : عدوية الهلالي

من يقرأ هذه الرواية ، لابد وان يفعل ذلك دفعة واحدة ، لأن المؤلف موهوب جدا ، قلمه حاد ودقيق وحيوي بحيث يضفي على قصته ايقاعا حيويا عبر 144 صفحة ..

انه يحلل مجتمعاتنا الحديثة ويحكم على ماضيه بأثر رجعي ، وتتجلى موهبته في خوض هذه الرحلة ذهابا وايابا بين العام والخاص وبين الامور الكبيرة والصغيرة ، مايجعل من هذه الرواية قصة فلسفية حقيقية ..

علاوة على ذلك ، فإننا سنعرف من الصفحة الأولى ، ومن العنوان ذاته ، أين سيقودنا المؤلف غاسبار كونيغ وماذا يريد أن يظهر لنا ، فمن خلال مشاركة أفكار الشخصية الرئيسية ، سيكتشف القارئ الجحيم وهيئته الحديثة.وهنا تكمن أصالة الكتاب اذ نفض الكاتب الغبار عن الجحيم لتحديثه. فلا مزيد من النيران والمحارق ، ولا جلسات التعذيب الأبدية ؛ فقد غيرالشر وجهه للتكيف مع العصر.

تدور الاحداث في مكان يدعى ( الجحيم الآن ) وهوعبارة عن شبكة من المطارات حيث يجتمع حشد من الارواح الملعونة لتحصل عبر بطاقة ائتمان غير محدودة على كل الملذات التي طالما حلمت بها ..ولكن الرهيب في ذلك هو شيء واحد فقط ، فاذا كانت الروح الملعونة قادرة على السفر من مطار الى آخر فأنها هنا لن تكون قادرة على الخروج بل محكوم عليها بالتمتع بالمنتجات المعفاة من الرسوم الجمركية وصالونات التدليك والخدمات الفاخرة الى الابد ، تحت ضغط الرحلات الجوية التي يجب القيام بها كل يوم من بقية المسافرين ..

بالتدريج ، ما كان حلمًا – وهوامتلاك كل شيء ، واستهلاك كل شيء - يصبح كابوسًا حيث يصبح الجميع عبيدًا لنظام معياري بشكل كامل ومثالي لتعزيز الاستهلاك.وهنا يتوقف الناس عن الاستمتاع حقا بما حولهم خاصة وان الاستهلاك غير المحدود مخطط له تماما ويحرمهم من ( حرية الاختيار)..

لذلك نتساءل عند قراءة الرواية، ما هو العامل المشترك هنا بين الجحيم والمجتمعات التجارية ؟ ولايسع القارئ الدؤوب للكتب الاقتصادية والأشخاص المطلعين على الفلسفة الليبرالية إلا أن يندهشوا ،فلا شك في أن المؤلف لا يحاول إعادة تأهيل الليبرالية من خلال لعب دور الناقد بنفسه.لأن لاشيء يشير الى ان غاسبار كونيغ يفسح المجال لمثل هذه اللعبة بل ربما يحاول مناقشة الاقتصاد والفلسفة الليبراليين كما يبدو ظاهريا ..وبالطبع ، فان هذه رواية فلسفية وليست أطروحة اقتصادية، لذلك لا يمكننا أن نلوم سوء فهم الكاتب العميق لنظام السوق وبالتالي لما هو عليه المجتمع الليبرالي ، فمن المعروف ان الليبرالية تمنح السيادة للأفراد ، ولا يجبر فيها أحد على الاستهلاك ، والتوقف عن التفكير ؛ ولا أحد يجبر أي شخص على أن يكون في حركة دائمة ولا يغلق أي باب. على عكس ما يصوره هذا الجحيم الاستبدادي ، والذي يصف واقعا اشتراكيا اكثر مما هو تجاري ..

بالتأكيد ، لابد من تجنب التركيز على التفاصيل ، وإعطاء أهمية أكبر للقصة – في المطار - أكثر من الرسالة الأساسية –وهي ان الليبرالية خاطئة ، ولابد من العودة إلى الاقتصاد.ويبدو ان الكاتب اوصل رسالة خاطئة فلغرض الامتثال للنظام الليبرالي ، كان لابد من تغيير شيئين صغيرين: أن يكون لكل فرد الحرية في مغادرة المطار متى أراد ، أو التنزه أو تثقيف نفسه ، كما أن جميع المنتجين مهتمون حقًا باحتياجات العملاء. ولكن ، إذا لم يفعل غاسبارد كونيغ هذا ، فذلك لأنه يعلم جيدًا أن قصته لن تدورحينذاك حول الجحيم ، بل حول الجنة على الأرض. ، وهذا أمر لايسعى اليه من يناهض الليبرالية ...صدرت هذه الرواية مؤخرا عن دار اوبزيرفاتوار للنشر وحققت مبيعات جيدة ضمن الكتب الأكثر مبيعا لبدايات هذا العام ..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top