باليت المدى: تلفون من بيكاسو

ستار كاووش 2021/05/30 10:06:43 م

باليت المدى: تلفون من بيكاسو

 ستار كاووش

أسلوب التواصل والتعامل مع الناس يعكس شخصية وثقافة وتَحَضُّر الإنسان، وهو المرآة التي تَبَيِّنَ حقيقة الشخص للآخرين حتى لو توارى هذا الشخص خلف قناع أو لجأ الى مواربة، ومن البديهي لا تكون كل الساعات متاحة للاتصال هاتفياً بالآخرين، ولا جميع الأوقات مناسبة لطرق أبوابهم،

ومثلما هناك الكثير من الناس يتعاملون مع الآخرين بجمال قلَّ مثيله، فهناك أشخاص كثيرون أيضاً لا يعرفون مع الأسف ثقافة التواصل والتعامل مع الآخرين، وخاصة مع أولئك الذين لا يرتبطون معهم بروابط صداقة أو معرفة جيدة، ولا يهمهم سواء كان اتصالهم بهذا الوقت أو ذاك، فالوقت والظروف والمشاغل وحتى اختلاف التوقيتات بين البلدان وظروف العمل وعدم المعرفة المسبقة لا تعنيهم بشيء، ويمضون في تماديهم وهم يكررون ذلك بلا مبالاة ودون أن يرف لهم جفن، وكأن الآخرين وُجِدوا كي يصبحوا غنيمة لهم، وطرائد يصطادونها وقت ما يشاؤون، ليتمتعوا بنهش وقتهم وتعطيل لحظاتهم الخاصة. لذا أعجب كثيراً -مهما حاولت تعويد نفسي على تَحَمُّلُ التطاول والتطفل- أن يقحم شخص نفسه عليَّ بغتة دون (إحم ولا دستور) كما يقولون، وكأنه تربى معي على ذات البساط أو قاسمني غرفتي سنوات طويلة! وهكذا يتصل لا لسبب سوى أن لديه وقتاً فائضاً الآن، وعليَّ أن أتفرغ له في ذات اللحظة التي يختارها مهما كان ظرفي وكيفما كانت حالتي، لا يلوي على شيء مادام هو من يريد ذلك. لا أعرف متى يفهم البعض أن الوقت هو أهم هبة يمتلكها الإنسان وليس من اللائق سلبه منه عنوة دون سبب يدعو الى ذلك، وخاصة مع سهولة وانفتاح وسائط التواصل اللا إجتماعي على مصراعيها، حيث توهم الكثيرون -بقصد أو دون قصد- أن عملية التواصل مع أي شخص سهلة ومتاحة على مدار الساعة حتى وأن لم يربطنا به أي رابط.

ومثلما عانى الكثيرون من وطأة ذلك، فقد عانيتُ شخصياً أيضاً، بل عانيتُ كثيراً، وقد حاولتُ مرات عديدة أن لا آخذ الأمر على محمل الجد، لكن هذه المواقف أخذت تتكرر وتتجدد دون انقطاع، كأن يتصل بي صديق (إفتراضي) في منتصف الليل ويظل يحاول الاتصال وأنا نائم، ثم أصحو من نومي فزعاً وأجيبه، ليقول لي ببساطة بأنه قد اعجبه الحديث معي في هذا الوقت! ولا يتفهم ما سببه لي من إرباك ولا يرف له جفن حول ما سأعانيه كي أعود للنوم من جديد، وليس هذا حسب، بل حين أتردد بالإجابة على بعض الأسئلة التي ليس لي أية علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد، يقول لي مؤنباً (دا أحس...شكلك تريد تصرفني!) أو تأتي رسالة من صديق افتراضي آخر يقول فيها بأنه جاء الى أمستردام وينتظرني في محطة القطار، وعليَّ أن أحضر له خلال نصف ساعة، وحين أخبرهُ بأني أعيش في شمال هولندا وأحتاج ان أقضي نصف يوم (وليس نصف ساعة) حتى أصل اليه، كذلك أحتاج لبعض الوقت لتهيئة مكان لمبيتي سواء كان فندقاً أو عند صديق لصعوبة العودة الى مدينتي في ذات اليوم، عندها لا يكفي بتذمره واستيائه من قلة كرمي، بل يكتب منشوراً على فيسبوك يشتم فيه من يعيشون في الخارج! أو يتصل بي صديق لم ألتقِ به سابقاً ولم اتواصل معه يوماً بالتلفون وأنا منغمس ومنسجم مع الرسم، ويحدثني وهو سكران في مكان يبعد عني بلدان وقارات، وغارق لحظتها بالشرب وليس هناك إيقاع مشترك بيننا لأنه لا يستطيع وقتها الإمساك بالكلمات بشكل جيد! وهناك من يتصل بي وأنا في الحمام، ويظل يرن ...يرن.... ويعيد الاتصال.... وحين اعيد الاتصال به مجدداً لأعرف ماذا يريد، يقول لي مستغرباً (هاي وينك؟) ألا تعرف ياعزيزي؟ إذا لم أرد عليك لحظتها، ألا يعني هذا اني منشغل بشيء ما؟ ألا تستطيع أن تقدر هذه المسألة البسيطة؟. الكارثة أن أحد الاصدقاء الافتراضيين جداً اتصل بي تلفونياً وأنا غارق حينها بلحظة حميمية خاصة جداً جداً (لا يمكن أن أذكرها هنا بسبب الحياء) وظل يتصل ويتصل. يعني شلون؟ بابا آني غارق، تعرف شنو يعني غارق؟ يعني لو بيكاسو الآن يطلع من قبره ويتصل ما أرد عليه.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top