الاشتراكية تعني فيضا من الديمقراطية - القسم الثالث

آراء وأفكار 2021/06/08 10:06:24 م

الاشتراكية تعني فيضا من الديمقراطية -  القسم الثالث

 رشيد غويلب

الحكومة والمجتمع المدني والتغيير الجذري

الدولة حالة فيزيائية للمجتمع - تمامًا كما ان هناك مادة سائلة وغازية وصلبة. مثل هذا الفهم للدولة يحمينا من الوقوع في المفاهيم الذرائعية والفوضوية والماركسية الساذجة عن الدولة. وبدلاً منه، يجب تتبع فهم ماركس نفسه للدولة كمشترك وهمي: إنه بالفعل ما نشترك فيه، ولكن في شكل احتكاري وإلى هذا الحد وهمي – بقدر ما يبدو ذلك متناقضا.

تعتقد الفوضوية وبعض ضروب من الماركسية أنه لا يتعين الاستيلاء على سلطة الدولة لأن السلطة الحقيقية تكمن في المجتمع. ولكن ما هو المشترك لسكان بلد ما لا يعود بالفعل الى الدولة؟ لغة، مؤسسات، تاريخ، وثروة طبيعية، ضرائب، حقوق، ونظام صحي - قد لا يأتي أي من منها من الدولة، لكن الأمر متروك للدولة. تمركز الدولة كل ما هو مشترك في المجتمع. ان الدولة تعني القدرة على احتكار وتركيز ما يأتي من المجتمع.

إن قوة الدولة أو ضعفها مشتق من المجتمع نفسه. في أمريكا اللاتينية، تم تأميم الموارد كلما قرر المجتمع أنها يجب أن نعود إلى جميع البوليفيين، وجميع الأكوادوريين، وجميع الفنزويليين. حتى قبل وصول إيفو موراليس، روفائيل وكوريا، وهوغو تشافيز إلى السلطة، بدأ الناس يفكرون بالتأميم. ثم تأتي إلى الوجود حكومة تقدمية. تؤمم الصناعات والموارد، فيتوفر مزيد من الأموال لبناء المدارس والمستشفيات، ودفع أجور أعلى، وأشياء أخرى كثيرة لتحسين حياة الناس. لكن المجتمع ليس لديه بعد أي سيطرة مباشرة على ثرواته، فهذه السيطرة في الاحتكار، الذي تمارسه الدولة. قد يشعر الناس ان الدولة تمثلهم، لكنه يبقى احتكار. هذه هي الحدود التي يمكن للحكومة التقدمية أن تتحرك داخلها.

لماذا لا تستطيع حكومة تقدمية أن تتجاوز ذلك؟ لماذا لا تتقدم إلى الاشتراكية؟ ماذا تعني الاشتراكية في الواقع في هذه الحالة؟ لم تعن الاشتراكية قط مجرد تأميم البنوك والشركات والمصانع. اتبعت كل من ثورة أكتوبر وكومونة باريس عام 1871 فكرة أن الاشتراكية لا تعني إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى السلع، بل تعني دمقرطة السيطرة على هذه السلع وملكيتها واستخدامها وإدارتها.

كيف تقدم هذه السلع المشتركة؟ بمرسوم تنفيذي؟ بالطبع لا ، لأن المرسوم التنفيذي هو أمر تفرضه البيروقراطية أو النخبة ، سواء كانت تلك النخبة شعبية أو ثورية أو أيا كانت. لقد تعلمنا من الثورات الاجتماعية في القرن العشرين أنه لا يمكنك ببساطة أن تدعي تمثيل الطبقة العاملة. لا أستطيع أن أفترض أنني أمثل الطبقة العاملة أو النساء أو السكان الأصليين. الحركة النسائية تنظمها وتقودها النساء، وحركة السكان الأصليين من قبل السكان الأصليين والحركة العمالية من قبل العمال.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت تجارب القرن العشرين أن الدولة لا يمكن أن تأخذ دور المجتمع في التحول. لا يمكن للحكومة أن تسلك مسارًا جذريًا إلا إذا أصر المجتمع عليه. والأمل ان تفعل الاشتراكية الديمقراطية ذلك وفق التوصيف الوارد أعلاه.

الرأسمالية وتقييد التحول الاجتماعي

عالم الاجتماع الأمريكي فريد بلوك يسلط الضوء على ما هو جوهري: بسعة الحجم الذي يظل فيه احتكار القطاع الخاص للاستثمار قائما، يمكن لرجال الأعمال اعلان اضراب رأس المال لإخضاع الحكومة التقدمية. لقد رأينا ذلك في تشيلي في عهد أليندي، ومؤخرًا في فنزويلا، ولكن أيضًا في مشاريع حكومية أقل جذرية. قد يجلب للتأميم مشاكله الخاصة معه، ولهذا يصبح من الضروري، وبشكل مطلق وضع الرافعات المركزية للسلطة الاقتصادية، مثل البنوك والتجارة الخارجية، تحت سيطرة الدولة من أجل التحرر من القيود الهيكلية التي تفرض، بخلاف ذلك، منطق الرأسمال على حكومة تقدمية، ولهذا فان نهج بلوك مثير للاهتمام لأنه، على عكس العديد من التفسيرات الماركسية الأخرى، يواجه حقيقة عملية: عندما تصل حكومة تقدمية إلى السلطة، يميل رجال الأعمال إلى الحفاظ على أموالهم آمنة. لا يحتاج الرأسماليون الأفراد هنا التنسيق الجماعي، بل سيبتكر كل واحد منهم طريقته الخاصة.

إن هذا السيناريو يستند إلى افتراض غير المعلن بأن الحكومة التقدمية تصل إلى السلطة في الوقت الذي تكون فيه الرأسمالية مستقرة. لكن العكس هو الصحيح: الحكومات اليسارية تأتي في زمن الأزمات التي لا يستثمر فيها الرأسماليون، ولا يوفرون فرص عمل للناس، في وقت يكون فيه الاقتصاد والحكومة غير فاعلين.

لا تصل الحكومات اليسارية إلى السلطة عندما يكون الاقتصاد على ما يرام وهناك لكل فرد فرصة عمل، بل عندما يكون رأس المال قد فر بالفعل من البلاد، وعندما تنتشر المضاربة، ولا يكون هناك استثمار، عندما ترتفع معدلات البطالة، ويحدث اضطراب اجتماعي واسع النطاق. يعود وصول حكومة يسارية الى السلطة، الى مطالبة السكان السياسيين بإعادة الوضع إلى نصابه. وهذا هو مصدر شرعيتها.

إذا لم تنفذ هذه الحكومة المهمة الموكلة اليها، فلا يعود ذلك الى تعرضها للتخويف من قبل الطبقات السائدة، بل لعدم امتلاكها الإرادة او الرغبة في السير في هذا الطريق أو لأنها تخشى العواقب. والعقبة في هذه الحالة ليست رأس المال، بل رؤيتها للعالم أو فهم الحكومة الذاتي لطبيعتها ودورها.

في بوليفيا، تسلم اليسار الحكومة وسط أزمة اقتصادية. إذا لم تقم الحكومة حينها بتأميم القطاعات الرئيسية، لاستمرت الأزمة لأكثر من عشر سنوات. أين كان ممكن أن تجد الحكومة المال إن لم يكن في قطاعات الاتصالات والكهرباء والنفط والغاز؟ بمجرد أن أصبحت هذه القطاعات تحت سيطرة الدولة، تمكنت الحكومة من صنع السياسة.

الأجور هي النقطة الشائكة الأخرى. لم تلتق الحكومة مرة واحدة بأرباب العمل للتفاوض بشأن الأجور، وبدلاً من ذلك التقت مع النقابات. كان عليها أن تأخذ بنظر الاعتبار كيفية تطوير المبيعات في قطاع معين، ومدى ارتفاع الأرباح، ومقدار الضرائب المفروضة، ومدى نمو الاقتصاد وما إلى ذلك.

يمكنك، من ناحية أن تأخذ شيئًا ما من رجال الأعمال، ولكن، عليك أن تعيد، من ناحية أخرى، شيئًا مقابل في شكل إعانات للكهرباء والنقل والغاز وما شابه ذلك. وعندما يبدأ رجال بالاحتجاج، عندها تقول الحكومة: “إذا كنتم لا تريدون رفع الأجور، فسنقطع عنكم الدعم».

بهذه الطريقة رفعت الحكومة الأجر الحقيقي للعامل بنسبة 450 في المائة خلال 14 عامًا، من 50 إلى 306 دولار. لماذا ليس أكثر؟ لأنك في لحظة ستصل الى الاضرار بالشركات الصغيرة التي يصبح معدل ربحها قليل جدا. كان الهدف حدا أدنى للأجور يبلغ 400 دولار، لكن سرعان ما أصبح واضحا أن الشركات الصغيرة التي يعمل بها أربعة منتسبين فقط يبيعون، على سبيل المثال، الأحذية أو الدراجات الهوائية، لا تستطيع الاستمرار. وعندما اضطر البعض الى إغلاق شركته، تم التوقف عند هذا المستوى من الاجور. يجب على الحكومة الشعبية بالطبع أن تهتم دائمًا بالعاملين، ولكن أيضًا بمن هم فوقهم بقليل: الأشخاص الذين لديهم شركات صغيرة ويبيعون خدمة أو طعامًا، وعدد عامليهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. هؤلاء ينتمون إلى الطبقات الشعبية، ويجب الاهتمام بهم.

في حالة الشركات الكبيرة، يمكنك استخدام وسائل أشد. على سبيل المثال، تم تأميم الشركات الأجنبية وفرضت ضريبة بنسبة 50 في المائة على أرباح البنوك. يمكن للبنوك أيضًا تخفيض أرباحها، لذلك عليك إجبارها على تقديم قروض إنتاجية. ومن هنا جاء قرار الحكومة بتوجيه 60 في المائة من إجمالي القروض إلى القطاع الإنتاجي. وبواسطة الـ 40 في المائة المتبقية، يمكن البنوك فعل ما تريد، المضاربة وما إلى ذلك. هذا التوجه يضمن أن يصب القسم الاكبر من المال، المتحقق عمليا من مدخرات الناس، مرة أخرى في الإنتاج. ان توجيه الأموال الخاصة إلى قطاعات معينة في سبيل تحفيز النمو الاقتصادي، يمثل جزءا من القوة الاحتكارية للدولة.

يسمح هذا النوع من السياسة الاقتصادية للحكومة التقدمية بإلغاء الفيتو الاقتصادي لرأس المال على سياسات الحكومة. عندما يهدد الاحتكار الرأسمالي بشل الدورة الاقتصادية، تتم مواجهة هذا التهديد، بأنشاء شركات مملوكة للدولة. لا يجب بالضرورة تأميم كل شيء، ولكن بالضرورة التأكد من قدرة الاقتصاد على تحمل إضراب يعلنه رأس المال.

يبقى السؤال المركزي بالنسبة للحكومة التقدمية ما إذا كانت هناك طاقة اجتماعية كافية لتعميق مثل هذه التدابير التنظيمية. وهذا لا ينحصر في امكانيات سلطة الدولة. يعتقد بعض الرفاق من اليسار في أمريكا اللاتينية أن الحكومات التقدمية تحد من زخم المجتمع، كما لو كانت هناك موجة قوية من العمل الجماعي الذي يدفع باتجاه ملكية جديدة وتجذير الديمقراطية. لكن هؤلاء الرفاق لا يستطيعون الإشارة إلى مكان وجود هذه الموجة.

مثال من بوليفيا: خلال حكومة موراليس الأخيرة، أراد بعض عمال مناجم القصدير انهاء أشكال للملكية والإدارة السائدة - وقد شجعت الحكومة هذا المسعى بقوة. وفي النهاية، كان هناك 5 آلاف عامل يديرون منجمًا ذاتيًا بأموال عامة. لكنهم احتفظوا بجميع الأرباح، ولم يعد أي منها إلى المجتمع. لذا فإن ما يدور في أذهان بعض الرفاق لم يتحقق، فالثروة هنا بقيت ملكية خاصة، الذي تغير عدد المالكين من اثنين الى 5 آلاف. هذه هي تجربة محاولات الإدارة الذاتية للعمال التي حدثت في بوليفيا من 2010 إلى 2011 ثم مرة أخرى من 2017 إلى 2018 .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top