كــورونـا ذات الــزمــــان.. القسم الثاني

آراء وأفكار 2021/07/26 10:14:44 م

كــورونـا ذات الــزمــــان.. القسم الثاني

 زهير الجزائري

جيل

في داخلنا شئ لا اسم له، هو ما نحن عليه. أنظر لاصدقائي وافكر بهم كبديهية حاضرة يومياً، حاضرون هنا ويتحركون مع الزمن. أعرف ما هم عليه، وما سيفعلونه الآن. مع تكاثر الموتى صرت أرق معهم، أنظر في عيونهم لأعرف ما هم عليه.

ما خلف صمتهم وما وراء كلماتهم. أكتشف وبدهشة أموراً لم أعرفها من قبل. خوفهم يدفعهم للبوح أو ضعفهم يعيق قدرتهم على الإخفاء. أحاديثنا تغيرت موضوعاً وسرعة نبرة. الحب و الجنس، لا أقدم أحدهما على الآخر، متوهماً أو معاشا، شغلا شبابنا قبل الثقافة، الثقافة كلاماً شغلت اكثر من نصف عمرنا، واحتلت السياسة الباقي. بعد السبعين صارت الأمراض والمستشفيات والأطباء والأدوية مفتتح الحديث وخاتمته. شرارة الحديث هي السؤال الذي لا معنى له ويشمل الكل ( شلونك؟). بالتفصيل والدقة نتحدث عن الذات وقد حل الجسد محل النفس. الآلام والأدوية تجرنا نحو هذا الجسد الذي نجره معنا وصار شاغلنا. فجاة يقطع هذا الحديث أحدنا:

-رجاء غيّيروا هذا الموضوع الكئيب!

نؤيده ونفعل، ثم لا نعرف كيف يتسلل الموضوع للصدارة.

أشياء كثيرة فاتتنا.أن نجلس كمجموعة ونتبادل شهاداتنا على زماننا الذي فات.أن نصمت لحظات لنسمع انفاس بعضنا. أن نذهب أفراداً كما في بلادنا لنلتقي جماعة في الحانة. أن نبكي معاً مع أغنية نحبها.

العزلة بسبب الوباء ايقضت مخاوفنا الدفينة.الخوف من موت قريب. كل أصدقائي تجاوزوا السبعين. اخبار الموت أول ما تأتينا حين نفتح الفيس بوك. موت المعارف.والموت على كثرته وتدفقه يبقى مفاجأة، خاصة موت الأصدقاء الفاجع.أسمع خفقات جناحه في الهواء تمس دائرة الأمان التي نتوهم أننا فيها. يتقلص أبناء جيلي بسرعة. سبعة من أقرب أصدقائي رحلوا تباعا بسبب السرطان، وثلاثة منهم يصارعونه وواحد يتوهمه. فجأة اتذكر وأنا اكتب بأن الشهود قلّوا وصاروا على عدد أصابع اليد، لذلك اتصل بالمتبقي واجمعهم حولي بحرص.الكورونا تجرف المتبقين.

المتبقون يشكون من وحدتهم، من تفاقم أمراضهم الحقيقية أو المتوهمة..هذا يفرض علي التزاما يقيدني بهم. يوسف يزداد يقينا بأنه مصاب بالسرطان. يقينه يتعزز كلما نفى الطبيب ذلك."أحسه داخلي، ياكلني بلا توقف". يأتيني وأنا نائم ليقول لي:"هاك اسمع قلبي ينبض كالطبل! تلمس العرق على جبهتي! سأموت بعد قليل". ماذا قال لك الطيب؟ أساله، "الفحص اثبت إنني سالم". إذن؟ "كيف لي أن أقتنع بما قاله وأنا أحسه في داخلي".

فاطمه تتلفن لي لتقول لي {سأموت غداً).لا أدري لم ليس اليوم. أواعدها في المقهي فتقبل الموعد معي وتنسى موعدها الآخر مع الموت. في الموعد نلتقي و تبتسم. مازلت حية! مخاوف أصدقائي تتسلل إلي. بين الخوف من المسؤلية والخوف من انقطاع العلاقة، أشعر إني مقيد أريد الناس ولكن دون التزامات أعجز عن تامينها.

كل أصدقائي يشكون من أن الأطباء يرفضون معاينتهم، مشغولون بالوباء الشامل الذي مسّ الأطباء انفسهم. في التلفزيون رأيت صورة الطبيب المفزعة في مرحلة ما بعد الكورونا: مغلف كله، من صماخه حتى اسفل قدميه بالبلاستيك.لا شكل له ولا ملامح إنسانية. ومع ذلك علينا أن نتعامل مع هذا الكائن الخرافي كبطل في (الجبهة الأمامية) بمواجهة المرض. أنا نفسي شعرت بمغص شديد، وعلى خلاف فاطمة وعدت نفسي( سأموت الآن) اتصلت بالعيادة. لم ترد السكرتيرة. الكلمات صارت موبوءة. رد علي تسجيل صوتي معمّم للكل، أي للا أحد، يحذرنا من الذهاب المباشر للعيادة كمكان اتصال بين المريض والطبيب.

"سيتصل بك الطبيب". الطبيب هو الصديق الحميم الذي يعرف أسرارنا العاطفية ويخبرنا عما نجهله فينا. جاءه عبد (الحليم حافظ) قلقاً يشكو من زيادة دقتين في قلبه، فطمأنه" دا رمش عين".. هذه العلاقة الحميمة بين الطبيب والمريض التغت بسبب الوباء. أحدهما سيكون معدياً للآخر.

العلاقة بين المريض والطبيب لها تاريخ وأغان تقوم على الاتصال المباشر يجسدها المرحوم (صاحب شرّاد) ليعلمه ما يفعل"جس النبض زين، شوف الألم وين!" الميانة بسبب العلاقة الطويلة حولت طلب المريض إلى فعل أمر (جسّ! شوف!) مع إعادة للتأكيد.هذه الصلة الحميمة باستخدام اللمس والنظر التغت بسبب الوباء. لن ير الطبيب شحوب وجهي ولن يجس نبضي أو يقيس حرارتي وضغطي سيعتمد الحديث، ولكن من بعيد ليقول لي النتيجة ويصف لي الدواء. كيف أثق به؟

لم تعد لدى الأطباء تلك الثقة التي نبجلها فيهم، والثقة بمعارفهم وبالعلم، هذه الثقة التي تكونت من خلال الاتصال المباشر.

في أول الأيام، وقبل أن تتحول الكورونا من إشاعة الى وباء ، وقبل أن تعلن الأمم المتحدة عالمية الوباء اختار زيدون وابنتي ميس حفل زواجهما. كان عرسا بهيجاً عن حق، ابتكرت فقراته الروح الحرّة الميالة للفرح عند آل مشتت. خلال بهجة الفرح والرقص تسلل الى القاعة شئ غير مرئي. تسلل مثل خيط دخان بين أجساد الراقصين وهي تتلوى، مع إيقاع الموسيقى ومع آهات المتحسرين على ضياع فرصة الزواج،. كيف اختار ضحاياه؟ لا يعلم إلا الله. تجاوزني بسبب ضعف شخصيتي. هذا المتسلل كان العصيّات الأولى للوباء. نصف الحاضرين اصيبوا باعراض الوباء: إنفلونزا حادة، ارتفاع حاد بدرجات الحرارة، حمى وحالات اختناق… لم يكن الوباء قد أعلن بعد. حين أعلن تذكرنا إنه خدعنا وسط بهجة الفرح الصاخب. وكان هذا آخر تجمع لنا.

أعمال منزلية

كم يوم؟ لم أحسب.الكورونا غيرت حياتنا و نمط تفكيرنا.لم يعد لدي شغف بما هو خارج المألوف. أنا متطابق تماما مع شقة بغرفتين. ماعاد عندي(هناك)، بل (هنا) فقط.

أعلم نفسي على النسيان. نسيان وجود عوالم أخرى غير هذه الشقة الضيقة التي أدور فيها. أفكر بالأشياء الممكنة وأنكر المستحيلات.الكورونا حولت الأشياء البسيطة إلى مستحيلات، ومنها الجلوس في مقهى وركوب باص. أمنّي نفسي بما قاله هاملت"تستطيع أن تحبسني في قشر جوزة، مع ذلك أرى الرحاب جميعاً".

المنزل صار مجال حركتي الوحيد، أنا خاضع له واتكيف وفقه. أتفحص الأجزاء المنسية منه وأزيل الغبار من زواياه.تحسنت مهاراتي في الطبخ واكتشفت وانا أغسل الصحون أن مهارات اليدين تعمل بمعزل عن أفكار الرأس. أدقق في اللوحات التي لم أعد أراها لكثرة ما رأيتها وهي معلقة في جدران شقتي . أكوي ملابسي بالجملة، بما في ذلك التي لن ألبسها، وأفكر في نفس الوقت باللون الأزرق الذي يخترق النص الذي أكتبه.

أفتح عيني دون أنظر في الوقت. لم يعد للوقت أهمية في حياة مستعادة. أزيح من أمامي كل ما هو باهر لأدخل حياة عاديّة جداً. لم أعد أفكر بمعجزات سأحققها في حياتي على هذه الأرض، المعجزة الوحيدة هي الاستمرار في العيش.. أول ما أفكر فيه حين أصحو: بماذا سأفطر؟ أفكر بالبيض وهو يقلي في المقلات، بالبصل المثروم، وقطع الباذنجان المقلية من البارحة، بالقهوة التي سأبدأ بها يومي.

أطابق نفسي تماما مع أم بيت عملية تعرف بحكم العادة ما عليها ان تفعله ولا حاجة لأن تسأل : كيف ؟ تعرف ذلك بالسليقة. أدّعي هذه المعرفة واتصرف وفقها، ثم أكتشف، ويا للغرابة، إني أسفح كثيراً من الماء حولي لأغسل صحناً واحداً.

أوضّب السرير بدقة عامل في فندق، أمسح من المغسلة آخر قطرة ماء عالقة، أمسح بقع الزيت. الانهماك بالأمور البسيطة العادية يأخذني بعيداً عن الكتب.أرى نفسي وأنا أقوم بهذه الأعمال غاية في الجدية استعداداً لضيوف لن يأتوا . أقوم بكل ذلك بهمّة شيخ وحيد يدبّ في البيت خائفاً من العثرات، شديد التمسك بعاداته الثابتة، وبثبات الأشياء حوله حتى لا ينساها. لن يحتاج للتذكر والبحث، يمد يده فيجد السكين في مكانها المحدد. حين أجلس وحدي الى مائدة الطعام أتصرف تماما كشيخ كيّس يأكل في مكان عام..أرتب مائدتي بدقة وبطء. أضع الملعقة ومنديل التنشيف وأقول لنفسي (هنيئاً) وآكل بتركيز، كأنه أمر يحتاج لعناية فائقة لأن عليّ أن أنحني إذا سقطت فتات خبز. صعب على شيخ مثلي تيبست عضلات ظهره التقاطها من الارض.

أرى هذا الشيخ وأضحك منه: كبرت! كل ما تملكه يعلوه غبار الزمن، لن يحتاجه أحد بعدك. سيحير أولادك، ماذا سيفعلون بكل هذه التركة الثقيلة. أتخيل ابني واقفا بحيرة أمام رفوف الكتب ويطرح على نفسه السؤال إياه: شيلمهن!؟

ما إن يحل المساء حتى أهيئ نفسي للراحة ولا اعرف ماذا فعلت طوال اليوم. أهيئ نفسي وصحن المزة والكأس واجلس أمام التلفزيون. في الثلث الاول من الفلم أدخل منتصف النوم.…ستارة ثقيلة رمادية تنزل على بصري وعقلي. أقاومها بوعي عصبي وأنا انتظر المشهد المثير الذي سيخرجني من هذا النعاس الثقيل. تهبط على عنادي: آن لك أن تغادر هذا الوعي الشقي!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top