العقيدة الدينية وثورة 14 تموز العراقية

آراء وأفكار 2021/07/26 10:13:42 م

العقيدة الدينية وثورة 14 تموز العراقية

 سلام حربه

لا توجد ثورة في العالم اثير حولها اللغط كما حصل مع ثورة 14تموز عام 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي وأعلنت عن قيام جمهورية العراق. ما زال العراقيون مختلفين حول تسميتها، فريق يصفها بأنها انقلاب فتح أبواب العراق على الجحيم وكل ما حصل ويحصل من مآسي وكوارث وازمات يعيشها المواطن العراقي منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا سببه هذا الانقلاب،

وآخر يقول انها ثورة عظيمة منحت العراق هويته الوطنية وأسست لحكم عراقي وانجزت ما انجزت من مشاريع عظيمة ووضعت الاساس للدولة المدنية مازال عبير هذه الثورة يتنفسه العراقيون حتى يومنا هذا..ويبقى السؤال ما سر اختلاف العراقيين حول هذه الثورة..؟ ان دراسة اية ظاهرة او كينونة او واقع جديد في المجتمع لا يتم بمعزل عن كل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيم الثقافية والاخلاقية والعقائد والافكار الدينية وتوضع المشاعر والطقوس والعادات السائدة تحت المجهرليستطيع الباحث والدارس المنقب في تفاصيله ان يخرج بحصيلة واستنتاج علمي تفتحان العيون والعقول على حقيقة ما يجري في مجتمعهم ..المجتمع العراقي متنوع الاعراق والديانات لكن تبقى هناك سمة ظاهرة في هذا المجتمع تكاد ان تكون البصمة او الهوية التي تمثله وتتسلط على السلوكيات وانماط التفكير السائدة دون ان تكون لها علاقة بالأكثرية او الأقلية لهذه الطائفة او الديانة ونسبة تمثيلها في المجتمع ..العراق كبلد هويته المذهبية الطاغية شيعية لا لكون هذه الطائفة هي الاكثرية في المجتمع ولكن بسبب العوامل التاريخية والسياسية صُبغ السلوك العام بثقافة وطقوس ومعتقدات هذه الطائفة وترسبت عقيدتها في العقل الباطن للمجتمع وان كانت الطوائف والاديان الاخرى الموجودة في البلد مختلفة معها مذهبيا ودينيا ولا تؤمن بما تحفل بها نصوصها وفقها واحكامها، لكن حضورها الطاغي السياسي والطقوسي الذي لا ينقطع على مدار الاعوام ومنذ قرون عدة تجعل الشعب، بكل طوائفه، مرغما على العيش بذلك الجو السحري المشحون بالملاحم والمراثي والبكائيات والشعائر والتمثيل الرمزي لكل ما مر به أئمة الطائفة من آلام وسجون وقتل وتعذيب وما يترشح منه سلوكيا ونفسيا عند الاخرين بسبب تخدر الحواس وتشبعها بتلك الممارسات الوجدانية والطقوس الصوفية وجلد الذات على الدوام، فيصبح السلوك العام مصبوغا، شاء الاخرون أم أبوا، بعرفانية الطائفة واجوائها المأساوية والاحتفالية وينتج عن التكرار والمطاولة سلوكا موحدا وتلاحما نفسيا، وان كان هشا،يمارسه كافة افراد المجتمع بوعي او بغير وعي كالمنوم مغناطيسيا الذي لا يعرف كيف يتخلص من قيود سحره وغيبوبته..في لبنان مثلا الثقافة السائدة هي المسيحية المارونية، رغم ان المسيحيين لا يشكلون الاغلبية في المجتمع، بل ان الاسلام بكل طوائفه هو الاكثر عددا لكن الجميع متأثر بالثقافة والسلوك المسيحيين وهذا ما يلمسه المواطن المحلي والغريب الزائر لهذا البلدفيجد ان هذا المجتمع يختلف عن باقي المجتمعات الاسلامية وهذا له اسبابه السياسية والتاريخية والاجتماعية هي التي حددت مساره ووجهت سلوكياته وانماط علاقاته الاجتماعية..الفكر الشيعي قائم على فكرة الانتظار، العود الابدي، والشيعة على موعد مع عودة الامام المهدي المنتظر من غيابه الذي طال منذ اكثر منذ الف عام وهو الذي سيملأ الارض خيرا وعدلا ورفاهية ونعيم بعد ان ملأت بالجور والظلم والقتل والعنف..هذه العقيدة يؤمن بها الشيعة العراقيون وقد تسلل البعض من هذه الصور الدينية الى الطوائف السنية والاديان الاخرى فأصبح المنقذ عند الجميع، هو الحل الوحيد لخروج هذه المجتمعات من دوامة التخلف والدمار والانهيارات المتلاحقة. المنقذ يأتي بتفويض الهي ولذا فان كل خطواته مرسومة بدقة ولا يخالطها اي شك او زلل او خطأ وكل الاشارات الربانية والافعال تقود الى جنات موعودة لا نهاية لها ..هذه العقيدة جعلت من الانسان العراقي ينظر الى كل فعل بشري بعين الريبة وعدم الثقة لان البشر خطاؤون وعملية التغيير والاصلاح ونقل المجتمع من حال الى حال بطريقة صورية بائسة وبعيدا عن مشيئة الرب ومن يمثله على الارض ستجر الى الويلات والكوارث لان كل سلوكيات البشر غرائزية ترسمها المصالح الشخصية والمنافع الفئوية والحزبية الضيقة.هكذا جرى التعامل الاجتماعي مع ثورة تموز عام 1958 التي غيرت الخارطة السياسية في البلد ونقلته من الملوكية الى الجمهورية، رغم المشاريع والخطط والانجازات التي أتت بها هذه الثورة وحررت العقل العراقي من كثير من الاغلال. لقد تصدى لها الكثير من العراقيين من لحظة حصولها وحتى يومنا هذا وحاولوا ان يظهروا عيوبها وما أتت بها من مهالك وفوضى، مع تمجيد النظام الملكي والتغاضي عن كل اخطائه وقسوته المفرطةضد معارضيه وربط العراق بالأحلاف المشبوهة وتكريسه للقيم العشائرية والمذهبية.

في منتصف القرن العشرين تم تحرير الكثير من البلدان العربية والاجنبية، افريقية وآسيوية، من الاستعمارين الانكليزي والفرنسي وأعتبر استقلال هذه البلدان اعيادا وطنية تحتفل بها شعوبها الا في العراق فان هذا الاستقلال شكل نقمة عند الكثيرين وراحوا يصبون جام غضبهم على قائد الثورة عبد الكريم قاسم وعُدت مثالبه و( جرائمه ) لطخة عار في جبينه وفي سجل الثورة، وبقي الماضي عندهم افضل من الحاضر وحاول الكثير منهم وضع العقبات وخلق المشاكل حتى يثبتوا صحة آرائهم من ان الماضي الملكي لو بقي وامتد الى الحاضر افضل من قيام ثورة من قبل مواطن عراقي، صفاته بشرية وليس من احفاد الامام المنتظر، معروفة نتائجها مسبقا مزيدا من الويلات وانهارا من الدماء..عينا العراقي ترنوان الى البعيد وليس الى ما حولها ولذا بقي قرونا طويلة منتظرا البشرى على يد منقذ يختلط فيه البشري بالالهي. طبعا الروح الثورية عند العراقي تفوق ثورية اي مواطن آخر في العالم، لكن هذه الثورية مكبلة بعقائد تحد من حركته وتبعث فيه، احيانا كثيرة، الخمول واللاجدوى وهذا ما كشفه تاريخ العراق منذ العصر العباسي وبعدها سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258 ميلادية وتتابع الغزوات والاحتلالات من اقوام غريبة ، المغول والقره قوينلو والاق قوينلو والمماليك والفرس والعثمانيين، حتى جاء الاحتلال الانكليزي عام 1914 واستمر لغاية عام 1958 ..لقد رافق الاحتلال الانكليزي نمو وعي وطني من نوع جديد سببه انفتاح العراقيين على ثقافات العالم وافكارها وفُتحت المدارس بعد ان كان التعليم محرما على العراقيين بحجة افساده للدين والاخلاق. لقد ظهرت الى الوجود نخبة من المثقفين الذين اشاعوا مفاهيم الاشتراكية والشيوعية والمدنية والديمقراطية والعلمانية والقومية وابتدأ الضباب ينقشع من انظار وعقول العراقيين ولا يُنسى دور الرجال الاوائل الذين ساهموا لوضع اللبنة الاولى لبناء هذا المجتمع ومنهم حسين الرحال الذي كان اول من ادخل الفكر الاشتراكي الى العراق وجماعته، الكاتب محمود احمد السيد، عبد الفتاح ابراهيم، امينة الرحال ، عاصم فليح، عبد القادر اسماعيل وغيرهم العشرات من الرجال الافذاذ، هؤلاء أسسوا لحياة مدنية ولحياة جديدة ونمط تفكير جديد لم يألفه العراقيون في السابق، واستمر نضال هؤلاء ومعهم الشعراء والفنانون وشغيلة اليد والفكر في صراعهم من اجل شيوع مفاهيم الحياة الجديدة، ولم يكن للنظام الملكي دور في نشأة واحتضان هذه العقول ، بل العكس وقف ضد تطلعاتهم بحياة حرة كريمة ولاحقهم واعدم قياداتهم السياسية وقد وجد هذا النظام الدعم من قبل البعض من شيوخ العشائر والمؤسسات الدينية والقوى العميلة من أجل وقف زحف هذه الافكار التحريضية الى عقول الناس وازاحة الأوهام والخرافات المعشعشة فيها .وكان من نتيجة هذا الصراع الفكري بين قيم الماضي والرغبة في التحديث والتحرر ان ظهر الضباط الاحرار، عبد الكريم قاسم وجماعته، والاحزاب السياسية بكل اطيافها الفكرية اليسارية والقومية وشكلوا جبهة وطنية، جبهة الاتحاد الوطني، عام 1957 واتفقوا على تغيير النظام الملكي الى نظام جمهوري يوفر العدالة الاجتماعية وكانت المبادرة بيد الزعيم عبد الكريم قاسم ليزحف هو وجماعته الى بغداد ويسقط العائلة الحاكمة ويعلن انبثاق الجمهورية..اخطاء ثورة 14تموز كثيرة والمتربصون بها، داخليا وخارجيا اكثر، وبقي الحلف الاستعماري واذنابه مراهنين على اسقاط هذا النظام ووضعوا أمامه العراقيل وحيكت الدسائس والمؤامرات وتأججت الصراعات الفكرية بالاضافة الى طفولة خبرة اكثر قادة الدولة في كيفية بنائها ومحاولة الانفراد بها عند البعض منهم وخاصة عند قائد الثورة ودخول المؤسسات الدينية والعشائريةوتصدرهم الواجهة السياسيةالتي عملت بكل ثقلها وتأثيرها في المجتمع من اجل اسقاط هذا النظام الكافر واعادة البلد الى حضيرة التبعية للبلدان العربية والاجنبية والارتباط ثانية بالركب الاستعماري..الامريكان اسقطوا نظام صدام الدكتاتوري الظالم واستبدلوه بنظام ( ديمقراطي ) مهلهل عاثت فيه قوى الاسلام السياسي الدمار والطائفية والخراب واللصوصية . قامت ثورة تشرين العظيمة عام 2019 وضمت كل الشباب العراقي، رجالا ونساء، من ابناء الوسط والجنوبوحاولت حد هذه اللحظة، اسقاط هذا النظام التوافقي الفاسد سلميا لكن هناك من اشاع بعدم جدية هذه الثورة وانها لن تحقق شيئا مادام منفذها عراقيون بشر وتفتقد للمنقذ الملهم وانها، حسب رأيهم، ستأتي ايضا بالخراب والدمار كما حصل في ثورة 14 تموز عام 1958. عينا العراقي مازالت ترقب ظهور المنقذ، يأتي من هناك ولا ينبعث من النفس العراقية، من خارج أطر العقل البشري ومن وراء حدود الممكن ليأتي كي يضع النقاط على الحروف وينشأ نظاما كونيا عادلا..انها ترنيمة للسكون والانغلاق على الذات وسماء من الدعاء والرجاء تمطر مزيدا من الفواجع والنكبات التي ينتظرها المجتمع..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top