د. أحمد عبد الرزاق شكارة
العراق بلد الحضارات الاصيلة والانجازات التأريخية في مراحل تصاعد المد الحضاري العربي – الاسلامي حقق منجزات جوهرية على صعيد مختلف القطاعات – الاقتصادية – المجتمعية – العلمية – التقنية الانسانية" في مقدمتها الزراعية والصناعية ،
إلا أنه لازال يعاني منذ فترة زمنية طويلة من جملة أزمات خطيرة بل قل كوارث إنسانية على راسها تداعيات تدهور مسار التنمية الزراعية المستقلة . إن تصاعد الازمة الزراعية في العراق تعيق الوصول للامن الغذائي الشريان الحيوي لبناء "السيادة الغذائية" بإعتبارها جزءا لايتجزأ من السيادة الوطنية. توجه أنتبه اليه عددا من الخبراء في الشأن العام لحالة الدول التي تعاني مجتمعاتها وافتصادياتها من ضعف يؤثر سلبا على مستوى ونوعية حياة شعوبها ما يدعو لتوضيح إشكالات وتحديات اساسية في صياغة السيادة الغذائية إتساقا مع تأمين الامن الغذائي كونهما جزءا حيويا من إستراتيجية التنمية الانسانية المستدامة.
من الكتابات ااتي من المفيد الاطلاع عليها كتاب نشرته سلسلة عالم المعرفة –رقم 465 – أوكتوبر 2018 من تأليف جين هاريغان عنوانه : "الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في الدول العربية" . العنوان لبى أهمية تناول المعطيات والابعاد الجبوسياسية الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية لإزمات الغذاء العالمية وإنعكاساتها على السياسات الداخلية للدول ، وعلى مرحلة الربيع العربي وما رافقها من تطورات ، سيناريوهات وتداعيات بحاجة لمزيد من التقصي والتحليل.
بداية " السيادة الغذائية" في إطار جيوستراتيجي تشير إلى : " حق الشعوب في غذاء صحي وملائم ثقافيا ينتج من خلال أساليب صحيحة ومستدامة بيئيا، وحقها في تحديد نظمها الغذائية والزراعية". التعريف يضع " تطلعات وأحتياجات أولئك الذين ينتجون ويوزعون ويستهلكون الغذاء في قلب النظم والسياسات الغذائية بدلا من الطلب في الاسواق والشركات". هذا وقد تمحور الهدف الستراتيجي بإتجاه الدفاع عن مصالح الشعب العراقي من جهة مع محاولة جادة عملية تهدف إلى إدماج الاجيال في إطار مجهودات التنمية الانسانية المستدامة .
إنطلاقا مما تقدم تغطي السيادة الغذائية الجانبين أولا : الوطني وثانيا : الاقليمي – الدولي ضمن سياق الاهتمام بالتنمية الانسانية الكلية التي من ضمنها التنمية الزراعية التي تمثل جزءا فاعلا من الحياة الاقتصادية العراقية (60 من سكان العراق) هذا إذا أحسن تدبيرها وإدارتها . علما بإنها لم تصل بعد - في دول أقليم مينا –MENAلمرحلة تلبي ابسط المطالب السكانية التي من أبرزها : "تأمين الامن الغذائي" لكافة شرائح المجتمع وعلى رأسها الفئات الاكثر تعرضا للمخاطر ( الفقراء ، المحرومين والمهمشين ) . تصور يسلط الضوء على مفهوم التمكين Empowerment الادوار الرئيسة للفلاحين ، صائدي الاسماك ، ممتهني الصيد الحرفي والرعاة وغيرهم من فئات مجتمعية – إقتصادية لاتزال تنتظر أهتماما أكبر من السلطات العراقية . سياق يؤكد أهمية نشر السيادة الغذائية على مستوى الدولة وضمن مسؤولية صناع القرار في تنفيذ البرامج والسياسات التنموية. الامر الذي يرتبط اساسا بزيادة قوة ونفوذ الدولة بشكل يمكنها من تعظيم إمتداد سيطرتها الستراتيجية على الامدادات الغذائية وتوزيعها ضمن إطار خطة عملية الاهداف تحقق توازنا عادلا إجتماعيا – اقتصاديا ممتزج بالاستدامة التنموية Sustainable Development التي تغطي السيادة الغذائية في ظل محاور حيوية جيوسياسية - إقتصادية – اجتماعية – تقنية - بيئية – الطاقة ، المياه لابد من مراعاتها دون تمييز سياسي او ايدولوجي او محاصصاتي "ديني – مذهبي – قومي – قبلي". ضمن هذا السياق لابد من الاهتمام بمسار بناء السيادة الاقتصادية التي تؤكد حيوية الامن الغذائي الذي لم يعد فقط ذا طبيعة اقتصادية – اجتماعية (عرض وطلب) بل وسياسية – إستراتيجية. من هنا تأتي اولوية "الامن الاقتصادي" في قلب أي استهلال للنقاش حول أهمية الامن الغذائي حيث غالبا ما ينظر إلى الدول العربية على أنها واحدة من أكثر المناطق التي لديها إمكانات وقدرات بشرية وزراعية حيوية ولكنها لاتزال " كامنة" أو غير مستغلة مسببة قصورا للسيادة الغذائية - الوطنية . المفارقة أن العراق ضمن محيط منطقة الهلال الخصيب عد - عبر مراحل حضارية متقدمة سابقا - من أكثر المناطق الواعدة في الانتاج الزراعي (محاصيل زراعية وحيوانية) نظرا لإمتلاكه أراض خصبة وشبكة مياه وفيرة ناجمة عن تدفق نهري دجلة والفرات وصولا لشط العرب في جنوب العراق. الشئ المؤسف أن مثل هذه القدرات الحيوية وبضمنها البشرية لم يتاح لها فرص ملائمة للتنمية الزراعية المستدامة نظرا لما يلي :
• اولا: تحديات وتداعيات الجغرافيا السياسية السلبية ناجمة عن : سياسات ومصالح القوى العظمى ، الحروب المتعددة و حالات عدم الاستقرار السياسي والامني التي إنعكست سلبا على بنية الوضع الاجتماعي والاقتصادي . من آثارها الواضحة تردي الوضع الزراعي الذي أضحى أكثر ضعفا وهشاشة حاملا تحديات خطيرة تمثلت بفشل الادارة الاقتصادية ما سبب بإتساع الفجوة الغذائية في إطار من معادلة غير متوازنة بين العرض والطلب في القطاع الزراعي.
• ثانيا :تصاعد الفجوة الغذائية الانتاجية الزراعية جعلت العراق ضمن المحيط العربي تستورد مابين 25 – 50% من إحتياجاتها الغذائية حيث تشكل "نسبة واردات الحبوب في المنطقة من إجمالي الاستهلاك بين 40 و50 في المائة ، وتصل في بعض البلدان مثل العراق واليمن ولبنان وفلسطين إلى 70 في المائة". هذا وتشكل "الواردات الغذائية أكبر حصة من المنتجات المستوردة في المنطقة ، وهي تقدر بما بين 11 و34 من إجمالي السلع المستوردة من قبل الدول العربية حيث تبلغ فاتورة الواردات الغذائية الاقليمية نحو 5 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي". ضمن هذا السياق يمكن تصور تنامي الفاتورة المالية للواردات الغذائية في العراق طالما بقي الاخير بعيدا عن إنجاز الاكتفاء الغذائي . من المؤلم حقا أنه وباستثناء مراحل زمنية محدودة جدا لم تستطع الحكومات العراقية ان ترفع من قيمة صادراتها من الحبوب ، الخضروات والفواكه إلى دول الجوار ولدول اخرى في المحيط الدولي ما اعطى مثل هذه القوى ميزة "الهيمنة" على تصديرالمنتجات الزراعية لمنطقة الشرق الاوسط . بمعنى واضح فأن استراتيجية الامن الغذائي لم تتحقق بالشكل المطلوب في العراق بل وفي عموم منطقة الهلال الخصيب – بأستثناء سوريا- وفي دلتا نهرالنيل .
• ثالثا : تصاعد نسب النمو السكاني خلال العقود الخمسة الماضية ما ضاعف من الطلب على السلة الغذائية كنتيجة طبيعية لمحدودية الارض الزراعية وقلة توفر المياه من شبكة مياه نهري دجلة والفرات كنتيجة طبيعية لتحكم تركيا اولا بمنابع النهرين (حيث أقامت سدود آتاتورك أخرها سد اليسو ) والى حد ما ايران بالنسبة لروافد نهر دجلة التي تغذي شط العرب . الامر الذي ضاعف من إنخفاض منسوب المياه ومن نسبة الاراضي التي اضحت غير قابلة للانتاج الزراعي بل ومتصحرة يرافقها تغيير مناخي عالمي ينعكس على قساوة المناخ في العراق "صيفا" حيث درجات حرارة عالية دمرت مساحات واسعة من البيئة الخضراء ومعها تضحى التربة ذات نسبة ملوحة عالية مع درجة من التلوث عالية نسبيا بسبب شح المياه لنهري دجلة والفرات وروافدهما . من هنا ، أهمية استمرار الجهود التفاوضية مع دول الجوار (تركيا ـ ايران – وسوريا) وصولا لاتفاق يحفظ مصالح الدول المشتركة من المنبع إلى المصب جميعا ما يجنب العراق كوارث مائية – أنسانية خطيرة.
• رابعا: فشل خطط التنمية الزراعية يرجع إلى عوامل متعددة في مقدمتها عدم توفر المعلومات الاساسية حول طبيعة الانتاج الزراعي وفقا لمنهجي الاقتصاد الكلي والجزئي هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الاخفاق في إنجاز مشروعات حقيقية للتنمية الزراعية يرجع إلى إهمال التخطيط والتنفيذ الستراتيجي السليم لمشروعات التنمية الانسانية وعلى رأسها التنمية الزراعية ما افقد محافظات العراق قيمة التماسك المجتمعي والاقتصادي وصولا للهجرة المتوقعة المتصاعدة للفلاحين من الريف إلى المدينة تآسيا بامآل خائبة في تحسين نوع ومستويات الحياة . من هنا أهمية تفعيل التخطيط الستراتيجي – الاقتصادي الذي يفترض أن يرسم مخططا استراتيجيا مستقبليا يغطي شبكة واسعة من المشروعات الصناعية والزراعية والخدمية (نقل – مواصلات وإتصالات والصحية – الغذائية) بصورة تحفظ التوازن الاقتصادي النسبي بين هذه القطاعات الاساسية وفقا لمنهج تكاملي يحفظ مصلحة العراق الوطنية . هذا ومن منظور مكمل فإن ريادة العراق في تأسيس السدود منذ خمسينات القرن الماضي ( دربندخان ، دوكان، الثرثار وغيرها) يفترض ان توفر ارضية صالحة تتوافق مع إدارة زراعية فاعلة متخصصة ونزيهة ترنو لإنجاح جهود الاكتفاء الذاتي مسألة لم تتحقق إلا بحدود أستثنائية حيث يظل العراق بحاجة لإستيراد المواد الغذائية والحيوانية من الدول التي حققت تنمية زراعية متقدمة. برغم ذلك ترد انباء تحمل قدرا من التفاؤل النسبي يختص بما يخطط له من مشروعات زراعية ومائية منتجة واعدة لإنشاء شبكة من السدود الجديدة لإيقاف "بور" الالاف من الاراضي الزراعية وفقا لما اشار إليه تقرير الامم المتحدة :حيث يفقد العراق سنويا 100 الف دونم من اراضيه الزراعية بسبب التصحر. من السدود التي في طورالتأسيس (سد مكحول في محافظة صلاح الدين)، او التخطيط ( سد بادوش في محافظة نينوى) وغيرها من السدود المشتركة . يضاف لذلك أهمية إعادة تأسيس الاحزمة الخضراء للحماية البيئية ولإنجاز الشروط والمعايير الملائمة في التخطيط العمراني والزراعي المتوازن بعيدا عن أية تجاوزات غير قانونية.
• خامسا : صورة التحدي الاقليمي تبرز عندما نجد دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع بثروة مالية ضخمة ناجمة عن "عوائد النفط" تستطيع تجاوز أزماتها الغذائية بيسر نسبي بينما الدول التي لاتملك الثروة المالية تواجه تحديات لاقبل لها في تسديد مدفوعات مستورداتها الغذائية . المفارقة ان العراق يمتلك ثروة نفطية تدر عليه عوائد نفطية حيوية ( تلبي ما يقارب 96% من موازنة العراق) ولكنه يستمر بمواجهة تحديات جمة في تسديد فواتير المواد الغذائية . الامر الذي يستوجب التوقف مليا عنده لتحليل قائمة المكاسب والخسائر لكل قطاع من قطاعات الدولة لتحديد الاساليب الناجحة لمواجهة الازمات الزراعية – الغذائية – الصحية - الصناعية - التقنية – البيئية والجيوسياسية.
• سادسا : إن اي صياغة علمية واقعية ترمي لتغيير هيكلي إستراتيجي ينتج حالة سيادية زراعية عراقية مستقلة لابد أن تأخذ بالاعتبار عدد من المؤشرات والاحصائيات الوطنية و الدولية بصورة تفاعلية من الجهات التالية : وزارة التخطيط والوزارات الاخرى ذات العلاقة ، منظمة الغذاء والزراعة الدولية ، منظمة التجارة العالمية ، برنامج الامم المتحدة للتنمية " مؤشر التنمية الانسانية" ، برنامج الامم المتحدة للبيئة ، مجموعة البنك الدولي . يضاف الى أهمية المتابعة الحثيثة لمؤشري الامن الغذائي والفقر لابد من مراقبة مؤشر الفساد (منظمة الشفافية العالمية) . مؤشرات مهمة إنعكست آثارها السلبية على نوعية حياة الغالبية من السكان ما يستوجب مزيدا من الشفافية والمحاسبة المشددة للمخالفين وللفاسدين . علما بإن الكثير من هذه المؤشرات لاتتوفر بشكل يمكن الاعتماد عليه "وطنيا" .
إن الاستفادة الحقيقية من مؤشرات التنمية الانسانية المستدامة قد يسهم ببناء سيادة زراعية مستقلة تمكن العراق من لعب دور أقليمي - إيجابي أو العكس إخفاق مريع في تبني أية استراتيجية سيادية تفي بإحتياجات ومصالح الشعب العراقي الاساسية مابعد جائحة كوفيد- 19.
اترك تعليقك