((الفن كترياق بصري لمرض الوجود)).. تأملات في تجربة الفنان المغربي بشير أمال

((الفن كترياق بصري لمرض الوجود)).. تأملات في تجربة الفنان المغربي بشير أمال

حيدر عودة

منذ معرضه الشخصي الأول سنة 1986 جذبت أعمال الفنان المغربي» بشير أمال»، المقيم في الدار البيضاء الإنتباه والإهتمام، لما فيها من تجريدية غنائية،

وحتى سنة 1991 حين عرض لوحاته بتقنية «الكولاج» والتقنيات الطباعية للمرة الأولى، وهو المتخصص بالحفر الطباعي، وأستاذ في مركز تكوين أساتذة الفنون التشكيلية لمدة ثلاثين سنة، قد منح تجربته الفنية عمقاً فكرياً ونظرة جمالية مع خبراته تقنية وبحثية أثرت عمله الفني ودفعته ليكون في مقدمة فناني الحداثة في المشهد التشكيلي المغربي والعربي.

ومن دون ضجيج أو تصديع إعلامي، ولا الدخول في متاهات فنون العروض الإستعراضية وغيرها من المسميات، التي، كما أرى، تبتعد عن جوهر الفن وأصله، يعد الفنان «بشير» اليوم واحداً من ملهمي الفن المغربي المعاصر، ففي لوحاته تلك كانت تشبه إعلاناً فنياً خاصاً بأن تقنية «الكولاج» لديه، ليست مجرد طريقة فنية أو مادة لبناء اللوحة فحسب، بل هي رؤية جمالية وفكرية تؤطر نظرته للعالم كفنان وللإنسان كقيمة وجودية أساسية، إضافة لتأطير عمله بالبحث الدائم عن القيم المتنوعة في التاريخ المصور والمنقول والمفقود، الذي يشكل منبعاً لرؤيته الجمالية وعناصرها الفنية، كأنه يسعى للحصول على لقيا عزيزة بين أكوام المتون والهوامش المهملة في التاريخ المكتوب والبصري واليومي، مستفيداً من تراكم طبقات المادة، على اختلاف خاماتها ودلالاتها وطاقتها الحسية، لينشئ منها قطعة فنية تختزل أو تنسج منها تلك الطبقات بما تخفيه من تواريخ وإيقونات وأشكال محلية أو إشارات إنسانية، مجتمعة في رؤية جمالية تشبه ترياق روحي وبصري يقدمه الفنان لعلاج الشعور بالإحباط أو الخراب الوجودي، الذي يتراكم مع الزمن بسبب المتغيرات الكبيرة في نمط العلاقات والمفاهيم ووسائل التواصل التي تدفع باتجاه تجريد العالم الحسي من غنائيته الضرورية، حيث يقف الفنان مدافعاً عن العالم منفرداً، إن لم يكن وحيداً، وعن الوجود الحقيقي للإنسان أمام وجود إفتراضي بجدارة.

يبدو أن «بشير» قد وجد في عملية «الكولاج» قدرة على نقل الأشكال والرموز والصور من زمن بعيد، كالتاريخ أو آخر قريب، كممارساتنا اليومية من أفعال وأنشطة ضرورية، إلى زمان صورياً ورمزياً آخر هو: العمل الفني، مع وجود الفنان كمبتكر ومراقب ودليل وخالق له، فالعمل الفني، قائم بذاته يُنتج بإرادة الفنان ليصل إلى المتلقي، الذي سيقرأ ويتأمل في تمثلاته المرئية وغير المرئية. من هنا، كما أرى، تأتي صعوبة وخطورة الخطاب الفني. فالتاريخ، مثلاً حاضر بقوة، إيقونياً وبصرياً، لإرتباطه بحياة الإنسان المعاصر، لكن الفنان هنا يحاول فك وثاق تاريخيته عنه وتحريره صورياً نحو مساحة فنية وجمالية جديدة، وإزاحة التأليه الراسخ في مخيال المتلقي من خلال لمسة السؤال الجمالي والوجودي معاً، ومن خلال البحث الفني، لتقديم خبرة بصرية ترتقي نحو قيم الجمال وعمق التأمل والتفكير في مفاهيم جديدة، يمكنها مواكبة متغيرات العالم وفهم جوهره. ويمكنني القول إن الفنان «بشير» لا يأمل من المتلقي أن يعتبر مصورات كولاجاته تكريساً للرموز والأشكال والصور المحلية بل تتعداه لما هو أعمق تفكيرا وأكبر دلالة، عبر تأمل جهده البحثي والتحضيري في العمل الفني ومعالجاته، لكي يجعل من تلك الكولاجات والرسومات المطبوعة وغيرها إيقونات جديدة خاصة به، يمكنها أن تسافر نحو فضاء حداثوي جمالي أوسع، أو تتحول لرموز فنية جديدة، قابلة للتحرر من الأُطر ومن مرجعياتها المحددة، نحو آفاق تأويلية رحبة. وإن أعماله تتنقل بنا، بخفة البساط الطائر ودقة نظرة الصقر، بين الماضي البعيد والحاضر القريب في لحظة فريدة لا يأفل الجمال فيها، شاخصة على أرض وجود مشفوع بقلق على مصير الإنسان أينما كان.

ظلت فكرة الوجود وما زالت تشغل الفن والفنان مثلما تشغل الفكر والفلسفة، وحاضرة بقوة في حياتنا اليومية، وليس مستغربا أن تحضر أيضاً في أعمال «بشير»، كأنه يضع المتلقي في مواجهة مباشرة وإيحائية في آن، مع صورة الوجود في عمله الفني. مستعيناً ببحثه الدائم في جوهر الوجود ومصير الإنسان، ومن خلال عناصر لوحاته يحاول أن يقدم تصوراً جمالياً آخر، فهو يستعين بمجموعة صور وأشكال دالة وشخوص ورسومات تشريح مثل: (القلب، العقل، النبات، البذرة، أجزاء من الحيوانات أو الطيور.. وغيرها) والتي يؤسس منها رؤيته الجمالية وموضوعه الفني، مع إجراء لعمليات إضافة مقصودة أو حذف ضروري، وإختزال للألوان والخطوط، فهو يؤمن بأن عمله الفني يقترب من كونه وسيلة تعليمية، وكفنان يوازي دوره «البيداغوجي»، ذلك الشخص الذي يرافق المتلقي ويساعده على فهم الفن والتعلم بشتى الوسائل وتنوعها، ويعيد له قدرته على إدراك الجمال والتأمل في أسئلة الوجود وصوره الخفية، كما لو أنه يشارك الأطفال لعبهم أو لحظات متعتهم في الخلق والدهشة والفرح.

وعلى نحو مواز، قد تشكل عملية التكرار، كإجراء قصدي/تأكيدي، في لوحاته عنصراً أساسياً في بنائها وتأسيس رؤيته، كما في تكراره لبعض الأيقونات الدينية، وصور لأشكال علمية، ورسوم توضيحية لأسلحة الدمار أو لرموز الحروب والصراعات من تاريخ ما، مع شروحات غير مكتملة تدور وسط فضاء لوني تتضح من تحتها طبقات لأشكال شفافة، وحاشيات لأرقام مختلفة التسلسل والحجوم، يحضِّرها بطريقة «الكولاج» أو بالطباعة، أو عن طريق رسمها مباشرة بخطوط خارجية تنظوي تحتها طبقات من الألوان والأشكال، مع تكرار أجزاء منها لتبدو كأنها تنسحب من فضاء اللوحة أو تتعلق فيه، بحسب الموضوع أو ضرورات الرؤية الفنية. فهي من باب تؤكد على قصديته وأسلوبه الخاص، ومن باب آخر فإن هذه الإستدعاءات أو الإستحضارات لأشكال وأساليب فنية بعينها، هي من أجل خلق حوارات وجمالية داخل تاريخ الفن نفسه، وطرقه التعبيرية وأساليب فنانينه، ومن أجل إدراكنا لمعنى الفن في صور حياتنا وارتباط الفنان الجوهري بالإنسان، الذي هو محوره الأساس وجزء لا يتجزأ من تاريخ الفنون، وإن إعادة إنتاجه بشكل جديد ومعاصر يعيد الإنتباه والإعتبار لجماليات الفن وغاياته الوجودية لحياة الانسان ومشاكله الجوهرية، كون الفن ترياق الأمل والسلام إزاء مرض الوجود الذي يعصف بأرواحنا التائهة في عصر معقد وسريع، يغيّب ذاكرتنا باستمرار.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top