د. أحمد الزبيدي
ولعلك تطمئن كثيراً للرأي الذاهب إلى تقديم الطاقة الشعرية على بقية الأنواع الإبداعية في الثقافة العربية، أعني تقديمها زمنيّاً، فالشعر قدحتهم الإبداعية الأولى..
وقد لا نطمئن _ كثيراً_ للرأي الذاهب إلى أن الشعر العربي قد غادر البنى التأسيسية الأولى واستطاع أن يواكب الحياة الجديدة بمتغيرات ثورية خلقت تقاليد شعرية جديدة حديثة مستقلة عن مرجعيات البداوة : (( الشعر العربي شعر شهادة .. )) وما كان له أن يتجاوز وظيفته الرئيسة ( ديوان العرب ) فهو سجل الأيام والمآثر وما زال سجلاً للسلطة ومآثرها ! وما كان له أن ( يستقل ) في وجوده ويحرر كيانه من الأنساق الهادفة إلى تملّكه، وعليه فإن المحاولات الراغبة في تغيير بوصلته هي محاولات ( فردية ) تتحول شفرتها إلى طاقة سياقية، ولكن بعد أن يضمن السياق الانتماء إلى الأصول الثابتة.. وظيفة الشاعر رصد تفاصيل الواقع والشهادة له أو عليه بما يكتنزه من بصر وبصيرة، ونادراً ما نجد محاولات تسعى إلى رؤية استشرافية تتجاوز نمطية المحاكاة.. وإذا كان ( أبو تمام قد حرر الشعر من الشكل الجاهز فإن أبا نواس قد حرره من الحياة الجاهزة ) فهل أسهمت المحاولتان في صناعة رؤى شعرية مستقلة وهل اعترفت السلطة النقدية بريادتهما الأسلوبية والثقافية ؟! أيمكن للريادة أن تتعدد بزمن واحد بأسماء متعددة وأساليب مختلفة ؟ أيمكن أن تتعدد مركزيات القرار ؟
وقامت ( الحداثية M0dernism ) على ضدية المحاكاة وترى أن العمل الأدبي ( يوجد ولا يعني ) وبعد كل المحاولات النقدية العربية الحديثة والمتغيرات الشعرية والجمالية في كل مراحلها الفنية والأسلوبية لنا أن نسأل بسؤال أدونيس: هل استطاع الشاعر العربي أن يدرك ( أزمته ) ويتجاوز تسجيل الواقع إلى السعي نحو ( خلق الواقع ) ؟ وهل لدينا شاعر له ( موقف ) : موقف من (الدين) من (الموت) من (الجنس) من (السلطة) من (الغيب)؟ ..ألدينا _ الآن _ شاعر مبدئي استطاع أن يمنح القصيدة وظيفة معرفية أكثر من وظيفتها ( الغنائية ) ؟ .. لا أعني أن يقتل الشاعر الطرب الموسيقي للقصيدة وضجيج التصفيق له في قاعة الشعر والريجيم البلاغي وتخفيف المكياج الجمالي، ولكن أعني ملاصقة ( المناسبة ) لجمالية النص، بحيث يكون ( السياق ) الخارجي مرجعاً جمالياً بمختلف أصنافه : إيديولوجياً، اجتماعياً، سياسياً، دينياً... ترى لو أعاد النقد بعد مئات السنين قراءة قصائد تفطّرت أيدينا بالتصفيق لها فهل سيجد فيها جمرة شعرية متوقدة في داخل ( النص ) أم أنه بحاجة إلى استرجاع ذاته لهذا الزمن المشحون بالطائفية حتى يعذر إعجابنا ؟! وما يزيد ( النص) بلة أن النقد الجانح نحو المعيارية فإنه يتكلم ( عن نفسه ) أكثر مما ( يتكلم عن النص ) .. فإذا كانت الحداثة الشعرية العربية عاجزة عن مغادرة ( الغنائية ) فإن النقد العربي الحديث عاجز هو الآخر عن مغادرة ( المعيارية ) نحو ( الوصفية ) .. مازال الناقد يتوق إلى مدح النص الذي ( ينتمي ) إليه .
ولا شك في أن الأزمة الحقيقية هي أزمة ثقافية تعمّ متخلف الفضاءات العربية ومختلف اتجاهاتها ولم يكن الشاعر أو الشعر بمنعزل عن تلك الاتجاهات التي أصابها التكلّس الثقافي بل هناك الكثير من الشعراء المثقفين الذين يدركون أزمتهم وأزمة الشعر معهم غير أن هذا الإدراك لما يتحول إلى عمل مؤسساتي كردة فعل على التشظي الثقافي أو يصدر عن وعي ( قومي ) بأسس معرفية لا إيديولوجية . بمرتكزات إنسانية لا سلطوية، ولنتذكر جداً أن الحداثة ناصرت( الثقافة القومية ) الهادفة إلى احترام الهوية الانسانية المتحركة وليست الهوية المتصلبة التي مازالت تشم نفحات نجد وترى بعر الآرام في عرصاتها ..
اترك تعليقك