هيئة النزاهة عاجزة عن تأدية عملها أمام الضغط والترهيب الحكوميين

هيئة النزاهة عاجزة عن تأدية عملها أمام الضغط والترهيب الحكوميين

يلعب الفساد في العراق دورا كبيرا في الحياة اليومية، حيث يقوم السياسيون بتعيين أتباعهم وأقربائهم فقط في الدوائر الحكومية؛ كما أن الرشاوى هي الوسيلة الشائعة في الحصول على الخدمات من السلطات؛ المسؤولون يتلاعبون علنا بالمشتريات العامة من اجل قشط المال وتمريره لأنصارهم؛ السرقة والابتزاز تقوض الديمقراطية بالإضافة إلى الاقتصاد إذ أن كميات كبيرة من المال يتم تهريبها إلى حسابات في مصارف أجنبية بدلا من استخدامها في إعادة بناء البلد.
 كانت الولايات المتحدة تأمل منع حدوث كل ذلك في العراق عندما أسست وكالتين جديدتين لمحاربة الفساد، حيث وضعت زمام المبادرة في هذه المعركة بيد هيئة النزاهة. لكن مع ذلك فقد فشل الاميركان في التوصل الى هيكل مناسب للهيئة ولم يوفروا الدعم اللازم لها لذلك تقوضت على يد سياسيين لم يرغبوا بوجود رقابة على كيفية تصرفهم بثروة العراق.
 توصلت سلطة الائتلاف المؤقتة الى تأسيس مكاتب جديدة لمواجهة تهديد الفساد في العراق، ففي كانون الثاني 2004 أسست هيئة النزاهة بموجب الأمر 55. كان من المفترض ان تمسك الهيئة بزمام المبادرة في محاربة الفساد والابتزاز في العراق الجديد، وكان عليها التحقيق في قضايا الفساد ثم تحويلها الى المحكمة الجنائية المركزية في العراق التي تقرر ما اذا كانت القضية تستوجب المقاضاة ام لا. اعتقد الاميركان بانها فكرة عظيمة الا انهم لم يدعموها بالشكل المطلوب؛ فمثلا، لم تقم سلطة الائتلاف بتعيين رئيس الهيئة – القاضي راضي حمزة راضي – حتى ما قبل انتهاء اعمالها في العراق في حزيران، كما انها لم تقم بتمويلها مما جعلها تعاني. بالتالي انتهى الأمر بقيام وزارة الخارجية الاميركية بتوفير 11 مليون دولار لتدريب كادر الهيئة والمفتشين العامين ايضا. لم تمنح سلطة الائتلاف الوقت والمال اللازم للهيئة لأنها ربما كانت منشغلة بالتعامل مع مسائل اخرى مثل تعيين حكومة عراقية مؤقتة او كتابة قانون ادارة انتقالية يحكم العراق لغاية كتابة مسودة دستور جديد. ولأن الائتلاف كان مؤسسة تنتشر فيها الفوضى، فان إهمال هيئة النزاهة كان مثالا آخر على التصرف الكيفي للولايات المتحدة في الفترة ما بين 2003-2004.
ترك الاميركان هيئة النزاهة مع مجموعة من التعليمات البيروقراطية التي عليها العمل بها، كان عليها ان تعتمد على المفتشين العامين العاملين في كل وزارة للحصول على معلومات بشأن الاخطاء التي ترتكبها الحكومة، لأن الهيئة لم تكن لها صلاحية طلب الملفات من السلطات الحكومية. كان المفتشون العامون تحت سيطرة وزراءهم ورئيس الوزراء مما يعني انهم لا يمرروا الكثير من البيانات الحقيقية. عندما كانوا يستلمون شيئا، كانت الهيئة هي التي تراجعه ثم تطلب المزيد من المعلومات التي تعتقدها مهمة، ثم تحول ما تجده إلى المحكمة الجنائية التي لها القول الفصل في القضية، بعد ذلك تقوم وزارة الداخلية بإصدار مذكرات القبض ضد المشبوهين. جاء في تقرير السفارة الأميركية لعام 2007 ان الوزارة غالبا ما ترفض اصدار مذكرات قبض في قضايا الفساد، وحتى ان مسؤولي الوزارة احيانا يحققون مع المشبوهين من اجل اعتقالهم او اخذ الرشوة منهم مقابل عدم اتخاذ اجراء بحقهم. بدلا من ان تكون هيئة النزاهة في طليعة من يحقق في هذه القضايا، فان هذه الشبكة الروتينية جعلت منها مجرد هيئة لمراجعة المواد معتمدة على الاخرين في استحصال المعلومات وفي اعتقال وملاحقة المشكوك بهم. كل هذا حدّد الى حد كبير قدرتها على جعل عملها سريا وعلى متابعة الامور المهمة التي تكتشفها.
 بالاضافة الى ذلك فقد واجهت هيئة النزاهة حواجز قانونية أهمها المادة 136 ب من قانون العقوبات العراقي التي تسمح للوزراء بمنع ذهاب القضايا الى المحكمة. في حزيران 2004 علّقت سلطة الائتلاف العمل بالقانون الا ان رئيس الوزراء المؤقت اياد علاوي اعاده نهاية ذلك العام. بين عامي 2005-2008 استخدمت هذه المادة 210 مرات، ولم يتم الغاؤها الا في نيسان 2011 من قبل البرلمان.
ثم هناك قانون العفو لشهر شباط 2008 الذي كان الهدف منه المصالحة، الا انه تضمن نصا يغطي على الموظفين المتورطين بالفساد. في تشرين الثاني اشتكت الهيئة من ان 1721 قضية يجب اغلاقها نتيجة لذلك التشريع الجديد. ان الجو الذي كانت تعمل فيه هيئة النزاهة لم يكن مناسبا لعملها، فقد استخدم المجلسان التشريعي والتنفيذي سلطاتهما لمنع الهيئة من تنفيذ اية تحقيقات لها قيمة مما حددها بقضايا ذات مستويات متدنية لا تهدد من هم في مراتب السلطة العليا.
احدى اكبر العواقب التي أثرت على كادر الهيئة كان انعدام الأمن الذي ساد في العراق من 2004 وحتى 2008، حيث اصبحت الهيئة ضحية لذلك العنف، فما بين 2004 و2007 قتل 31 من موظفيها بالإضافة إلى 21 من أفراد عوائلهم؛ كما تم استهداف رئيسها الاول القاضي راضي ايضا. بعض هذه الاستهدافات جاء على يد عناصر تعمل في الحكومة، فوزارة الداخلية مثلا كانت تضم عناصر مارقة لديها فرق موت. كما كانت وزارة النفط خارجة عن السيطرة لأن الاحزاب التي تسيطر عليها كانت تهدد او تهاجم مسؤولي الهيئة اذا ما اقتربوا منها. ازداد مستوى الترهيب لدرجة إن الهيئة لم تستطع القيام بأي من أعمالها خلال تلك الفترة خاصة ما يتعلق منها بالوزارات القوية الخارجة عن السيطرة.
المساوئ التي سببتها هذه العوائق لهيئة النزاهة كانت واضحة منذ البداية. ففي الاشهر الثمانية عشرة الاولى من وجودها، قامت بإرسال 541 قضية الى المحكمة الجنائية في العراق بضمنها 42 قضية ضد وزراء ووكلاء وزارات ومدراء عامين. الا ان الهيئة القضائية لم تتخذ أي إجراء بشأن هذه القضايا إما لعدم رغبتها أو لعدم قدرتها، وكانت النتيجة اصدار أحكام بالإدانة بحق 241 فقط ما بين 2004-2007، من بينهم 8% أرسلت طلبات التماسهم للمحكمة. منذ ذلك الوقت ازداد عدد الإدانات بشكل كبير الا ان ذلك يخفي عدم فاعلية تلك الحالات، ففي 2008 مثلا، كان هناك 97 حكما بالادانة تبعه 296 في عام 2009 و481 في2010، كلها لم تشمل اي مسؤول كبير.
وكما ذكر مسؤول أميركي لمجموعة الأزمات الدولية، فان عدد القضايا التي أرسلت بنجاح إلى المحكمة لم يكن لها تأثير على الفساد، بدورها ادعت السفارة الأميركية بان الهيئة كانت كيانا سلبيا إلى حد كبير لأنها كانت تتعرض لخطورة كبيرة لدرجة انها لم تتمكن من التحقيق في الامور الجوهرية الكبيرة. نظرا للمعارضة التي كانت تواجهها الهيئة، فإنها لم تستطع فعل شيء عدا ملاحقة القضايا الصغيرة.
بعد ان هدأت اعمال العنف وصار العراق اكثر استقرارا لم تتحسن الأمور نحو الأفضل. فلقد تابع كل من رئيس الوزراء نوري المالكي ونائب رئيس الجمهورية حينها عادل عبدالمهدي بنشاط استقلالية الهيئة؛ في 2007 اخبر رئيس الوزراء المسؤولين الاميركان بانه يعارض الوكالات المستقلة التي تحقق بالفساد. ادى ذلك الى اصدار امر تنفيذي يمنع اتخاذ اي اجراء ضد اي وزير دون موافقة رئيس الوزراء. ادعى القاضي راضي بان هناك 80 مليون دولار موقوفة في قضايا يتم التحقيق فيها. في العام التالي صرح رئيس الوزراء بانه سيركز على محاربة الفساد، وبيّن التزامه بذلك عن طريق اعفاء 1023 شخصا كانوا يخضعون للتحقيق في نهاية العام. وراء الكواليس، اصدر المالكي اوامر سرية لمنع الهيئة من ارسال القضايا التي يتورط فها مسؤولون كبار إلى المحكمة الجنائية المركزية، وفي العام التالي حاول تحديد الهيئة أكثر بالقول إنها لا تستطيع البدء بأية تحقيقات من تلقاء نفسها وحاول التخلص من أفراد معينين في الهيئة. من جانبه حاول نائب رئيس الجمهورية إتباع نفس التكتيكات، فطالب بحق تدقيق كل قضايا الفساد وعندما رفضت الهيئة جاءها اتصال هاتفي من رئيس المحكمة العراقية العليا القاضي مدحت محمود طالبا منها الاذعان لطلب عبدالمهدي.
كان من المستحيل للهيئة ان تتملص من ضغوط رئيس الوزراء ونائب الرئيس مما أحبط قدرتها على القيام بمهامها بالشكل الصحيح، وجعلها أشبه ما تكون بشرطي يستطيع اعتقال مجرم بسيط عادي لكنه يعجز عن اعتقال الحوت الكبير الذي يرتكب الجرائم الحقيقية.
النفوذ الذي كثفه رئيس الوزراء على هيئة النزاهة سمح له بان يتلاعب بتحقيقاتها. ففي ايار 2011 مثلا اتهمت الحكومة مدير المصرف التجاري العراقي حسين الأزري بالفساد، وكانت التهم تعود الى عام 2007. تساءل مسؤول عراقي كبير عن سبب تأخر اتخاذ أي إجراء في هذه التهم لأربع سنوات، مما دعاه وغيره إلى الاعتقاد بان رئيس الوزراء كان يستخدم هذه التهم لمجرد السيطرة على المصرف.
التدخل الخارجي المستمر وقلة الانجازات أدت إلى تغيير كبير في اتجاه هيئة النزاهة. استقال القاضي راضي في أيلول 2007، وادعى أن هناك فسادا باربعة مليارات دولار مستمرا في وزارة الدفاع، وفسادا بملياري دولار في وزارة الداخلية. بعدها وقع هجوم على داره اتهم فيه القوات الأمنية، كما قال إن الحكومة قد منعته من أداء واجبه وان المالكي كان ضد التحقيق بالفساد. في العام نفسه حاولت فصائل في البرلمان إقامة دعوى ضده. كل ذلك قاد إلى إقالته وتعيين نائبه موسى فرج بديلا عنه والذي اكتشف فسادا كثيرا في وزارة النفط مما تسبب في اعفائه قبل ان يتمكن من فعل شيء. ثم في كانون الثاني 2008 تم تسمية القاضي رحيم العكيلي رئيسا جديدا للهيئة بدون موافقة البرلمان مما يعني ان بالامكان اعفاءه في اي وقت، وقد استخدم رئيس الوزراء هذه الحقيقة للضغط عليه باستمرار. انتهى الامر بترك العكيلي العمل في ايلول 2011. كان العكيلي ينظر مع المفتشين العامين وديوان الرقابة المالية في مئات الشركات، التي اسسها مسؤولون واحزاب سياسية، متورطة في عمليات احتيال ضخمة من اجل قشط المال من العقود الحكومية. كلما كان يتم توقيع عقد تطوير كبير من قبل الحكومة كان يشمل بعض هذه الشركات، لذلك تمكن اقرباء واتباع السياسيين من تهريب الاموال. عندما كانت الهيئة تحول ما تكتشفه الى المحكمة الجنائية كانت الأخيرة ترفض اتخاذ أي إجراء، نتيجة لذلك اضطر العكيلي إلى الاستقالة. الخلافات السياسية داخل البرلمان منعته من تسمية رئيس جديد للهيئة، مما سمح لرئيس الوزراء ان يعين عزت توفيق كرئيس مؤقت لها لكنه في الواقع سيطر عليها أخيرا.
منذ عام 2007 ورئيس الوزراء يطالب الهيئة بالخضوع لرغباته. في 2011 حقق هدفه عندما تمكن من تنصيب احد مقربيه على رأس الهيئة. الآن يمكنه التدخل في أية قضية يتورط فيها أنصاره، كما انه يستخدم الهيئة ضد منافسيه وأعدائه.
فوق كل شيء، لم تكن الهيئة محصنة من المشاكل التي تأسست من اجل حلها، فقد عينت الهيئة أشخاصا غير مؤهلين وفاسدين وأعضاء في أحزاب سياسية.
بدءا من 2008 ومع تراجع العنف حاولت الهيئة فعلا مواجهة بعض هذه القضايا. فمثلا بدأ العكيلي ببعض الإصلاحات الداخلية وطرد بعض الأفراد من الهيئة. مع ذلك ففي 2011 جرى اتهام بعض القيادات في الهيئة بابتزاز المال والسرقة إلا أن التحقيق لم ينتج عنه شيء، لكن بعدها تم الكشف عن رشاوى كانت تؤخذ مقابل غض النظر عن بعض القضايا. هذا جعل الهيئة تبدو مثل باقي مفاصل الحكومة، وان تكون ضحية للنشاطات غير القانونية التي تأسست من اجل محاربتها.
لقد أسس الأميركان هيئة النزاهة لتكون المبادرة في محاربة الفساد في العراق الجديد، إلا أن عدم دعمهم لها والتخطيط السيئ تسببا في تقويضها. بعد انتهاء مهام سلطة الائتلاف عام 2004، واجهت الهيئة حقيقة قانونية وسياسية وأمنية معادية. في النهاية تبين أنها برغم استمرارها في تأدية عملها، لم يكن لها أي تأثير على الفساد الذي تأسس وتجذر في البلاد. ومثل باقي هيئات محاربة الابتزاز والفساد اليوم، فأنها تجد نفسها عاجزة وتحت سيطرة رئيس الوزراء.

عن: افكار عن العراق

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top