(حياة).. بورتريه للخلود

(حياة).. بورتريه للخلود

علي الياسري

من حافة الموت احد جذور تململه القلق ودافع نزعته للتمرد الى الوقوف على صخرة الخلود كأسطورة هوليوودية، رسم جيمس دين خط حياته القصيرة بسرعة سيارته البورش 550 سبايدر. صدى نجوميته الايقونية كممثل مُجدد صار رجعاً لصوت الشباب في حقبة الخمسينات بطموحه للتغيير والانعتاق من أسر صورة الحلم الامريكي.

بجانب افلامه الثلاث لم يكن لرمزية دين ان تتشكل لولا تلك الصور الفريدة التي ألتقطها المصور دنيس ستوك وفق مقاربة فوتوغرافية مختلفة عما هو سائد وقتها لحياة نجم السينما، بعيدة عن التصنّع وأقرب للواقع وطبيعة الشخصية. تقاطع مصائرهما اِلتقى عند رغبة كليهما بوضع معايير جديدة لعملهما، توحدت برؤية مستحدثة لمظهر الممثل الشاب القادم بقوة في سماء عاصمة السينما. على اساس العلاقة بين المصور الفوتوغرافي وموضوعه يقدم المخرج والمصور الهولندي انطون كوربين فيلمه (حياة). فبعد فيلمه الاول المميز (كونترول) والذي طرح فيه السيرة الذاتية لمغني فرقة (جوي ديفيجن) ايان كورتيس، يُظهر كوربين شغفه لإطلالة جديدة على حياة نجوم الفن. سيناريو الفيلم الذي كتبه لوك ديفيس تحول من سيرة عن جيمس دين إلى نظرة على التأثير المتبادل بين الشخصيتين. ليس بالأمر الغريب فكوربين نفسه مصور فوتوغرافي لمشاهير الفن قبل ان يكون مخرجاً، ومن هنا كان اهتمامه برصد تفاصيل العمل الذي انجزه دنيس.

في الاشهر الاولى للعام 1955 يلتقي ستوك مع دين في حفل اقامه المخرج نيكولاس راي لتنشأ بينهما علاقة تألف يدعو فيها جيمي المصور الى عرض لفيلمه شرق عدن. ينجذب ستوك الى الاداء المختلف للممثل الشاب ويدرك أن هناك نجمًا ساطعًا قادم بقوة على الشاشة العملاقة. يقرر صنع ملف مصور عنه لمجلة تايم، فيذهب معه برحلة امتدت لشهرين الى فيرمونت بولاية انديانا حيث نشأ دين صبيًا، ثم بعدها الى نيويورك المكان الذي درس فيه التمثيل وطبع خطواته الاولى على مسارح برودواي، ليعودا بعدها الى لوس انجِلس عندما صور دين فيلميه التاليين. كانت بغية المخرج اخذ المشاهدين في تجوال بصري يرصد لحظات عيش لافتة مع كل صورة، يُبرز من خلالها افكار المصور ومحاولته اِلتقاط العفوية بواقعية اكثر صدقاً دون تكلف الفعل والتصرف والاعداد. بورتريه حياتي يلتقي على سطح لوحته شكل وطبيعة السلوك الراسم لحدود شخصية جيمس دين، ليتبين من خلالها جوهر التفرد الذي جعل من هذا الشاب اليافع أيقونة على مر السنين.

سعى (حياة) ليقول لنا ان ستوك وجد في روح جيمي المتمردة والنزقة موضوعة مميزة يتجاوز من خلالها او بالأحرى يهرب باتجاهها من مشاكله الشخصية وعلاقته المضطربة مع طليقته وأبنه، باحثاً عن هوية فنية مختلفة اراد بها مسيرة مهنية اكثر من ناجحة. في جانب اخر يسلط الفيلم الضوء على دين كموهبة غير مروضة لا تشعر بالألفة مع محيطها. تقفز فوق واقعها بالتجاهل للأوامر وروتين السلوك الذي يحاول جاك وارنر فرضه عليه. موضحاً تعقيد العلاقة بين رغبة جيمس في ان يكون ممثلاً فقط ومسعى الاستوديو في تحويله لنجم وفق اشتراطاته. لكن السرد بدا مشتتاً الى حد ما لتحقيق التوازن بين الشخصيتين ليقع في مطب عدم الاغناء لكليهما. فهو يوثق مزاجية دين بيد انه لا ينجح كثيراً في تفكيك اسبابها. ويحاول في مشهد طويل اقرب لميلودراما بالية إحالة غُربة روحه وسأمه من رتابة الحياة لرحلته كصبي مع نعش والدته على القطار والتي ستزرع في ذاته كآبة سوداء تنعكس بشحوب الموت المجلل للذكرى الاليمة المصحوبة بضبابية المستقبل بتخلي الاب عنه. لقد تبدت الحياة وجوداً عبثياً ومضنياً لفتى قُمعت طفولته تحت سطوة الغياب الابدي. فمظهر جيمي بالصورة الشهيرة التي ألتقطها ستوك له في تقاطع التايمز سكوير وحيدا يرتدي السواد، ومنكمشا تحت قطرات المطر المٌضبب للخلفية اقرب لحقيقة روحه المتسربة من شفتيه مثل تلك السيكارة يضيع دخانها في حيرة عيونه المتعلقة بالأفق. كذلك يقف سيناريو الفيلم محدود القدرة على اغناء شخصية دنيس ستوك وخلفيتها الحياتية. يلتقط العديد من تفاصيلها دون ان ينجح في ربطها باتساق.

لم يستثمر النص السينمائي التجاذب بين الشخصيتين كثيراً، فظهر بارد غير محفز للشعور، يسير على حافة الحدث دون ان ينزل غالباً لوادي التفاصيل والاشتباك معها درامياً لاستنباط عمق المشاعر المكونة لهما ودوافع طموحهما وأسباب الرغبة بفعل ابداعي مختلف الا في مشاهد نادرة برزت بالنصف الثاني من الفيلم وأعطته الى حد ما حيوية.

واحدة من أهم مثالب الفيلم إهماله للصور التي التقطها ستوك لجيمي في محل التوابيت، وهو يستلقي في نعش. كان بوسعها اغناء الربط بين ثيمة الفيلم وصورته الختامية لمفارقة الموت والخلود، وتكثيف إحساس دين المتكون بداخله كعقدة منذ الطفولة. فالغاية كما يوحي لنا عنوان الفيلم هي الوقوف على محطات مسار حياة الشخصية وتفاعل عين وروح المصور معها.

مع ان الفيلم كإنتاج مستقل بميزانية مالية محدودة نوعا ما لكن تصميم الانتاج والازياء والديكور ينجح كثيراً في خلق اجواء الخمسينات لمقاربة السلوك الانساني وطبيعة المجتمع وتطلعاته وقتها ونمط العلاقات والموسيقى وكل التفاصيل الحياتية.

حاول الاداء التمثيلي لبطلي العمل الارتقاء فوق السيناريو، فسعيا باجتهاد لتقمص الشخصيتين وفق مقاربتهما الشخصية. فروبرت باتينسون يتقدم من دور لأخر في رفع مستواه والرد على كل الشكوك النقدية التي رافقت مسيرته السينمائية، وبتجسيده لشخصية دنيس ستوك حاول مُظاهرة العاطفة المكبوتة والطموح القلق وإحباطات العيش بذلك الهدوء الكاتم لما سلف. فيما سعى الممثل دين ديهان جاهداً لتقمص روح جيمي النافرة من محيطها والمنغلقة على ذاتها وحالة البحث الدائم عن شيء ما مفقود. لم ينجح كثيرا لانه افتقد جزئياً لهالة حضور الشخصية الرجولية لدين بسبب تلك النعومة التي تُغلف مُحياه.

(حياة) فيلم يحكي قدرة المصور الفوتوغرافي على حفظ معالم اللحظة الفارقة بكاميرته لكيان نجم سيبزغ لاحقاً في فضاء الثقافة الشعبية. اراده كذلك المخرج كوربين بدافع شخصي، غير ان توجيهه افتقد لاستمرارية الايقاع وحرارة العاطفة وظل اسير الفكرة دون ان ينجح كثيراً في تكوين كل معالم نبوءة الصورة الفوتوغرافية لعدم اغناءه الزمن اللازم لتثبيت وجودها الأيقوني.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top