قراءة في كتاب: في قلب البحر، مأساة الحواتة إسّكس

قراءة في كتاب: في قلب البحر، مأساة الحواتة إسّكس

رنيم العامري

في عام 1821 كانت سفينة صيد الحيتان (الحوّاتة دوفين) تبحر بالقرب من ساحل تشيلي، عندما صادف بحّارتها مشهداً لن ينساه أيّ منهم إلى الأبد.

كان هنالك قارب طافياً بجانب سفينتهم، ظنّوه في البداية مهجوراً، كان بأشرعة ممزقة ويبحر بلا هدى. عندما دنا القارب بحيث صار بإمكانهم أن يطلّوا عليه من فوق سطح سفينتهم، رأوا عظاماً بشرية مبعثرة على سطح القارب، ورجلين نحيلين بِأعيُن جاحظة، وقد غطت القروح جلديهما، وتيبّس شعر لحيتيهما حتى صار عجينة من الملح والدماء، كانا يمتصان عظام رفاقهما الأموات. فما الذي حدث؟

طوال 180 عاماً، كان كل ما عُرف عن نكبة (الحوّاتة إسّكس) جاء عن طريق (أوين تشايس)، ضابط (الإسّكس) الأول. ولكن في العام 1960 عُثر بالصدفة في عُليّة منزل على مذكرات صبي السفينة (توماس نيكرسون)، وعندها اكتملت الحكاية.

في القرن التاسع عشر، ومع ظهور الثورة الصناعية بدأ العالم يحتاج إلى زيت لتشحيم المكائن وإضاءة القناديل في الشوارع. ومن جزيرة صغيرة تدعي (نانتوكت) على ساحل (نيوإنغلاند) الأمريكي، كانت تنطلق المراكب التي تصيد الحيتان التي تدعى بالحوّاتات -مفردها حوّاتة- إلى أصقاع العالم المائي، وتظلّ مبحرة بعيداً عن البلاد في رحلات قد تربو على الثلاثة أعوام، لتعود محمّلة –إذا كانت محظوظة- بأطنان من زيت حيتان العنبر.

في صبيحة يوم 23 شباط من العام 1821، مضت (الإسّكس) في رحلة ستكون الأخيرة، بطاقمها المكوّن من عشرين حوّاتاً -صياد حيتان- إلى بحر الزيت الحيّ لحصاد حيتان العنبر التي يعجّ بها المحيطان الهادئ والاطلنطي، كانت سفينة قديمة لكنّها حسنة الطالع. فقد مخرت البحر قرابة العقد والنصف، لتعود من كل رحلة تستغرق الواحدة منها سنتين بكمية من زيت العنبر، كافية لجعل مالكيها أغنياء. كتب (نيكرسون): «رغم سوادها وقبحها، لم أكن لأستبدلها ولو بقصر».

لكن رحلة (الإسّكس) كانت منذرة بالشؤم. فبينما كانت تستعد للقيام برحلتها ظهر في السماء مذنّب عظيم. وكما هو معروف بين المجتمعات المؤمنة بالإشارات، فإن ظهور المذنبات دلالة تنبّئ بحدوث حدث غير متوقع. ثم ظهرت أسراب من الجراد فجأة في حقول اللفت. وكان هنالك حديث بين البحارة عن وجود «وحش بحري غريب» يشبه الثعبان بعينين سوداوين وجسد بطول خمسين قدماً يجوب سواحل (نيوإنغلاند). ولكن ثمة أمور أخرى أكثر عقلانية تتعلّق بمأساة (الإسّكس)، فقد كانت السفينة منهكة من رحلات الإبحار الطويلة، ومع ذلك لم يقبل المُلّاك إنفاق أموالهم لإصلاحها. وكان قبطانها (بولارد) الشاب، قبطاناً لأول مرة، بلا خبرة. إضافة إلى أن طاقمها لم يكن مكتملاً. وما كادت السفينة تبحر حتى ضربت البحر عاصفة هوجاء، كادت أن تغرق السفينة بسبب عناد قبطانها الغرّ. ومع سفينة متهالكة أصلاً فقد ازدادت خراباً بسبب عنف العاصفة.

ومع ذلك استمرّت السفينة بالإبحار معتمدة على «الحظ والعناية الإلهية». في يومٍ ما، وبينما كان الحوّاتون منشغلين برمي الحرابين –مفردها حربون، حربة صيد الحيتان- على الحيتان الهائجة، كان هنالك حوت، يبلغ طوله خمسة وثمانين قدماً ويزن ثمانين طناً، يتصرف بغرابة، لأنه بعكس بقية الحيتان التي تفرّ من الموقعة التي اختلطت بها الدماء والأمواه في مشهد كأنه خرج من أحد فصول جحيم دانتي، كان هذا الحوت يقترب ببطء وبعناد من السفينة ثم فجأة تقدّم بسرعة وصدم السفينة برأسه لعملاق المغطى بالندوب. ذُهل البحارة لأنه لم يُسمع من قبل بحوتٍ يهاجم سفينة، لكن الحوت لم يكتفِ بذلك، فبقي يدور حول السفينة وهو يضرب بذيله العملاق الماء غاضباً، عندها صاح أحدهم: «إنه يتجه ناحيتنا مرة أخرى!». يقول (تشايس) في مذكراته: «استدرتُ لأرى مشهداً من الغضب والانتقام» سيطارد مخيلته طويلاً. انطلق الحوت بضعفي سرعته ونطح السفينة التي تزن 238 طناً.

هذهِ الحادثة التي ألهمت (ادغار آلان بو) في كتابة روايته الوحيدة (حكاية آرثر غوردون بيم من نانتوكت)، والتي كانت مشهد الذروة ونهاية رواية (موبي ديك) لـ(هرمان ملفيل)؛ لم تكن سوى بداية المأساة لقصة (الإسّكس) الحقيقية. ولكن مأساة (الإسّكس) لم تقدّم لملفيل نهاية عظيمة لروايته فحسب، فهنالك مسائل عرقية وطبقية ودينية وأسرار زوجية نكتشفها كلها في هذا الكتاب، كما سنكتشف الحدود التي يتقبّل الإنسان اجتيازها لكي ينجو.

في حوار مع مؤلف الكتاب في الموقع الإلكتروني الخاص بهِ، يقول: «حكايات النجاة تزيل وسائل الراحة المعاصرة. فجأة كل التكنولوجيا والتطور في العالم لا يعنيان شيئاً. أعتقد أننا كلنا نتساءل بعد قراءة قصة نجاة، ماذا كنتُ سأفعل في هذه الحالة؟ هل كنتُ سأفعلها؟ هنالك جزء منا يشعر بأن وجودنا المدلل في القرن الحادي والعشرين هو نوع من الكذب على ما أعتقد».

في هذا الكتاب الصادر بالعربية عن دار كلمات الكويتية العام الماضي، والفائز بجائزة الكتاب الوطني الأميركي لعام 2000 عن فئة الرواية الواقعية، والذي بقي لفترة 40 أسبوعاً على قائمة (نيويورك تايمز) الأكثر مبيعاً، يقوم المؤلف (ناثانيل فيلبريك) بإحياء قصة طاقم (الإسّكس)، في عمل رائع دقيق ومفصّل، بُحث بدقّة وكُتب ببلاغة وتُرجم بحذق. إذ نتتبع مع المؤلف كل حكاية وكل إشارة، مكتوبة أو مروية، ببراعة وذكاء، لا يمكن للقارئ خلال كل هذه المرويات أن يضلّ طريقه، رغم كثرة الإشارات والمصادر. يقول المؤلف في نفس الحوار على موقعه الألكتروني: «لقد أغرقت نفسي في كل ما سجَّلته الوثائق عن حوّاتي ذلك الزمان، قرأت عن أكل لحوم البشر والنجاة في البحر، وعن سيكولوجية التضور جوعاً وفسيولجيته، والملاحة، وعلم المحيطات (أوقيانوغرافيا)، وعن سلوك حيتان العنبر، وبناء السفن؛ قرأت عن كل ما يمكن أن يساعدني لفهم ما مرّ به هؤلاء الرجال التائهين في محيط واسع لا يغفر ولا يرحم». سيقودنا المؤلف مثل دليل محترف عبر هذهِ العوالم المرعبة التي يمكن أن يضيع فيها البشر بلا دليل بسهولة. في الكتاب الذي يتضمّن مخططات للسفينة وأسماء طاقم البحارة وخرائط الإبحار وسكيتشات للحرابين تحت كل فصل وسكيتش لحوت العنبر في النهاية، في 14 فصلاً، وخاتمة تضم كل المصادر.

كان المترجم المصري (محمد جمال) خير مترجم لمثل هذا العمل، فقد كان حريصاً أشدّ الحرص على العناية بالكتاب، فاختار الكلمة المناسبة للمكان المناسب، وكان أميناً جداً ومخلصاً جدّاً للنص الأصلي، وذكياً في انتقاء عباراته، رغم أنّ المفردة –كما أتخيّل- لم تكن تأته بسهولة، لأن هذا النوع من النصوص يكون بين الأدبي والوثائقي، وحتى الجانب العلمي فيهِ أقرب إلى العاطفي.

كان كل مشهد في الكتاب ينبض بالحياة وأنت تقرأه، كأن الحوت بانتظارك أن تقلب الصفحة لكي يهوى بذيله على قارب التحويت فيحّطمه قاذفاً بالبحّارة إلى السماء. ثمة حيوية في وصف المشاهد، وهنالك انفعال أشبه بإجباري سيجعلك تقترب من الحدث أو حتى تشارك بهِ بشهقة خوف أو تنهيدة ارتياح أو حزن، كأنك تشهد حدوثه بأمّ عينيك.

هنالك فيلم انتج عام 2015 بعنوان (In the Heart of the Sea)، أو (في قلب البحر)، من بطولة (كريس هامسورث) بدور الضابط (أوين تشايس)، (توم هولاند) بدور صبي السفينة (توماس نيكرسون)، (كيليان مورفي) بدور (ماثيو جوي) الضابط الثاني، وغيرهم. يمكن لهذا الفيلم أن يأخذك إلى تلك الأجواء، رغم أنّه يهمل الكثير من التفاصيل التي لن تجدها إلا في الكتاب، لكنّ مشاهدته قد تكون تجربة جيدة. فعندما ترى أن الضابط (تشايس) في الفيلم يحمل في طية سترته دبابيس التثبيت البلوطية، فأنت وحدك إذا قرأت الكتاب تفهم ما هو معناها وما هي صلتها وأهميتها.

عندما يُسأل المؤلف هذا السؤال: «لقد أعدتَ إلى الحياة قصّة تاريخية ذات محتوى عاطفي ينافس الخيال السردي. هل شعرت أنك تكتب رواية؟»، يجيب: «أنا صحفي، لذا بدلاً من اختراع أي شيء، كالكاتب الروائي، حاولت أن أفهم ما حدث بالفعل.. كنتُ مهتماً بشخصيات الرجال، لذا قمتُ بالبحث خلال كل الوثائق لأعرف خلفياتهم. ونظرت إلى الدراسات العلمية الحديثة لأحاول معرفة ما الذي كان يمر به الطاقم، ليس فقط أثناء معاناتهم في البحر ولكن ديناميكيات البقاء على قيد الحياة. قاومتُ إغراء اختلاق الحوارات أو افتراض ما الذي كان يفكّر به الرجال، وأدركتُ أن هذه قصة رائعة ولم أرغب في أن يتدخل بحثي في دراما الحكاية. ووجدتُ أن المعلومات والمصادر لها قصّتها الخاصة التي لا تنتقص من دراما الحكاية بل تضيف إليها. لكنني لم أرغب في حشر الدراسات العلمية داخل الكتاب، وهذا السبب الذي جعل الملاحظات النهاية طويلة ومفصلة، لأنني أردت إزالة الجهاز العلمي الذي غالباً ما يقف في طريق الحبكة..».

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top