الأدب أداة ترتقي بالدماغ البشري .. حوارٌ مع البروفسور أنغوس فليتشر

الأدب أداة ترتقي بالدماغ البشري .. حوارٌ مع البروفسور أنغوس فليتشر

أجرى الحوار : كيفن بيرغر

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

القسم الأوّل

نعيشُ الآن في عصرٍ أصبحت فيه الحقول المعرفية المتخصّصة أقرب إلى حفريات تنتمي لماضٍ مندثر ؛

وقد ترسّخت هذه الخصيصة المميزة لعصرنا بعد تعاظم أهمية دراسة الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية في صيغة نسقية شاملة، ولم يكن الأدب (الذي يمثل السرد هيكله الجوهري) بعيداً عن هذه المقاربة المعرفية ؛ فقد طالته تغييرات بنيوية كبيرة في الجوانب التالية على الأقلّ : ماهي طبيعة الفعالية السردية التي يتشارك بها كلّ الكائنات البشرية ؟ كيف تعمل اللغة كوسيط سردي في تمرير الخبرات البشرية بين البشر ؟ وماالعلاقة بين التخييل البشري والإبداع الأدبي ؟ قد تبدو هذه الاسئلة مثل كثير سواها من الأسئلة التقليدية ؛ لكنّ الأمر سيختلف إذا مادرسنا هذه الأسئلة في سياق نسقي يجمع بين الإجابات المتوقّعة بعد إخضاعها للكشوفات غير المسبوقة في علم النفس الإدراكي Cognitive Psychology وعلوم البيولوجيا العصبية الدماغية BRAIN NEUROSCIENCE وكثير من الجبهات العلمية المتقدّمة.

يقدّم الحوار التالي مقاربة غير مسبوقة نحو الأدب، يقدّمُ فيها البروفسور أنغوس فليتشر Angus Fletcher رؤية جديدة فيما يخصُّ الفعالية السردية وقيمتها المؤثرة في إعادة صياغة العقل البشري بما يجعله قادراً على الارتقاء في تناول الموضوعات العلمية في سياق عملية تخادمية يغتذي فيها الأدب من الكشوفات العلمية ويعيد ضخّ المؤثرات المستجدّة في الفعالية السردية بما يعزز الارتقاء بالعلم في نمطٍ من التغذية الاسترجاعية الايجابية، يضمّ الحوار كذلك مجموعة ثورية من الأفكار بشأن القيمة البراغماتية للأدب (بالمعنى المفيد لمفردة البراغماتية)، كما يصفُ فليتشر الفعالية السردية بأنها نمطٌ من الميكانيزم العقلي الناشئ عن عملية تطور بيولوجي.

البروفسور فليتشر معروفٌ برؤاه غير التقليدية في الأدب والممارسة السردية، ولعلّ معاينة عناوين بعض مؤلفاته تكشف لنا طبيعة رؤاه هذه :

- أعمال مدهشة : المكتشفات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيراً في تأريخ الأدب، 2021

- Wonderworks : The 25 Most Powerful Inventions in the

History of Literature , 2021

- الخيال التوبولوجي : كرات، حافات، وجُزُر، 2016

- The Topological Imagination : Spheres , Edges , and Islands , 2016

- الزمان، المكان، والحركة في عصر شكسبير، 2009

- Time , Space , and Motion in the Age of Shakespeare

- الاستعارة : نظرية النمط الرمزي، 2012

- Allegory : A Theory of Symbolic Mode , 2012

أقدّمُ أدناه ترجمة للقسم الأوّل من حوار حديث أجراه كيفن بيرغر Kevin Berger، المحرّر في مجلّة ناوتيلوس Nautilus مع البروفسور فليتشر. ظهر الحوار في عدد المجلة المرقّم 97 والمنشور يوم 24 شباط (فبراير) 2021 تحت عنوان (الأدب يجب أن يُدرّس مثل العلم Literature Should Be Taught Like Science).

المترجمة

هبطت أعداد المقبولين في أقسام اللغة الانكليزية في الكليات والجامعات (العالمية) نحو القاع خلال الخمس والعشرين سنة الماضية بكيفية تذكّرُنا بغرق سفينة بيكود Peqoud في رواية موبي ديك ؛ في حين تصاعدت أعداد المقبولين في الأقسام العلمية حتى تاخمت السماء. ليس هذا بالأمر المستغرب بل هو مفهوم تماماً ؛ فكلّنا نعرف أنّ إيلون ماسك وليس هيرمان ملفيل (مؤلف رواية موبي ديك، المترجمة) هو النموذج المعياري الذي يقود الاقتصاد الرقمي. « لكنّ لاينبغي للأمر أن يكون على هذه الشاكلة « : هذا مايصرّحُ به البروفسور أنغوس فليتشر Angus Fletcher، البالغ 44 سنة، وهو أستاذ اللغة الانكليزية في جامعة ولاية أوهايو OSU. فليتشر هو أحد (جماعة المنشقّين) الذين يعملون على مهمّة إعادة الأدب ليكون في قلب الحياة والثقافة المعاصرتين، وقد طوّر فليتشر مشروع خطّة طموحة تسعى لِـ « تطبيق العلم والهندسة في الأدب «، وتبدو معالم هذه الخطة في كتابه الجديد المسمّى أعمال مدهشة : الإكتشافات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيراً في تأريخ الأدب Wonderworks: The 25 Most Powerful Inventions in the History of Literature.

قبل أن يحصل فليتشر (المولود في إنكلترا) على شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة ييل الامريكية كان قد تحصّل على شهادة أولية (بكالوريوس) في العلوم العصبية Neuroscience، أعقبها مهمّة عمل بحثية لفترة أربع سنوات في مختبر للفسلجة العصبية في جامعة ميشيغان. تنقّل فليتشر بين المهن عندما أدرك أنّ البيولوجيا العصبية الخاصة بالدماغ لن تقوده بما يكفي لكي يفهم حاجتنا للقصص (الحكايات)، ويقول في هذا الشأن : « الخصيصة المميزة والفريدة للدماغ البشري هي قدرته الفائقة في روي الحكايات : قوّته في السرد، وفي خلق أنماط من المستقبل والحكي عن الماضي ؛ لذا فكّرتُ جدياً في التسجيل بقسم اللغة الانكليزية والتعلّم أكثر بشأن السرد «. يرى فليتشر أنّ الدماغ البشري كينونة ميكانيكية ؛ لكنه يؤكّد قناعته أنّ العقل لايعمل مثل حاسوب، وقد أوضح رؤيته هذه لقرّاء (ناوتيلوس) في مقالة خصصها لهم عنوانها (لماذا لن تكتب الحواسيب أبداً روايات جيّدة ؟)، أثارت موجة من التعليقات الحيوية.

يتناولُ كتاب فليتشر الموسوم أعمال مدهشة - المشار إليه أعلاه - تحليلات معمّقة لأعمال أدبية تشغل مساحة زمنية واسعة تمتد من الإلياذة حتى إيمّا (إحدى روايات جين أوستن، المترجمة)، والبحث عن الزمن الضائع، وصديقتي المذهلة (إحدى روايات الرباعية النابوليتية التي كتبتها إيلينا فيرانتي، المترجمة). يرى فليتشر أنّ كلاً من هذه الروايات إنما هي تمثيل لِـ « إكتشاف « ذي خصوصية فريدة من شأنها إلقاء ضوء غير مسبوق على الكيفية التي يستطيع بها الأدب (الرواية بخاصة) الكشف عن الحزن أو الكَرَب، أو خلق التعاطف أو البهجة. يكتب فليتشر في هذا الشأن : «كلّ واحدٍ من هذه الإكتشافات له غرض قصدي محدّد ؛ فقد تمّت هندسته بكلّ تعقيده المميّز الخاص به لكي يلامس أرواحنا بطريقة متمايزة عن كلّ إكتشاف سواه «.

كتابُ (أعمال مدهشة) عملٌ آسرٌ مثل شخصية كاتبه فليتشر الذي يتحدّثُ بحماسة ووضوح لهما القدرة على إصابة الآخرين بعدوى صحية. شرعتُ في حوارنا هذا عبر خدمة (زوم Zoom) الألكترونية بسؤال عن الإختلاف بين العقل البشري والحاسوب (وهو موضوع مقالته آنفة الذكر في ناوتيلوس)، ثمّ انعطفتُ لتناول رؤيته المثيرة للتفكّر العميق والتي من شأنها إعلاء قدر الانسانيات، مع التأكيد على أن يُدرّس الأدب مثل العلم.

الحوار

 هل أنّ الجزء الأكبر من الإختلاف الجوهري بين العقول البشرية والحواسيب يكمن في حقيقة أنّ الحواسيب تفتقد إلى الوعي ؟

- لا. أنا أميلُ صوب تعزيز الشواهد الميكانيكية بالكامل بشأن كتابة الروايات والأدب والسرد بعامة. الوعي يشبه الوجود في أبعاد متخيّلة، وهو (أي الوعي) قد يوجد، وليس الأمرُ مرهوناً بي لكي أقول أنه غير موجود ؛ لكني أستطيع القول الآن أنْ مامِنْ كائن بشري سيكون في استطاعته تقديم برهان صارم ومحدّد بشأن وجود الوعي أو عدم وجوده !. لماذا ؟ لأنّ الوعي معضلة ميتافيزيقية بطبيعتها. يوجد البشر في فضاء مادي (هنا مادي تعني نقيضاً مقصوداً لمفردة الميتافيزيقي، المترجمة)، والسبب الذي جعل العلم والهندسة تبلغان مرتقيات بعيدة هو أننا - البشر - تعاملنا مع معضلة الوعي على أساس كونها شيئاً عصياً على الاجابة المناسبة ؛ لذا أقول : من الممكن أن تكون الحواسيب واعية (أو ستصبح واعية)، وقد لايكون هذا ممكناً. هذا أمرٌ إشكاليٌّ لاأظنُّ أنّ أي أحد يستطيع بلوغ إجابة مناسبة له.

* كيف تقدّمَ العلمُ - كما قلتَ في جوابك السابق - بسبب كون معضلة الوعي الاشكالية غير قابلة لتفسير مقبول ؟

- دعني أضع الجواب في سياق المقاربة التالية : نستطيع الحصول على أي شيء (أو فهم أي شيء) نسعى له في العالم المادي من غير أن نحوز فهماً ناجزاً لمعرفة من أين يأتينا الوعي ؛ فماالذي يسوّغُ إذن كلّ هذه الطاقة التي صببناها صباً - ولم نزل نفعل حتى اليوم - في محاولة فهم أمرٍ عصي علينا ؟ السبب الأوحد الكامن وراء مسعانا هذا هو أنّ معضلة الوعي تثيرُ في البشر حافزاً روحياً ذا جذور دينية. الأمر هنا مثل البحث عن الرب، ذلك البحث الذي نعرف جميعاً إلى أين قاد الرهبان المكرّسين في العصور الوسطى.

 وأين أنتهى مسعى الرهبان هؤلاء ؟

- لم يتسبّب مسعى الرهبان في إكتشاف قوانين الديناميكا الحرارية (الثرموداينامكس)، أو إختراع الحواسيب، أو اكتشاف مفهوم التطوّر الناجم عن الانتخاب الطبيعي ؛ بل قادهم إلى حيث المزيد والمزيد من الدلائل الحجاجية Arguments (أي بمعنى كلامٌ فائض وحسب، المترجمة). أرى أنّ البشر يستطيبون الصراعات الجدالية حول كلّ معضلة لم تجد لها حلاً مناسباً لأنّ مثل هذه الجدالات تمنحهم شيئاً ما يفعلونه (بمعنى يتلهّون به) : ماهو أفضل فريق كرة سلّة ؟ ماهو مصدر الوعي ؟ وسواها من الجدالات. إذا مااستثنينا التسلية اللطيفة التي يمكن أن تجيئ مع مناقشة موضوعة الوعي فإنني أرى أنّ الوعي لن يكون موضوع مساءلة بحثية علمية جادّة.

 أتراك تقولُ أنّ دراسة الميتافيزيقا لم تتسبّب في أية تطويرات ارتقائية في العلم ؟

- هذا صحيح تماماً. هذه هي السردية التي أسعى لإخبار الجميع بها. كان الناس في العصور الوسطى مهجوسين بطرح الاسئلة وحسب : من هو الرب ؟ ماذا يريد الرب ؟ ؛ لكننا إكتشفنا مع الوقت - ابتداءً منذ ميكيافيللي وحتى فرانسيس بيكون والثورات العلمية التي حصلت في القرنين التاسع عشر والعشرين - أنّ العقل البشري لايستطيع بلوغ إجابات مناسبة لمثل هذه الاسئلة ؛ هذا لأنّ العقل البشري قد تطوّر لكي يمارس العلم (وليس التفكّرات الميتافيزيقية الخالصة، المترجمة). العلم يختصُّ بوضع الفرضيات واختبارها في عالمنا المادي، وهو ليس مسعى يبتغي بلوغ أهداف ميتافيزيقية، والأدب - كما أرى - هو أصلُ المنهج العلمي الحديث.

يتبع القسم الثاني

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top