اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > زهير الجزائري: المنفى بالنسبة لي ولأجيال من العراقيين هو اقتلاع وليس اختيار

زهير الجزائري: المنفى بالنسبة لي ولأجيال من العراقيين هو اقتلاع وليس اختيار

نشر في: 22 مايو, 2021: 10:21 م

يرى أن الدكتاتور ما زال يحكم حاضرنا.. يتجدّد ويتناسل. وسوء الحاضر يجدّد الحاجة إليه

حاوره: علاء المفرجي

عرفت زهير الجزائري عندما كنت صبياً, يوم اقتنيت في منتصف السبعينيات روايته (المغارة والسهل) فقد كان زميلاً وصديقاً لشقيقي الكبير، وكنت حينذاك أعمل في إتحاد الطلبة، وهو الواجهة الطلابية للشيوعيين.. وكنت اتعمد في وضع هذه الرواية مع كتبي المدرسية، لأُعيرها لزملائي في المدرسة، وخاصة زملائي في اتحاد الطلبة.. وفي نهاية السبعينيات وبعد اشتداد الحملة القمعية ضد الحزب الشيوعي والحركة الوطنية، كان زهير الجزائري مختبئاً في بيتنا، المرصود أصلاً من قبل أجهزة الأمن، قبل أن يغادر الى بيروت، وأغادر أنا أيضاً الى بيروت لنفس السبب، وها أنا وبعد أكثر من أربعين عاماً أحاور الجزائري، لأقف عند محطاته الإبداعية والحياتية تلك.

 

القسم الأول

عاش طفولته في مدينة النجف مع أب علماني محتفظ بثقافة دينية، وتأثر بأخواله الشيوعيين الذين كانوا منخرطين في نشاط مع صعود الثورات الطلابية أواخر الستينيات، وانضم إلى المقاومة الفلسطينية وزار مقارها في دمشق وبيروت وعمّان بصفته صحافياً، مع تفكك حركة المقاومة عام 1970، عاد من بيروت إلى بغداد وجدّد صلته بالحزب الشيوعي العراقي، وعمل في مجلة (الإذاعة والتلفزيون). كما عمل في جريدة (طريق الشعب)، قبل أن تبدأ حملات القمع لليساريين في نهاية السبعينيات. حينها، اكتشف أنه ممنوع من السفر، فاضطر إلى الاختباء حتى استطاع مغادرة العراق عام 1979. رحل إلى لبنان وعمل في إعلام المقاومة الفلسطينية من جديد إلى أن جاء الاجتياح الإسرائيلي، واضطر إلى ترك بيروت باتجاه الشام، رحل إلى لندن في عام 1990، شارك في العديد في الأمسيات والندوات بالعراق.

من أعماله: في الرواية، “المغارة والسهل”، 1974، “حافة القيامة”، 1998، “الخائف والمخيف”، 2003، “حرب العاجز: سيرة عائد، سيرة بلد”، 2009، “أوراق جبلية”، 2011، "ضباب الامكنة" 2020، "يوميات الألم والغضب" 2021 ونتاجات أخرى: “الفاكهاني”، 1981، “أوراق شاهد حرب”، 2001، “المستبد: صناعة قائد – صناعة شعب”، 2006، “أنا وهُم 2003، “النجف: الذاكرة و المدينة”، 2013

 النجف التي خصصتها بكتاب رائع كمدينة وكذاكرة، حيث ولِدت ونضجت شاباً فيها ، وتشبعت بفضائها الحضاري، والاجتماعي، والسياسي ، هل أسهمت بصياغة شخصيتك الثقافية؟ وهل تحدثنا عن أبرز مصادر نشأتك الأدبية؟ وهل تركت أثراً كبيراً عليك؟

- طبعاً، كلمة أسهمت قليلة، بيني وبين النجف حين عدت إليها عام ٢٠٠٣، أكثر من ٤٥ عاماً من الافتراق. حين عدت إليها كنت أبحث عن المدينة كما المنقّب. أنقّب عن آثار المدينة القديمة وعن أثرها في داخلي، المدينة مشحونة بالرموز والأساطير، حتى لو كنت علمانياً، لابد أن تسمع وأنت في المدينة قصصاً مثيرة عن الجنة وأنهار العسل والحدائق والحور العين، ومقابلها والأكثر تأثيراً جهنم وطبقاتها السبع وما أنتجته المخيلة من وسائل التعذيب، ودائماً يكون الخوف أكثر وأعمق تأثيراً من الفرح.

النجف مليئة بالجن والقصص التي يرويها رجال المنبر، وهم أمهر الناس في المزج بين التاريخ والشعر والغناء للتأثير على الجمهور، التداخل والتعارض بين العلمانية والتديّن يبلغ مداه في هذه المدينة، أغلب العلمانيين، ومنهم والدي وخوالي انحدروا من صلب رجال الدين، وتمردوا على ثقافة آبائهم، منذ طفولتي كنت محاطاً بمكتبات ضخمة، مكتبات أقاربي ذات الأغلفة الجهمة التي تبحث في التفاسير والفقه وعلوم الدين، بينما مكتبة والدي تحوي كتباً ملونة وأغلفتها مرسومة بعناية، فيها قرأت آلام فرتر لغوته والكساندر دوماس و بلزاك، كما قرأت المنفلوطي وطه حسين ومجلات الهلال وسلسلة كتابي، هذه الكتب تركت آثارها العميقة في داخلي وقد حِرت في بداية شبابي بين أن أكون كاتباً أو رساماً.

في النجف تشكلت مجموعة من الستينيين، لا أُعدد الاسماء لأني سأنسى بعضهم بالتاكيد، نواة هذه المجموعة هي حميد المطبعي الخبير وعائلته في شؤون الطباعة، عبد الأمير معله ، موسى كريدي وأنا. كنا نصارع سدنة الشعر العمودي المتغلغل عميقاً في ثقافة النجف، ومعه سدنة الدين الذين حاربوا كل مظهر للتحديث، تميزت هذه المجموعة بإصدارها مجلة (الكلمة) التي تحوّلت الى وعاء للأدب الستيني العراقي. بهذا تميزّنا عن الجماعات الستينية الأخرى مثل جماعة كركوك والناصرية وبغداد. عشنا في تمرد متوتر، كلما هاجمنا المحافظون إزدّدنا تطرّفاً.

 نبدأ من (المغارة والسهل) روايتك، وهو الكتاب الوحيد الذي صدر لك في بغداد، والتي أرى فيها، بل وفي الأغلب من روايتك ، إنك تجّسر بين التسجيلي والروائي، فأنت تعيش التجربة لتنعكس كتابياً في أعمالك؟ ما رأيك؟

- (المغارة والسهل) هي أول رواية كتبتها تحت وطأة حدث عشته ثم عشت كوابيسه.

أحداث أيلول في الأردن عام ١٩٧١ـ هذه الرواية كانت فاتحة أعمال لاحقة، كلها مبنية على المشاركة في تجربة تراجيدية ثم تكتب عنها. عشت بعدها الحرب الأهلية اللبنانية ثم كتبت (يوميات شاهد حرب)، كتاب ( الفاكهاني) عن الغارة الإسرائيلية على محلة الفاكهاني في بيروت، بعد سلسلة زيارات للبوليزاريو كتبت مع فالح عبد الجبار كتاباً تسجيلياً عن حرب الصحراء، في بداية الثمانينيات شاركت مع البيشمركة في الحرب في الجبال العصية وكتبت (أوراق جبلية) ثم رواية ( مدن فاضلة) عن مجازر بشتاشان. وبعد عودتي للعراق عام ٢٠٠٣ كتبت عن وقائع العنف فيه ( حرب العاجز)، كتابة اليوميات اختلطت مع التغطية الصحفية في كل هذه الأعمال، أن تكون في قلب الحدث ثم تعيه لاحقاً وأنت تكتب عنه. في كل هذه الأعمال اعتقدت أن جوهر الإنسان الحقيقي يتجلى في الأحداث المصيرية التي تمتحن إرادته.…خلال هذه الأعمال كنت أحاول أن أُلغي البطولة المطلقة، فقد اعتقدت أن البطولة تكمن في الصراع داخل الإنسان بين خوفه وبين ما آمن به، بين الموت وأنت على حافته وبين قيم الجماعة التي تقاتل معها، كثير من التفاصيل والتعرجات الحادة في هذا التعارض، وهي مادة حيوية للروائي والصحفي تنطوي على أفعال وتراكماتها النفسية داخل من يشارك فيها، التسجيلي كلمة لا تتوافق كلياً مع هذا النوع من الكتابة لأن الكلمة تحولك الى شاهد خارجي في حين أن المشاركة في الأحداث تنطوي على إيمان داخلي وبها تتشكل خارطتك الروحية، وهنا أدخل في سؤالك التالي.

 كان لـ (المغارة والسهل) قصة أخرى في كتابتها ونقلها كمخطوطة الى العراق .. هلا حدثتنا عنها؟

- الجزء الأول من الرواية عشته في عمّان ثم عملت على اللاسلكي في بيروت وأنا اتابع الأحداث لحظة بلحظة، كل الذين انسحبوا تجمعوا في فندق القدس بدمشق داخل محطة الحجاز، دراما الهزيمة تجمعت في هذا الفندق وجدالات حول المصير تستمر كل يوم حتى الفجر، كنت اشارك في النقاشات وأكتب يوميات فتجمعت عندي مئات الصفحات من تسجيل الأحداث من الإحساس العميق بمرارة الهزيمة ومن انطباعات داخلية بما حدث كلها شكّلت مادة الرواية.

 تبدو من أكثر كتّابنا تأثرا بالمنفى، فانت خضت تجربته بعمق واتساع، تقول في أحد اللقاءات الصحفية: "سكنت خمسين بيتاً تقريباً. فحياتي في المنفى هي سلسلة انتقالات ، و لدي نوستالجيا للمكان وهاجساً وحنيناً إلى الأماكن السابقة التي تركتها...و في كل منفى، ومنفى داخل المنفى، أكوّن بيتاً" .. ما الأثر الذي أحدثه المنفى في نتاجك الإبداعي؟

- المنفى بالنسبة لي ولأجيال من العراقيين هو إقتلاع وليس اختيار، فعلى خلاف جيراننا المتوسطيين تفصلنا الصحراء وليس البحر، والبحر صلة بينما الصحراء عزلة، في الغالب كان لمنافسنا أسباب سياسية، لطالما حلمت ببلاد ينمو ويتنامى الكاتب فيها ( مثل نجيب محفوظ وعلى عكس غائب طعمه فرمان) مع تاريخ البلد اليومي والمحيط الاجتماعي في انسجام. عشت في منفاي الأطول في لندن إزدواجية كوني هنا وهناك في نفس الوقت أنا هنا في هذه المدينة الغريبة عني لغة وثقافة وجمهوراً، وفي نفس الوقت أنا هناك تحت ما سماه سعدي يوسف ( السماء الأولى). ذاكرتي وتاريخي الشخصي هناك وموضوع كتابتي هناك وقارئي هناك. خلال الكتابة يحدث عندي انفصال. أنا هنا جالس في المقهى أو في البيت أرفع رأسي عن شاشة الكومبيوتر فأرى من وراء الزجاج مدينة مضبّبة وسماء غائمة ومطر يشحّ بلا توقف، في نفس الوقت أكتب عن مدينة أخرى بعيدة تسخنها شمس حارة وغبار، أعمل في ذاكرتي لكي أكون هناك، وبصعوبة أستحضر المكان وقد انقطعت عنه لما يقارب العشرين عاماً، واستحضر الشخصيات وملامحها وأدري أن أولئك الذين أعرفهم تغيروا كلياً عما عرفتهم. أستحضر المكان ومن فيه بإرادة مسبقة، التذكّر نفسه يستحيل الى موضوع فيعطي للكتابة بعدين، التذكّر والموضوع. في التذكر شحنة عاطفية سميها نوستالجيا، وفي الموضوع هناك بحث.

 هل لنا أن نسمي روايتك (باب الفرج) رواية تاريخية؟ وهل المطلوب من الروائي أن يجعل عمله وثيقة تضاف إلى وثائق التاريخ الرسمي، أو يجعل السرد كما تعامل جورجي زيدان بأن جعل السرد في خدمة التاريخ؟

- في هذه الرواية طرقت باباً لم ألجه من قبل، في السابق كنت اكتب عن أحداث عشتها بدمي ولحمي و… وبعقلي. أن تعيش التجربة وتعيها. في هذه الرواية (باب الفرج) عرفت شخصياتها، وهم أجدادي وخالاتي، لكن الأحداث تسبقني بكثير، لأول مرة أكتب عن أحداث لم أعشها، حدثت قبل مولدي بعقود. سبق الرواية بحث طويل في التاريخ. وكما تعلم فإن التاريخ يتجاهل التفاصيل اليومية، وهي المادة الأساسية للروائي. التاريخ يتجه للخلاصات والنتائج العامة ويتجاهل القاع الاجتماعي والوقائع اليومية ، كتب التاريخ تلخص فاجعة الطاعون بجمل قليلة (أصاب الطاعون المدينة واستمر شهراً وسقط .. من الضحايا). أنا بحثت عن مذكرات ناس عاشوه وتحدثوا عن الأوهام والأدعية التي استخدمت لمواجهته، واكتشفت، ونحن نعيش فترة الكورونا ، إننا ما زلنا وسط الأوهام. في هذه الروية لم أتقيد بالتاريخ الرسمي في الكتب، إنما صنعت تاريخي الخاص من خلال سارد داخل الرواية، يطير فوق الأزمنة والأمكنة. الرواية تدور في الفترة ما بين احتلالين، عثماني وانكليزي، لكن أحداثاً قبل ذلك وبعدها بعقود تدخل في الفترة الزمنية للرواية، تدخل متزامنة وليست ذكريات، تسجيل نعم، لكن المخيلة حاضرة في رسم الشخصيات وفي ابتكار أحداث لم تحدث. ماذا تسمي ذلك؟

 يكاد (الدكتاتور) قاسماً مشتركاً في أغلب أعمالك، وترى أنه " واحد بينهم وهو كلهم في نفس الوقت .. هل هو انتقام كتابي منهم أو تصفية حساب معهم؟ و في كتابك (أنا وهم) تكتب أن الضباط الذين حكموا دولاً عربية عدة قد جاءوا من مناطق صحراوية أو قرى نائية منسية، فعملوا على هدم وتخريب ما فيها من مؤسسات وتنوّع وغير ذلك، وسعوا إلى فرض ما اسميته (التماثل القسري) على المجتمع... ما تعليقك على ذلك؟

- لقد انتهك الدكتاتور بحذائه الثقيل الجزء الأكبر من شبابي وما زال يخيم على شيخوختي. لم يمضِ الدكتاتور، لا في الحياة الحقيقية ولا في مخيلتي. أفز من نومتي دائماً حين أرى نفسي في الكابوس وقد انكشفت ممدداً على الأرض، وهو ( الدكتاتور) وأقف بطول قامته وبدلته العسكرية ونياشينيه الكثيرة، وأقف عند رأسي، وحماياته يقرؤون له ما كتبته عنه. في الحياة العادية أراقب من خلال الصورة طريقة سلوكه وهو يحضر اجتماعاً للقيادة وأراقب سلوك الإذعان الذي يسيطر على الجميع بحضوره. أسأل نفسي باستمرار: أيهما يصنع الآخر، الجمهور الذي أدمن الإذعان ، أم إن الدكتاتور يصنع بالخوف جمهوره؟ استغرق الدكتاتور مني٣٥٠٠ صفحة فولسكاب و ٦ كتب ( المستبد، حافة القيامة،الخائف والمخيف، أنا وهم، جزء كبير من حرب العاجز ووراء الرئيس الهارب) ومقالات عديدة. أردت بهذه الكتب أن اتخلص من وجوده كسرطان في داخلي ،ولكنه يتناسل ويتجدّد في الحياة وفي داخلي .

لم أفكر،وأنا اكتب عنه، بالانتقام، إنما بأن أنزعه من داخلي. في روايتي (حافة القيامة) رسمت له نهاية رمزية: أن نضعه داخل منصة زجاجية عالية وسط الساحة، جالساً بمهابة متوهمة على كرسيه الذهبي. يأتي طلاب المدارس الصغار لمشاهدة هذا الديناصور وتشرح لهم معلمتهم أفعاله، لا يسمع وهو داخل درعه الزجاجي ما تقوله المعلمة ولا ما يعلق تلاميذ، إنما يصغي لخطبه مسجلة.

لكن على خلاف ما تخيلته ما زال الدكتاتور يحكم حاضرنا. يتجدّد ويتناسل. سوء الحاضر يجدّد الحاجة إليه. لا نحتاج ونحن نكتب عنه إلى أن نتتبع نتاجات كتّاب أمريكا اللاتينية عن الدكتاتور. في أمريكا اللاتينية يجلس الدكتاتور على قمة هرم وتعزله عن الناس تحته صفوف متتالية من المراتب العسكرية. دكتاتورنا يجلس في مركز دائرة ويتصل بكل ما في محيطها ليتحكم بالتفاصيل،وهو أقرب إلى صورة الأب في العائلة المشرقية، يتحكم بسلوك أولاده في أدق تفاصيلها ويطلب منهم الطاعة المطلقة . هذا الأب القاسي يطلب الخوف أكثر مما يطلب الحب. الخوف يصنع التبجيل . لدينا هنا أمثلة واضحة ومتعدّدة عن الديكتاتور المشرقي وسلوكه الاستعراضي في منصة التحية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عبد الحسين رمضان

    اي لقاء جميل ورائع!

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

16-04-2024

التّجديدات مابعد الحداثيّة

لطفية الدليميأحدثت الطاقة الجديدة لرواية (الكومنولث Commonwealth) مفارقة صارخة مع ماكان يُوصف بلحظة (النضوب الأدبي)؛ ففي دول الكومنولث بدأ الكُتّاب يوظفون تجاربهم ويعتمدونها مصدراً لأشكال إبتكارية جديدة من الكتابة - الكتابة التي ستعمل في المقابل على تدعيم التغير الثقافي المطلوب في الوقت الذي واجه فيه الكُتاب خارج منطقة الكومنولث إحساساً عميقاً باللاجدوى وإستنفاد الغرض من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram