آفاق: الجابري في مكتبة مؤيد ( 2 ـ 2 )

آفاق: الجابري في مكتبة مؤيد ( 2 ـ 2 )

سعد محمد رحيموبعد حسن حنفي تصدى آخرون للجابري،  وذات يوم التقط مؤيد كتاباً من درج خاص مخفي وناولني إياه؛ اقرأ هذا.. كان الكتاب بعنوان ( هل هناك عقل عربي ) لهشام غصيب. من ثم وصلنا كتاب جورج طرابيشي ( مذبحة التراث ) جعلنا نعيد النظر ببعض قناعاتنا عن كتابات الجابري. وأخيراً كانت أجزاء من كتاب آخر، أضخم لطرابيشي عنوانه: ( نقد نقد العقل العربي ).

 وانبهر مؤيد بالكتاب الأخير. كان رأي مؤيد أن طرابيشي قد قضى بشكل نهائي على مشروع الجابري وجعل بنيانه الفكري ينهار تماماً. وكان رأيي أن مشروعاً بهذه الآفاق لا يمكن أن تنتهي بهذه السهولة ومهما كانت الانتقادات التي يتعرض لها قوية ومفحمة.      صحيح أن المشروع لم يكن كاملاً وليس فوق التمحيص والدراسة والنقد. ولكن من الظلم تسفيه المشروع برمته وإلغائه.. كان مؤيد يدرك هذا ويوافقني في كثر مما أذهب إليه، بيد أنه كان غاضباً من الخدع التي مارسها الجابري في إنتاج خطابه الفكري، والتي اكتشفها طرابيشي. إذ أن البناء الذي شيّده ( الجابري )، بحسب رأي طرابيشي ( ويؤيّده مؤيد ) قائمة على أسس بعضها مختل وبعضها ضعيف وبعضها خاطئ، وعلى مقولات مبتورة أو منزوعة من سياقها وهي التي أوصلته إلى نتائج لن تصمد  أمام ريح النقد. وكنت أقول أن الجابري فتح مسارب للفكر وحرّك ساكناً في زمن الهزائم وانحطاط حياتنا السياسية والثقافية، ونحن بحاجة إلى تغليب العقل البرهاني/ العلمي على ما عداه في زمن الخرافات والأصوليات الضيقة، كما يريد الجابري. فيعقّب مؤيد؛ نعم، ولكن...    ومع \"ولكن\" يستمر السجال وتتصادم الآراء والأفكار والمفاهيم في ظهيرات الصيف مع الماء المثلج والشاي الساخن تحت مروحة سقفية تنفخ هواءً حاراً وتتوقف حين تنقطع الكهرباء الوطنية ( لم تكن المولِّدات قد انتشرت على نطاق واسع، بعد ). غير أن السجال لا يتوقف والحديث لا ينقطع إلاّ مع مجيء صديق آخر يطرح قضية مغايرة سرعان ما ينغمس مؤيد في السجال حولها فأقول؛ باي، تأخر الوقت، أراك غداً\" وأغادر وفي ذهني أن أستأنف معه الحديث عن الجابري غداً أو بعد غد.   توفي الجابري رحمه الله يوم 3/5/2010 تاركاً إرثاً فكرياً غنياً لابد من أن يتحمل مفكرو العرب ومثقفوه مسؤولية إعادة قراءته ونقده في سياق مشروع النهضة العربية المتعثرة الخطوات. وإعادة الاعتبار للعقل عبر إكمال مشروع نقده الذي قام بعبء كبير منه الجابري. لأن لا نهضة من غير عقل ناقد فعال ومنتج لها.   أما مؤيد ( رحمه الله ) فاستشهد قبل رحيل الجابري بأكثر من خمس سنين. وكان أمام باب داره في منطقة بهرز ببعقوبة يحمل محفظة فيها أوراقه، لحظة تلقى سيل الرصاص من سيارة مسرعة فرفع المحفظة في رد فعل لا واعٍ، سريع وأخير، ليتقي بها شر رصاصات الإرهابيين. غير أنها ( المحفظة بأوراقها ) كانت من الهشاشة الفيزيقية بحيث أنها امتلأت بالثقوب  حين خرقتها الرصاصات المنطلقة إلى صدره.        لا أظن أن ذهني سيتحرر في أي يوم من هذه الصورة التراجيدية المؤلمة، والتي لها محمول رمزي صارخ ومثقلة بدلالات لا تُخفى. وأعتقد أنها تعد تعبيراً عن العلاقة الملتبسة بين المثقف ومحيطه الاجتماعي بما يختزن هذا المحيط من سلطات وآليات وممكنات قمع وإقصاء وتصفية جسدية. وطالما تساءلت ماذا كان مؤيد يخفي، يومها، في تلك الحقيبة، أيُّ كتاب ولأي مؤلف؟.  ربما للجابري أو طرابيشي أو علي الوردي أو إدوارد سعيد أو محمد أركون أو أدونيس أو رولان بارت أو ميشيل فوكو أو أي أحد آخر من مفكري الحداثة العرب أو العالميين. أولئك الذين كنا نناقش أفكارهم في مكتبته. وأيضاً، ما زلت أتساءل؛ ماذا كتب في أوراقه من ملاحظات وأفكار وقصائد، هو الشاعر والباحث والناقد، تلك الأوراق التي تضرّجت بدمه النقي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top