مُمَهّدات الحرب الأخيرة في فلسطين

آراء وأفكار 2021/05/18 10:12:03 م

مُمَهّدات الحرب الأخيرة في فلسطين

 د. جاسم الصفار

أدى التصعيد الحاد في المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل، الناجم عن خطط حكومة بنيامين نتنياهو لإجلاء الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية، في نهاية المطاف إلى تبادل ضربات صاروخية بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في غزة. فما هي الأسباب التي دفعت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الى ما وصل اليه؟

يعيش اليوم أكثر من 7.3 مليون عربي فلسطيني في المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها إسرائيل، هم إما مواطنون إسرائيليون، ويشكلون حوالي 1.5 مليون نسمة، أو سكان الضفة الغربية لنهر الأردن وغزة والقدس الشرقية، إلى جانب 7 ملايين يهودي إسرائيلي. لا يملك سكان مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية الحرية الكاملة بالتنقل داخل تلك المساحة الجغرافية، بل وحتى في حدود الأراضي التي تعود لهم، حسب اتفاقية أوسلو، بسبب انتشار المستوطنات الاسرائيلية على أراضيهم، أما قطاع غزة، فهو محاصر من قبل الجيش الاسرائيلي من البحر والجو والأرض.
بطبيعة الحال، في مثل هذه الظروف لا يمكن للاقتصاد أن يتطور في المناطق التي يسكنها الفلسطينيون، وهناك بطالة عالية بينهم. فبحسب مصادر محلية وأوروبية، إن 50٪ من الشباب في غزة عاطلون عن العمل، كما أن حوالي مائة ألف فلسطيني من سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية يعملون في شركات إسرائيلية ويتقاضون مقابل عملهم، كعمال غير مواطنين، أقل بكثير من العمال الإسرائيليين. وحتى العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية يواجهون التمييز الاجتماعي والاقتصادي.
حوّلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية إلى سجون ضخمة في الهواء الطلق، يسود فيها الفقر والعجز والمرض. وهذا ما دعا المبعوث الخاص للأمم المتحدة ريتشارد فولك لوصف النظام الاسرائيلي على أنه نظام استعماري قائم على الفصل العنصري. في مثل هذا الوضع المحتقن واللاإنساني دفعت أسباب عديدة، داخلية وخارجية، الى اندلاع حرب جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أحاول استعراضها بإيجاز.
أول تلك الأسباب، هو الشعور الفلسطيني بتخلي العرب عن قضية التحرير. فلم يعد من شك عند الفلسطينيين بأن مشكلة الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم لم تعد في مقدمة اهتمامات الدول العربية منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما تؤكده عملية تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية وردة الفعل العربية الرسمية على ما يسمى بـ "صفقة القرن". وقد أدرك هذا الواقع جيداً، منذ ذلك الحين، الطرف الإسرائيلي، ثم، ولو متأخراً، فهم الطرف الفلسطيني أن من تبعات اتفاقية أوسلو، تخلي العرب عن قسط كبير من التزاماتهم تجاه القضية الفلسطينية، بحجة أن الفلسطينيين هم الذين يقررون مصيرهم بأنفسهم وهم من يتحمل تبعات قراراتهم.
من مؤشرات هذا الواقع الجديد ما جرى في الجامعة العربية في أيلول من العام الفائت. فمع انشغال العرب بموضوع التطبيع، أو الاتفاق الابراهيمي، أعدت القيادة الفلسطينية مشروع قرار عرضته على الجامعة العربية لوقف التدهور العربي بالانجرار وراء مخطط التطبيع مع إسرائيل. إلا أن اجتماع جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب، في ذلك الحين، عجز عن اتخاذ قرار يدين الإمارات العربية المتحدة، ولم يحظ المشروع الذي طرحته فلسطين بموافقة غالبية أعضاء جامعة الدول العربية، الأمر الذي عزز حالة الإحباط والشعور بالعزلة من قبل الفلسطينيين.
تضاف الى ذلك مجموعة كاملة من العوامل الجيوسياسية المرتبطة بزعزعة استقرار دول عربية داعمة للقضية الفلسطينية، نتيجة لما يعرف جزافا "بالربيع العربي" والموقف الفلسطيني المرتبك حيال أحداثه التي كان لها تبعات وخيمة على القضية الفلسطينية، ففي العقد الذي انقضى منذ بداية سلسلة الاضطرابات السياسية في عام 2011، شهدت المنطقة حروبًا أهلية وصراعات داخلية وتدخلاً دولياً، ونتيجة لذلك، فقد الدعم العربي للقضية الفلسطينية زخمه، ولم تعد قضية تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة في جدول اهتمامات معظم القادة العرب، المثقلين الآن بتحديات محلية لا تنتهي.
التغيرات في الواقع العربي ساهمت إلى حد كبير في تغير الخطاب العربي بشأن القضية الفلسطينية. بل وأنها شجعت بعض الأنظمة العربية على البحث عن تسوية سريعة للمشكلة الفلسطينية التي طال أمدها وأصبحت، كما تظن تلك الانظمة، تعيق تنفيذ رؤيتها الستراتيجية السياسية الإقليمية، والتي تركزت، حتى وقت قريب، على التعاون من أجل عزل عدو مصطنع جديد، هو إيران، وكذلك معالجة التحديات والتهديدات الأكثر إلحاحاً بالنسبة لها.
هذا من جانب، أما من الجانب الاخر، فمع مجيء إدارة بايدن-هاريس، تأرجح بندول تعاطف واشنطن في الشرق الأوسط، ولو بصورة محدودة، تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية ومحمود عباس (الذي لم يستوعبه ترامب سابقا) كرئيس للسلطة الفلسطينية. فبعد تنصيب بايدن، بدأ الديمقراطيون في تدمير إرث ترامب في السياسة الداخلية بشكل سريع وحاسم. في الوقت نفسه، من الواضح أنهم لم يجرؤوا على تغييرات محسوسة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عدا ما لاحظه المراقبون من برود في علاقة بايدن بنتنياهو الذي يعتبره الرئيس الأميركي الحالي حليفاً لغريمه السابق دونالد ترامب. هذا الواقع الجديد خلق وهماً عند بعض الفصائل الفلسطينية بأن أمريكا ستعدل أخيراً في موقفها من القضية الفلسطينية، وإنها وإن لم تنصفهم، فهي لن تساهم في عدوان عليهم.
وعليه، فإن قرار إجراء الانتخابات قد يكون محاولة من جانب قيادتي فتح وحماس لإعادة الانتباه إلى المشكلة الفلسطينية وتأكيد للدول العربية عن استعدادهما للتضحية بطموحاتهما السياسية من أجل العودة إلى الهدف المشترك المتمثل في خلق دولة مستقلة، وفقاً للقرارات والمواثيق الدولية، مع عدم التفريط "باستقلالية القرار " و "وحدانية التمثيل" الفلسطينيين. تبعاً لذلك حدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 15 كانون الثاني 2021، مواعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية في 22 أيار و31 تموز على التوالي. مؤكداً على أن النواب المنتخبون سيكونون أيضاً جزءاً من المجلس الوطني الفلسطيني، الذي من المقرر أن تنتهي ولايته في 31 آب.
الا أن السلطات الإسرائيلية التي تعتبر القدس جزءاً من دولة إسرائيل، صرحت بأنها لن تسمح للسكان العرب في القدس الشرقية بالمشاركة في انتخابات السلطة الفلسطينية المعلن عنها من قبل محمود عباس، مما دفع رئيس السلطة الفلسطينية، الى إلغاء الانتخابات المعلن عنها لحين تراجع إسرائيل عن قرارها. أغضب الموقف الإسرائيلي الفلسطينيين وزاد من احتقان الوضع، خاصة في القدس.
وبالتالي، كان من السهل تطور هذا الاحتقان الى انفجار فلسطيني عارم إثر قرار السلطات الإسرائيلية بإجلاء العائلات الفلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. ولم يحتج الوضع لينفجر إلا لشرارة أطلقها المصلون المتجمعون في الحرم القدسي، في 7 أيار، يوم القدس، وخوفاً من اتساع موجة الاحتجاج الفلسطيني، اقتحمت الشرطة الإسرائيلية الحرم الشريف وفرقت المصلين، ملحقة إصابات متفاوتة الخطورة بمئتي فلسطيني.
كانت هذه الاشتباكات، القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقال، فقامت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة بإنذار السلطات الاسرائيلية بانها إن لم تسحب الشرطة والجيش الاسرائيليين من منطقة الشيخ جراح ومن الحرم القدسي بحلول السادسة من مساء 10 أيار فإنها ستقصف المدن الاسرائيلية. وبعد انتهاء المهلة، أطلقت المقاومة مئات الصواريخ على عسقلان وتل ابيب وغيرها من الأهداف التي صنفتها المقاومة كأهداف حيوية من النواحي العسكرية والاقتصادية. كانت تلك معركة لم تتوقعها ولم تعرفها إسرائيل من قبل، لا بل ولم تتوقعها حتى الشعوب العربية أو فلسطينيي الداخل الإسرائيلي. والاهم أنها أعادت الأمل الى شعب طمحت إسرائيل في أن تنسى قضيته ويبقى مشرداً الى ما لا نهاية.
وأخيراً، لابد من أن أذكّر القارئ بأن هناك مناطق على وجه الأرض يصعب فيها العيش لأن في تكوينها تهديد للحياة الإنسانية الطبيعية، منها سفوح البراكين وغابات الأمازون والقطب المنجمد الشمالي وكيب هورن وساحل اليابان والصحراء الكبرى. وبعد الحرب الأخيرة أصبح واضحاً أن إسرائيل بنظامها العنصري الصهيوني هي واحدة من تلك المناطق.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top