العلمُ والأخلاقيات والحدود اللانهائية : ملائكةُ بروميثيوس في مواجهة شياطين فاوست - القسم الثاني

العلمُ والأخلاقيات والحدود اللانهائية : ملائكةُ بروميثيوس في مواجهة شياطين فاوست - القسم الثاني

لطفية الدليمي

العلم والأخلاقيات والمقامرة الفاوستية :

مشهدية تأريخية ومستقبلية

يمكن للعلم فيما لو طُبّق بصورة مثلى أن يوفّر مستقبلاً مشرقاً للتسعة أو العشرة بلايين من البشر الذين سيستوطنون الأرض عام 2050 ؛

لكن كيف السبيل الذي يمكّننا من مضاعفة فرص تحقيق هذا المستقبل البرّاق وفي الوقت ذاته تجنّب الوقوع في مهاوي المخاطر الكارثية النذيرة بنهايات ديستوبية ؟ تتشكّل حضارتنا بفعل مبتكرات خلاقة تنبثق من التطوّرات العلمية والفهم الملازم لها بشأن الطبيعة والذي لايفتأ يتعمّق أكثر من ذي قبلُ، وسيكون العلماء من جانبهم بحاجة أعظم للتعامل مع حلقات أوسع من العامّة فضلاً عن توظيف خبراتهم بطريقة توفّر الإنتفاع المتعاظم منها وبخاصة عندما ستغدو سقوف المخاطر الممكنة عالية وتبلغ حدوداً واسعة النطاق. ثمّة تحدّيات عالمية غير مسبوقة تواجهنا اليوم، وتتطلّبُ هذه التحدّيات مؤسساتٍ عالمية جديدة تمتلك قدرات التمكين المعلوماتي بواسطة العلم الموجّه بطريقة جيّدة، وفي الوقت ذاته تمتلك القدرة على الإستجابة للرأي العام فيما يختصّ بالسياسة والأخلاقيات.

يعتمد عالمُنا بصورة متزايدة على شبكات معقّدة : شبكات نقل الطاقة الكهربائية، شبكات السيطرة على الملاحة الجوية، شبكة التعاملات المالية العالمية،،، إلخ، ومالم تكن هذه الشبكات تعمل بأقصى كفاءة ممكنة وقادرة على المطاولة ومواجهة المخاطر فإنّ الفوائد المتوقعة منها قد تصبح عرضة لتهديدات كارثية قد تعطّلها وتدفعها للإنهيار الشامل (رغم أنّ هذا الأمر نادر الحدوث).. عندما ندركُ القدرة المتعاظمة لكلّ من التقنية الحيوية والروبوتيات والتقنية السبرانية والذكاء الإصطناعي والإمكانيات غير المسبوقة التي ستكون لهذه التقنيات في العقود القادمة فليس بمقدورنا التغاضي عن القلق المستديم بشأن الكيفيات التي يمكن بها إساءة استخدام هذه التقنيات الجبارة.

تخبرُنا السجلات التأريخية حكاياتٍ عن « حضارات « إنكفأت بل وحتى إنهارت وانتهت إلى زوال. إنّ عالمنا الحالي مرتبط مع بعضه بشكل متداخل وكثيف بحيث أصبح من غير المحتمل أن لاتكون لأية كارثة تضرب أحد أجزائه مفاعيل خطيرة تشمل كل العالم في سلسلة من التداعيات المتسلسلة، وللمرة الأولى – ربما – نحن في حاجة للتأمّل الجاد في إمكانية حدوث إنهيار شامل (مجتمعي أو بيئي) يمثلُ تهديداً عولمياً خطيراً مهدّداً لوجود حضارتنا البشرية. يمكنُ لهذا التهديد الخطير أن يكون ذا صفة مؤقتة ؛ لكنه على الجانب الآخر قد يكون ذا مفاعيل تدميرية تتسبّبُ في عواقب بيئية أو وراثية خطيرة إلى حدّ أن الناجين من هذه العواقب المهلكة قد لايكونون قادرين على إعادة تخليق حضارة جديدة بالوتائر السائدة في وقتنا الراهن.

لكنّ هذه السيناريوهات تستحثُّ السؤال التالي : هل يمكن أن توجد مجموعة خاصة مستقلة من الوقائع المتطرفة التي قد تضع نهايتنا جميعاً. أو لنضع السؤال في صيغة أخرى : هل يمكن أن توجد كوارث محدّدة بمستطاعها وضع نهاية لكلّ البشرية بل وحتى كلّ أشكال الحياة التي نعرف ؟ الفيزيائيون العاملون في مشروع مانهاتن Manhattan Project (الخاص بتصنيع القنبلة الذرية، المترجمة) خلال الحرب العالمية الثانية أثاروا مثل هذا النمط من الأسئلة التي تنطوي على مخاوف بروميثيوسية : هل يمكنُ أن نكون واثقين تماماً من أنّ تحقيق تفجير نووي لن يشعل كلّ النطاق الجوي المحيط بالأرض أو المحيطات ؟ . نعلمُ اليوم وبطريقة مؤكدة أن ليس بمقدور سلاح نووي مفرد مهما تعاظمت قدرته التدميرية أن يستثير تفاعلاً نووياً تسلسلياً يمكن أن يدمّر الأرض أو الغلاف الجوي المحيط بها ؛ لكن ماذا عن التجارب الأكثر تطرفاً من تجارب تفجير القنابل النووية ؟ يسعى الفيزيائيون لفهم طبيعة الجسيمات التي تشكّلُ عالمنا وكذلك طبيعة القوى التي تحكمُ سلوك هذه الجسيمات، وهم (أي الفيزيائيون) متلهّفون لبلوغ أقصى مديات الطاقات والضغوط ودرجات الحرارة الممكنة، ولأجل تحقيق هذا الهدف فهم لايتوقفون عن بناء آلات ضخمة ذات تركيبات شديدة التعقيد، وأعني بذلك مسرّعات الجسيمات Particle Accelerators على شاكلة المصادم الهادروني الكبير LHC. أثار بعض الفيزيائيين إمكانية أن تتسبّب مثل هذه التجارب (الإشارة إلى تجربة المصادم الهادروني الكبير LHC) في حدوث شيء أكثر سوءاً بكثير مثل تدمير الأرض بكاملها أو حتى الكون بأكمله، أو قد ينشأ عنها ثقب أسود يبتلعُ كلّ شيء حوله. تبعاً لنظرية آينشتاين في النسبية العامة فإنّ الطاقة المستلزمة لتخليق أصغر ثقب أسود يمكن تصوّره تتجاوزُ إلى حد بعيد كلّ الطاقات التي يمكن أن تنتج عن مثل هذه التجارب ؛ لكن برغم هذا ثمة نظريات جديدة تفترضُ وجود أبعاد مكانية تتجاوزُ الأبعاد الفيزيائية الثلاثة التي نعرفها، وهذه نتيجة قد تتسبّبُ في نشوء حيز جذبي يمكن أن يتسبّب في تحوّل جسم صغير إلى ثقب أسود.

على صعيد التقنية البيولوجية يتوجّبُ على العلماء البيولوجيين تجنّبُ تخليق أجيال من الكائنات الممرضة المعدّلة وراثياً ذات التأثيرات شديدة الخطورة على البشر، وكذلك يتوجّبُ عليهم تجنب التعديلات واسعة النطاق على التركيبة الجينية البشرية.

من جانب آخر يدرك المختصون السبرانيون المخاطر المحيقة بالانهيار المتسلسل للبنيات التحتية التي تديمُ حياة البشر في عالمنا، كما يدرك المبتكرون العاملون على تطوير تقنيات متقدمة في الذكاء الاصطناعي المخاطر التي قد تنشأ عن هذه التقنيات، ويتوجّبُ عليهم دوماً وفي كل الحالات تجنبُ السيناريوهات التي يمكن فيها للآلة أن “ تسود العالم “ . يميلُ العديد منّا إلى استبعاد مثل هذه المخاطر واعتبارها خيالاً علمياً ؛ لكن متى ماعرف الجمهور الواسع المديات الخطيرة التي قد تبلغها مفاعيل هذه السيناريوهات الخطيرة وعندها لاينبغي استبعادها حتى لو كان الإحتمال الأكبر يرجّحُ عدم حصولها.

الأمثلة السابقة بشأن المخاطر الوجودية القريبة من السيناريوهات الكارثية توضّح بأجلى طريقة الحاجة إلى خبرة مشتبكة interdisciplinary فضلاً عن التفاعل المناسب بين الخبراء والجمهور العام. بالإضافة لهذا فإنّ التأكد من كون التقنيات المستجدّة يتمّ تطويعها بصورة مثلى هو أمرٌ يستلزم من المجتمعات أن تفكّر بطريقة عالمية وفي سياق بعيد المدى يتجاوز كل المحدوديات المحلية.

مستقبلنا البشري :

جانبٌ من لعبة المقامرة الفاوستية

يتناول البروفسور (مارتن ريس) في أحد فصول أحدث كتبه (عن المستقبل : آفاق ممكنة للإنسانية) الذي نشرته جامعة برينستون عام 2018 المخاطر الوجودية الحقيقية المحيقة بالبشرية، وفي سياق متصل بهذه المخاطر يرى البروفسور ريس ضرورة أن نتفحّص الأولوية التي ينبغي تخصيصها لموضوعة تجنّب هذه المخاطر الكارثية الحقيقية، وأنّ هذا الأمر يعتمدُ على سؤال أخلاقياتي سبق أن كان مدار مناقشة مستفيضة من جانب الفيلسوف ديريك بارفِت Derek Parfit، وجوهر هذا السؤال هو حقوق هؤلاء الذين لم يولدوا بعدُ. يكتب البروفسور ريس بهذا الشأن موضّحاً المحاججة الأخلاقياتية للفيلسوف بارفت :

(... تأمّل جدياً في السيناريوهين التاليين : السيناريو (أ) الذي سيتسبّبُ في موت 90 % من البشر، والسيناريو (ب) الذي سيتسبّبُ في موت 100 % من البشر. كم مرة ترى السيناريو (ب) أسوأ من السيناريو (أ) ؟ سيقول البعض أنه أسوأ بمقدار الفارق الكامن في قيمة ال 10 % ؛ غير أنّ بارفت يقدّمُ رؤية جدالية مفادُها أن السيناريو (ب) أسوأ بما يستعصي على أية مقارنة رقمية لأنّ الانقراض البشري يضعُ نهاية لوجود بلايين (وربما حتى تريليونات) من البشر المستقبليين فضلاً عن العملية التطورية اللانهائية الكامنة في المستقبل مابعد الانساني Posthuman الذي قد يتيحُ إمكانية انتقال النوع البشري لحدود خارج نطاق الأرض. يوجّه بعض الفلاسفة نقداً لمحاججة بارفِت منكرين عليه أن يعتبر « البشر المحتملين في المستقبل « مُوازين في الأهمية للبشر الحقيقيين الذين نشهدهم في الحاضر، ويتجوهر هذا النقد في العبارة التالية : « نحنُ نسعى لجعل عدد أكبر من البشر سعداء وليس لتخليق عدد أكبر من البشر الذين هم سعداء في الأصل ! «.

لكن برغم كل شيء، وبعيداً عن هذه الألعاب الفكرية الخاصة بِـ « البشر المحتملين في المستقبل « فإنّ الأفق المحتمل لبلوغ نهايةٍ لقصة وجود النوع البشري سيُحزِنُ الكثيرين منّا ممّن يعيشون في أيامنا هذه. إنّ معظم البشر المدرِكين لثراء الإرث الانساني الذي تركته لنا الأجيال السابقة سيصيبهم الاكتئاب لدى معرفتهم بأنه لن تكون هناك أجيال بشرية قادمة (إشارة إلى الإنقراض البشري الناجم عن واحد من السيناريوهات الكارثية، المترجمة)، وحتى لو عقدنا رهاناً بشأن عدم إمكانية تجربة لمصادم الجسيمات أو كارثة جينية في وضع نهاية للوجود البشري فإنني أرى أنّ مثل هذه التصوّرات الكارثية تستحقُّ التفكّر باعتبارها سيناريوهاتٍ ممثلة لِـ « تجارب فكرية Thought Experiments “ ؛ إذ ليس لنا في وقتنا هذا مايمكن أن يمنحنا ثقة مؤكدة في أنّ النوع البشري سيتجاوز كلّ المخاطر الممكنة التي ستأتي بها التقنيات المستقبلية ؛ ولكن في كلّ الأحوال فإنه لمن الضرورات القصوى ذات الأهمية الفائقة أن نتفكّر في العبارة التالية : الأمور التي لم نعتد عليها لاتماثل الأمور غير المحتملة “).

إنّ مثل هذه الأسئلة الأخلاقياتية هي بالتأكيد بعيدة عن معضلات المعيش اليومي لغالبية البشر ؛ لكنها تبقى أسئلة جوهرية يتوجّبُ التفكّر الجدي بها على أوسع النطاقات الممكنة، ومن الأمور الطيبة وجود بعض الفلاسفة الذين يسائلون مثل هذه الموضوعات الإشكالية وإن كانوا في حومة مساءلاتهم تلك يمثلون تحدّياً للعلماء أنفسهم ؛ لكنهم (أي الفلاسفة) في كل الأحوال يقدّمون سبباً إضافياً يدفعُ باتجاه تناول جوانب محدّدة في العالم المادي والتي قد تبدو بعيدة عن نطاق اهتمامات الجمهور العام. إنّ مثل هذه الأفكار تقودنا من التفكّر في نطاق محلي ضيق إلى منظور كوني أكثر رحابة.

يتبع القسم الثالث والأخير

تعليقات الزوار

  • ثابت نعمان اسماعيل

    موضوع مخيف ،يحتاج الى مؤسسات دولية على شاكلة منظمة الامم المتحدة او منظمة الصحة العالمية ،وتكون قراراتها ملزمة لجميع شعوب الارض وذلك لتحاشي الكارثة في المستقبل البعيد .

  • منير الدبيسي

    جميل جدا أستاذة لطفية بانتظار القسم الاخير

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top